بداية الوصول في شرح كفاية الأصول المجلد 3

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: آل شیخ راضی، محمد طاهر، 1904 - م.

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: بداية الوصول في شرح كفاية الأصول/ تالیف محمد طاهر آل الشیخ راضی (قدس سره)؛ اشرف علي طبعه و تصحیحة محمد عبدالحکیم الموسوي البکاء.

تفاصيل النشر: تهران: دارالهدی، 14 ق. = 20م. = -13.

مواصفات المظهر: ج.

شابک : دوره 964-497-056-X : ؛ ج. 4 964-497-060-8 : ؛ ج.5، چاپ دوم 964-497-061-6 : ؛ ج. 7، چاپ دوم 964-497-063-2 : ؛ ج.8، چاپ دوم 964-497-064-0 :

يادداشت : الفهرسة على أساس المجلد الرابع، 1426ق. = 2005م. = 1384.

لسان : العربية.

ملحوظة : الكتاب الحالي هو وصف "کفایة الاصول" آخوند الخراساني يكون.

ملحوظة : چاپ دوم.

ملحوظة : ج.5، 7 و 8 (چاپ دوم: 1426ق. = 2005م.= 1384).

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: موسوی بکاء، محمدعبدالحکیم

معرف المضافة: آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/8/آ3ک 70212 1300ی الف

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 2954810

اشارة

المقصد الثاني في النواهي فصل الظاهر أن النهي بمادته و صيغته في الدلالة على الطلب، مثل الامر بمادته و صيغته، غير أن متعلق الطلب في أحدهما الوجود، و في الآخر العدم، فيعتبر فيه ما استظهرنا اعتباره فيه بلا تفاوت أصلا (1)، نعم يختص

______________________________

(1)

المقصد الثاني في النواهي

معنى النهي مادة و صيغة

لا يخفى ان المراد من مادة النهي هو لفظ النهي، و المراد من صيغة النهي هي لا تفعل او ما ادى مؤداها، و النهي بمادته و صيغته و الامر بمادته و هو لفظ الامر و صيغته كافعل متوافقان في ان كلا منهما يدل على الطلب، فكما ان مادة الامر تدل على الطلب فكذا مادة النهي تدل عليه، و كما ان صيغة الامر تدل على الطلب كذلك صيغة النهي تدل عليه سوى ان المتعلق للطلب في الامر بمادته و صيغته هو الوجود، فمادة الامر تدل على طلب الوجود و صيغته تدل عليه، و متعلق الطلب في النهي بمادته و صيغته هو العدم.

و لا يخفى انه قد تقدم في اول مبحث الاوامر ان لفظ الامر مشترك بين الطلب و معان او معنى آخر كالشان و الفعل و غيرهما كما مر بيانه في مبحث الاوامر.

و المراد اتحاده مع مادة النهي هو اتحاده باحد معانيه و هو الطلب، و ليس مادة النهي كمادة الامر مشتركة بين الطلب و غيره، فالاشتراك بين الطلب و غيره مما يختص بمادة الامر دون مادة النهي: أي ان لفظ امر مشترك و لفظ نهي غير مشترك، و الاتحاد بين مادة الامر و مادة النهي هو في خصوص الطلب و ان الامر طلب الوجود و النهي طلب العدم.

و على كل فقد تقدم ايضا في الاوامر انه يعتبر في معنى الامر بمعنى الطلب العلو و انه يدل على الوجوب، و مثله الحال في مادة النهي فانه يعتبر فيها العلو و انها تدل على الالزام.

ص: 1

النهي بخلاف، و هو: أن متعلق الطلب فيه، هل هو الكف، أو مجرد الترك و أن لا يفعل و الظاهر هو الثاني (1)، و توهم أن الترك و مجرد أن

______________________________

و قد تقدم ايضا ان المنساق من لفظ الامر هو الطلب بوجوده الانشائي، و كذلك المنساق من لفظ النهي هو الطلب بوجوده الانشائي، و كل ما دلت عليه صيغة افعل انشاء من طلب او وجوب او غير ذلك فصيغة النهي تدل عليه ايضا، سوى انه لم يوجد قائل بدلالة صيغة النهي على المرة كما كان قائل في دلالة صيغة الامر على المرة.

و اما لو قلنا بان متعلق النهي كالامر هو الطبيعة فهل النهي كالامر في الاكتفاء بامتثاله بالمرة ام لا؟ و سيأتي التنبيه على ذلك.

و على كل فمن هذه الجهات الامر و النهي و صيغتاهما متوافقان و لا اختلاف بينهما إلّا ان متعلق الطلب في الامر و صيغته هو وجود متعلقهما و في النهي و صيغته متعلق الطلب عدم الوجود، و قد اشار إلى ما ذكرنا بقوله: ( (الظاهر ان النهي بمادته و صيغته في الدلالة على الطلب مثل الامر بمادته و صيغته غير ان متعلق الطلب في احدهما)): أي في الامر بمادته و صيغته ( (الوجود و في الآخر)): أي في النهي بمادته و صيغته ( (العدم)) و قد اشار إلى ان ما يعتبر في الامر مادة و صيغة معتبر في النهي كذلك مادة و صيغة من العلو و الوجوب و غير ذلك بقوله: ( (فيعتبر فيه)): أي في النهي ( (ما استظهرنا اعتباره فيه)): أي في الامر مادة و صيغة.

(1) قد ذكرنا ان مثل الاشتراك في مادة الامر بين معنيين أو اكثر يختص به مادة الامر دون مادة النهي، و وجود القائل بدلالة نفس صيغة الامر على المرة مما تختص به صيغة الامر دون صيغة النهي، و قد اشار الى ان ما يختص به النهي دون الامر هو الخلاف الواقع في صيغة النهي دون الامر، و هو متعلق الطلب فيها هل هو مجرد الترك و عدم الفعل او هو الكف و هو المعنى الوجودي الحاصل للنفس من الممانعة عن

ص: 2

لا يفعل خارج عن تحت الاختيار، فلا يصح أن يتعلق به البعث و الطلب، فاسد، فإن الترك أيضا يكون مقدورا، و إلا لما كان الفعل مقدورا و صادرا بالارادة و الاختيار، و كون العدم الازلي لا بالاختيار،

______________________________

ميلها الى الوجود، بخلاف الامر فان كون المتعلق للطلب فيه هو وجود الفعل و ايجاده موضع وفاق.

و لا يخفى ان مادة النهي تابعة لهذا الخلاف لأن المنصرف من لفظ النهي أو الموضوع له فيه هو ما أنشئ بالصيغة، فان قلنا ان ما ينشأ بصيغة النهي هو طلب الترك و عدم الفعل كان المراد من مادة النهي هو هذا الانشاء، و ان قلنا ان ما ينشا بالصيغة هو طلب الكف كان المراد من مادة النهي هو انشاء طلب الكف.

و المختار للمصنف ان ما ينشأ بالصيغة هو طلب مجرد الترك و ان لا يفعل دون طلب الكف، و اليه اشار بقوله: ( (الظاهر هو الثاني)) لان الثاني في مساق عبارته هو مجرد الترك و ان لا يفعل. و لعل سبب استظهاره ذلك هو ان الصيغة مركبة من هيئة و مادة، و المادة هي الفعل و الهيئة دالة على طلب مجرد ترك الفعل و لا يستفاد منها غير ذلك، فلا دلالة فيها على ذلك المعنى المدعى و هو كف النفس عن ميلها، مضافا الى ما ذكروه في بعض المطولات من انه لا يعقل ان يكون المراد بصيغة النهي هو طلب الكف، اذ المراد من الكف- كما مر- هو ردع النفس عن ميلها إلى الفعل، فيلزم على هذا ان يكون المكلف الذي ليس له ميل إلى الفعل ان لا يكون منهيا و غير متوجه اليه النهي، لانه اذا كان لا يمكن ان يحصل له ميل فطلب الردع عن الميل طلب المستحيل، و اذا كان مما يمكن ان يحصل له ميل فيجب على المكلف تحصيل الميل ليتمكن من امتثال النهي، و من البعيد جدا ان يلتزم بانه يجب على المكلف الميل ليقدر على الامتثال، و حينئذ فينحصر على القول بطلب الكف في النهي اختصاص النهي بخصوص من له الميل الى الفعل و هذا ايضا من المستبعد جدا.

ص: 3

لا يوجب أن يكون كذلك بحسب البقاء و الاستمرار الذي يكون بحسبه محلا للتكليف (1).

______________________________

(1) هذا اشارة الى البرهان الذي اقامه مدعي ان النهي هو طلب الكف لا مجرد ان لا يفعل.

و حاصله: ان عدم الفعل غير مقدور، و يشترط في الامر و النهي ان يكونا متعلقين بما هو مقدور، و الدليل على ان العدم غير مقدور امور ثلاثة:

الأول: ان العدم نفي محض لا محل لتاثير القدرة فيه، اذ العدم لا شي ء و متعلق القدرة لا بد و ان يكون شيئا.

و الجواب عنه: ان القدرة على ما عرفوها هي كون الشخص ان شاء فعل و ان لم يشأ لم يفعل، فالقادر هو الذي يستطيع ان يشاء و ان لا يشاء، فالفعل وجوده تحت القدرة لانه يستطيع وجوده فيفعله و عدمه تحت القدرة ايضا لانه لما كان يستطيع أن يشاء فيفعل كان نقض العدم و تبديله بالوجود تحت قدرته و هذا المقدار كاف في نسبة القدرة الى العدم و انه من المقدور لا من غير المقدور، فهو يستطيع ان لا يفعل بالمعنى الذي ذكرناه مضافا الى انه لو لم يكن عدم الفعل تحت قدرة الشخص لكان وجوده ضروري التحقق من الشخص فلا يكون فعله مقدورا ايضا.

و الحاصل: ان الفعل اذا كان غير مقدور فالعدم غير مقدور لعدم القدرة على نقضه، و اذا كان الفعل ضروري التحقق من غير اختيار للشخص فيه كحركة المرتعش فالعدم غير مقدور و هو واضح، و الفعل ايضا غير مقدور لانه لم يكن الشخص بالنسبة اليه بحيث ان شاء فعل، و اذا كان الفعل مقدورا للشخص بحيث ان شاء فعل كان العدم مقدورا ايضا لاستطاعة نقضه و تبديله، و الى هذا الجواب اشار بقوله: ( (فان الترك ايضا يكون مقدورا و إلّا لما كان الفعل مقدورا)) و حاصله: انه ليس معنى القدرة التأثير حتى تختص بالوجود، بل القدرة هي الاستطاعة و ليس لازم الاستطاعة التأثير في الوجود و العدم.

ص: 4

.....

______________________________

الثاني: ان العدم سابق على النهي فمتعلق النهي لا بد و ان يكون متاخرا عنه، اذ لا يعقل تاثير المتاخر فيما تقدم عليه لانه من تحصيل الحاصل.

و الجواب عنه: ان متعلق النهي ليس هو العدم السابق على النهي بل العدم المتاخر عن النهي، فان العدم مستمر مع الزمان فما مع الزمان المتقدم متقدم و ما مع الزمان المتاخر متاخر و ليس من تحصيل الحاصل، لأن السابق هو نفس العدم و المتأخر هو ابقاء العدم و استمراره.

الثالث: ان العدم ازلي لانه لا شي ء، و لا شيئية اللاشي ء ذاتية للاشي ء و الذاتيات لا تحتاج الى علة و لا بد في المطلوب من المكلف اختياره هو العلة له فلذلك كان العدم لا يتعلق به الاختيار، و قد اشار الى هذا بقوله: ( (و كون العدم الازلي لا بالاختيار)).

و الجواب عنه: ان ازلية العدم لا تحتاج الى علة في عالم الازل و لكن بقاءه و استمراره ليس كذلك، لانه يمكن ان ينقلب العدم بقاء الى الوجود، فاستمرار العدم بقاء بان لا ينقلب الى الوجود انما هو لان الشخص بيده ابقاؤه على عدميته و بيده قلبه الى الوجود، فاستمرار العدم مما تتعلق به قدرة المكلف بالمعنى المتقدم و كلما تتعلق به القدرة فهو اختياري، و اذا كان اختياريا كان متعلقا للتكاليف، و الى هذا اشار بقوله: ( (لا يوجب ان يكون)) كذلك ( (بحسب البقاء و الاستمرار)): أي كون العدم ازليا في عالم ازليته لا يوجب ان يكون ازليا في عالم بقائه و استمراره لإمكان ان يكون ازليا في عالم الازل حيث انه لا يحتاج الى العلة ازلا، و لكن بقاؤه و استمراره حيث انه يمكن ان ينقلب الى الوجود بقاء فاستمراره منوط بان لا يقلبه احد الى الوجود، فالشخص المقتدر على قلبه الى الوجود يكون امر هذا العدم بيده و تحت اختياره ان شاء و اراد قلبه انقلب و ان لم يرد ان يقلبه لا ينقلب، و التكاليف لا تحتاج اختياريتها التي هي الشرط فيها إلى اكثر من ذلك، فمتعلق الطلب في النهي هو ابقاء العدم و استمراره، و حيث كان الابقاء و الاستمرار للعدم تحت اختيار

ص: 5

.....

______________________________

المكلف كان هذا هو ( (الذي يكون بحسبه)) العدم ( (محلا للتكليف)) هذا على ما هو الظاهر من المصنف.

و يمكن ان يجاب مع تسليم ان القدرة لا تتعلق بالعدم بذاته على ما يظهر من كلمات اهل المعقول، فانهم يقولون ان العدم غير محتاج إلى علّة، و مضمون ما يقولون في مقام تعريف القدرة النفسانية انها: هي قوة النفس على الارادة و ساير افعال النفس، و القدرة الجسمانية: هي القوة المنبثة في العضلات التي بواسطتها تتحرك العضلات الى ما تتوجه اليه.

و من الواضح ان العدم مما لا تتحرك له العضلات مضافا الى كلامهم الاول ان العدم غير محتاج إلى العلّة يظهر جليّا ان العدم لا تتعلق القدرة به بنفسه، و لكن هذا لا ينافي ما يحتاج اليه التكليف، لأن وجود الفعل حيث كان مما تتعلق به القدرة فانه مما تتحرك له العضلات و اذا شاء الشخص ان يفعله فعله فوجود الفعل تحت القدرة، و اذا لم يرد ان يفعله لو يحصل الوجود و يبقى عدمه على حاله، فالعدم و ان لم يكن متعلقا للقدرة بذاته إلّا انه حيث كان قلبه إلى الوجود تحت القدرة فيكون ابقاؤه و استمراره بيد المكلف، فهو كالمقدور بالواسطة بسبب القدرة على نقيضه الذي به يتبدل العدم و يقوم الوجود بدلا عنه و هذا المقدار كاف في صحة التكليف به، فان صحة التكليف لا تناط بما لا بد ان يكون هو متعلق حركة العضلات بل هي منوطة بما يكون وضعه بيده كالوجود بان يقدر عليه بتحريك عضلاته اليه، و بما كان إبقاؤه و استمراره بيده كالعدم بواسطة ان نقيضه و هو الوجود بيده، فالعدم كالمقدور مع الواسطة و الوجود متعلق لها بلا واسطة و هذا المقدار كاف في صحة التكاليف و كونها اختيارية.

ص: 6

ثم إنه لا دلالة لصيغته على الدوام و التكرار، كما لا دلالة لصيغة الامر (1) و إن كان قضيتهما عقلا تختلف و لو مع وحدة متعلقهما، بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها و قيدها تعلق بها الامر مرة و النهي أخرى (2)،

______________________________

(1)

عدم دلالة النهي على التكرار

قد عرفت فيما تقدم انه لم نظفر بمن قال: ان صيغة النهي تدل على المرة، و انما الكلام في دلالتها على التكرار بان يكون التكرار جزء ما يدل عليه النهي، أو ان التكرار مستفاد من قرينة خارجة عن مدلول اللفظ في النهي.

و حيث ان صيغة النهي مركبة من هيئة و مادة و مدلول المادة هو الماهية و الطبيعة من دون تقيدها بشي ء و مدلول الهيئة هو النهي عن هذه الطبيعة- فلا يكون التكرار مما يدل عليه اللفظ اذ ليس هو بعض مدلول المادة و لا الهيئة.

كما انه قد عرفت الحال في عدم دلالة صيغة الامر عليه، و الى هذا اشار بقوله:

( (ثم انه لا دلالة لصيغته)): أي لصيغة النهي ( (على الدوام و التكرار كما لا دلالة لصيغة الامر عليه)).

(2) توضيحه ان النهي في مرحلة الثبوت اما ان يتعلق بعدم الماهية بنحو الاهمال و المهملة في قوة الجزئية فيكفي في الامتثال تحقق فرد للعدم و لو آناً ما، و اما ان يتعلق بعدم الماهية بحيث لا يشذ عنه عدم فلا يحصل الامتثال الا بعدم جميع هذه الماهية الدفعية من افراد هذا العدم و التدريجية منها، فيجب ترك الخمر- مثلا- في أي مكان و اي زمان، هذا في مرحلة الثبوت.

و اما في مرحلة الاثبات فحيث كان الامر و النهي تابعين للمصلحة فيه و للمفسدة فيختلف حال متعلق الامر و النهي اذا كان المولى في مقام البيان، فبواسطة الاطلاق في مقام الامر يكتفى بايجاد الطبيعة مرة واحدة، لانه بمحض ايجادها مرة واحدة تتحقق الطبيعة الحاملة للمصلحة الداعية الى الامر بايجاد هذه الطبيعة، فكون هذه الطبيعة قد تعلق الطلب بها بنحو التكرار يحتاج إلى قرينة، و حيث ان المفروض انتفاء القرينة

ص: 7

.....

______________________________

فالاطلاق يقتضي الاكتفاء بالمرة، و في مقام النهي حيث انه تابع للمفسدة في هذه الطبيعة فالنهي ببركة مقدمات الحكمة يدل على ان ذات هذه الطبيعة غير المقيدة بشي ء فيه المفسدة، ففي أي فرد من افراد الطبيعة تحققت الطبيعة تحققت المفسدة، و لا يتخلص من هذه المفسدة إلّا بترك جميع افراد هذه الطبيعة، و حيث كان المولى في مقام البيان و لم يقيد هذه الطبيعة بمكان خاص أو زمان خاص فيستكشف من عدم تقييده في مقام البيان ان نفس ذات هذه الطبيعة هو متعلق النهي، فالعقل يحكم بان ترك هذه الطبيعة التي تعلق النهي بنفس ذاتها لا يحصل إلّا بترك هذه الطبيعة بجميع افرادها الدفعية و التدريجية، و قد اشار إلى هذا الاختلاف بين صيغتي الامر و النهي بقوله: ( (و ان كان قضيتهما عقلا)): أي قضية الامر و النهي عقلا ( (تختلف و لو مع وحدة متعلقهما بان يكون طبيعة واحدة بذاتها و قيدها تعلق بها الامر مرة و النهي اخرى ضرورة)).

قوله: ( (ضرورة)) للاشارة الى سبب اختلافهما من ان العقل يحكم بالفرق بينهما و ان وجود الطبيعة يتحقق بوجود فرد من افرادها و عدم الطبيعة لا يتحقق إلّا بعدم جميع افرادها، إلّا انه لا يخفى ان العقل لا يحكم بهذا الفرق إلّا اذا كان متعلق النهي في مرحلة الواقع هو عدم الطبيعة بحيث لا يشذ عنه عدم.

و اما لو كان متعلق الطبيعة واقعا هو عدم الطبيعة بنحو الاهمال فلا يحكم بذلك، لأن المهملة في قوة الجزئية، و قد اشار الى ان الدوام و الاستمرار في ترك الطبيعة يستفاد من الاطلاق و في مرحلة الاثبات بقوله: ( (اذا كان متعلقه طبيعة مطلقة)): أي انه اذا كان متعلق النهي هو الطبيعة المطلقة يستفاد ان الدوام و الاستمرار مطلوب في ترك الطبيعة.

و من الواضح: ان هذه الاستفادة انما هي ببركة الاطلاق في مرحلة الاثبات فالاطلاق يثبت ان متعلق النهي هو الطبيعة المطلقة غير المقيدة بزمان أو حال من الاحوال، و العقل يحكم ان الطبيعة التي دل الدليل على الاطلاق فيها لا يحصل

ص: 8

ضرورة أن وجودها يكون بوجود فرد واحد، و عدمها لا يكاد يكون إلا بعدم الجميع، كما لا يخفى.

و من ذلك يظهر أن الدوام و الاستمرار، إنما يكون في النهي إذا كان متعلقه طبيعة مطلقة غير مقيدة بزمان أو حال، فإنه حينئذ لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة معدومة، إلا بعدم جميع أفرادها الدفعية و التدريجية.

و بالجملة قضية النهي، ليس إلا ترك تلك الطبيعة التي تكون متعلقة له، كانت مقيدة أو مطلقة، و قضية تركها عقلا، إنما هو ترك جميع أفرادها.

ثم إنه لا دلالة للنهي على إرادة الترك لو خولف، أو عدم إرادته، بل لا بد في تعيين ذلك من دلالة، و لو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة، و لا يكفي إطلاقها من سائر الجهات، فتدبر جيدا (1).

______________________________

تركها الّا بترك جميع افرادها الدفعية و التدريجية، و الى هذا اشار بقوله: ( (و قضية تركها عقلا انما هو ترك جميع افرادها)).

(1)

اذا عصي النهي فهل تحرم سائر أفراد الطبيعة أم لا؟

توضيحه ان النهي اما ان يتعلق بالطبيعة بنحو الاستغراق بان ينحل الى نواهي عديدة بعدد اعدام الطبيعة، و في مثل هذا لا اشكال انه لو خولف احد افراد الطبيعة فلا يسقط النهي المتعلق ببقية افرادها، اذ لكلّ عدم منها نهي متعلق به لا ربط له بالنهي الآخر، فان قضية الاستغراق لا بد فيها من الانحلال الى نواه متعددة، و لازم الانحلال ان يكون لكل واحد منها اطاعة و عصيان لا ربط له باطاعة الآخر و عصيانه، فلا يكون عصيان واحد منها مستلزما لسقوط النواهي الأخر حتى لا يكون لها اطاعة و عصيان.

و اما اذا كان متعلق النهي هو عدم الطبيعة بنحو الوحدة و لو بحيث لا يشذ عنها عدم الّا ان متعلق النهي واحد و لا بد ان يكون للمتعلق الواحد حكم واحد، فهذا

ص: 9

.....

______________________________

العدم الملحوظ بنحو كونه واحدا و ان كان بحيث انه لا يشذ عنه عدم إلّا انه ليس له إلّا حكم واحد.

و من الواضح: ان الحكم الواحد لو خولف سقط بالمخالفة و العصيان و لا تكون الطبيعة متعلقة للنهي الا بنهي آخر غير هذا النهي الساقط، فلا بد في مقام بقاء النهي- لو خولف- على حاله متعلقا بالطبيعة من دلالة دليل على انه بنحو الاستغراق و لو كان ذلك الدليل هو الاطلاق، اما لو كان لها اطلاق لا يدل إلّا على ان الطبيعة ليست ملحوظة بنحو الاهمال، بل كان عدم الطبيعة ملحوظا بنحو لا يشذ عنه عدم، إلّا انه لا يفيد هذا الاطلاق بهذا المقدار على بقاء النهي لو خولف لانه و ان كان قد تعلق بالطبيعة بنحو ان يكون العدم ملحوظا بنحو لا يشذ عنه عدم، إلّا انه حيث انه له حكم واحد و هو يسقط بالمخالفة فلا يكون هناك دليل على إبقاء العدم لو خولف، و قد اشار الى ما ذكرنا من انه لا بد في بقاء النهي لو خولف من دلالة و لو بالاطلاق على كونه بنحو الاستغراق و الانحلال الى نواه بقوله: ( (بل لا بد في تعيين ذلك من دلالة و لو كان اطلاق المتعلق من هذه الجهة)) و اشار الى ان الاطلاق من ساير الجهات لا يكفي في ذلك كما لو كان له اطلاق من ناحية عدم الاهمال فقط بقوله:

( (و لا يكفي اطلاقها من ساير الجهات)).

و قد ظهر مما ذكرنا: ان نفس النهي المتعلق بالطبيعة لا دلالة فيه على بقائه لو خولف، لما عرفت: من ان الاستغراق أو غيره لا بد و ان يستفاد من دليل يدل عليه، اما نفس صيغة النهي فلا دلالة لها الا على طلب الترك المستفاد من الهيئة و ان متعلقه هو هذه المادة المستفاد ذلك من المادة، و اما ان هذا الطلب المتعلق بترك هذه المادة على أي نحو بحيث يكون باقيا لو خولف أو غير باق فليس ذلك داخلا في مفاد الهيئة و لا في مفاد المادة حتى تكون الصيغة دالة عليه.

بقي شي ء: و هو هل للصيغة الواردة في مقام البيان اطلاق يقتضي كونها بنحو الاستغراق ام لا؟

ص: 10

فصل اختلفوا في جواز اجتماع الامر و النهي في واحد، و امتناعه، على أقوال: ثالثها جوازه عقلا و امتناعه عرفا، و قبل الخوض في المقصود (1)

______________________________

لا يبعد ان يقال: ان اطلاق الصيغة الواردة في مقام البيان يعيّن الاستغراق، فان النهي حيث انه تابع للمفسدة، فلازم كونها متعلقة للنهي ان هذه الطبيعة هي المتحملة بنفسها للمفسدة، و من الواضح: ان كل وجود من وجودات الطبيعة متحمل لطبيعة ذات المفسدة ايضا، و لازم ذلك ان يكون كل وجود من وجودات هذه الطبيعة حيث انه فيه الطبيعة الحاملة للمفسدة ان يكون مطلوب الترك، و معنى ذلك هو انحلال النهي إلى نواه متعددة و لكل واحد منها اطاعة و عصيان، و معنى هذا هو بقاء النهي المتعلق بهذه الطبيعة لو خولف في احد افراده.

(1)

فصل اختلفوا في جواز اجتماع الامر و النهي في واحد، و امتناعه، على أقوال

اشارة

لا يخفى ان هذا الفصل من اهم مسائل هذا المقصد الثاني المختص للبحث عن مسائل النهي، و قد عنونوا المسألة: بانه هل يجوز اجتماع الامر و النهي في واحد ام لا يجوز؟

و الاقوال فيه ثلاثة: جواز الاجتماع عقلا و عرفا، و عدم الجواز عقلا و عرفا، و التفصيل بجوازه عقلا و امتناعه عرفا.

و لا يخفى انه لا بد من انطباق متعلق الامر و النهي على هذا الواحد ظاهرا اذ لو لم ينطبقا عليه فلا شبهة في جوازه، فان الامر باكرام زيد و النهي عن احترام عمر مما لا شبهة فيه، و لكنه اذا انطبقا على شي ء واحد ظاهرا فالقائل بجواز الاجتماع يقول لا مانع من الامر بشي ء بحيث يسع هذا الواحد الذي ينطبق عليه ما تعلق به النهي و يكون هذا الواحد باعتبار انطباق متعلق الامر عليه امتثالا و اطاعة للامر، و باعتبار انطباق متعلق النهي عليه عصيانا للنهي.

و القائل بعدم الجواز يقول بانه يمتنع ان يكون هذا الواحد مما ينطبق عليه الامر و النهي بالفعل، و لا يعقل بقاؤهما على حالهما بحيث يسعان هذا الواحد، و لا بد

ص: 11

يقدم أمور:

الاول: المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين، و مندرجا تحت عنوانين، بأحدهما كان موردا للامر، و بالآخر للنهي، و إن كان كليا مقولا على كثيرين، كالصلاة في المغصوب، و إنما ذكر لاخراج ما إذا تعدد متعلق الامر و النهي و لم يجتمعا وجودا، و لو جمعهما واحد مفهوما، كالسجود للّه تعالى، و السجود للصنم مثلا، لا لاخراج الواحد الجنسي أو النوعي كالحركة و السكون الكليين المعنونين بالصلاتية و الغصبية (1).

______________________________

اما ان لا يكون متعلق الامر بالفعل مما يسعه، أو يكون متعلق النهي بالفعل مما لا يسعه، و لا يعقل ان يكون كلاهما مما يسعاه بالفعل، بل لا بد إما ان يكون الامر مما يسعه بالفعل و لا يسعه النهي بالفعل أو بالعكس.

و مما ذكرنا ظهر: ان المراد من الجواز و عدم الجواز هو الامكان و عدم الامكان.

و القائل بالتفصيل يقول: بانه ممكن عقلا و لكنه ممتنع و غير ممكن عرفا.

(1)

بيان المراد بالواحد الذي تعلق به الامر و النهي

لا يخفى ان الواحد قد يكون جنسيّا كالسجود، و قد يكون نوعيا كنوع السجود المتفصّل بكونه للّه و المتفصّل بكونه لغير اللّه، و قد يكون صنفيّا كالسجود لشكر اللّه و السجود خضوعا له تعالى و كالسجود للصنم أو السجود للنار، و قد يكون شخصيا كالسجود الخارجي للّه.

و لا وجه لاختصاص الواحد الشخصي بالنزاع، لأن موضوع النزاع هو ان الواحد اذا كان مجمعا لمتعلقي الامر و النهي هل يقع به امتثال الامر و عصيان النهي؟

و لازم هذا بقاء كلّ من متعلقي الامر و النهي بحيث يسعان هذا المجمع أو يمتنع ذلك و لا يعقل بقاؤهما كذلك، بل اما ان يبقى احدهما أو يسقطا معا للمعارضة أو المزاحمة على ما سيأتي الاشارة اليه في الامر التاسع.

ص: 12

.....

______________________________

و كما يمكن ان يكون الواحد الشخصي مجمعا لهما كذلك يمكن ان يكون الواحد الجنسي أو النوعي أو الصنفي مجمعا لهما ايضا.

و بعبارة اخرى: انه كما يمكن ان يكون الفرد الواحد الخاص الخارجي مجمعا لمتعلقي الامر و النهي كزيد المجتمع فيه عنوان العالم المطلوب اكرامه و عنوان الفاسق الذي يحرم احترامه، كذلك يمكن ان يكون الكلي الواحد مجمعا للعنوانين، ككلي الركوع الذي هو احد انواع الوضع، فانه يكون بما هو كلي الركوع مجمعا لعنوان الصلاة و عنوان الغصب، فلا وجه لاختصاص النزاع بالواحد الشخصي.

لا يقال: ان الاجتماع في الكلي لو كان موجبا لدخوله في موضوع النزاع لكان الامر بالسجود للّه و النهي عن السجود للصنم مما لا يجتمعان- بناء على الامتناع- و اجتماعهما مما لا ريب فيه مع انهما يجتمعان في كلي واحد و هو السجود، فذهاب كل من القائلين بالجواز و الامتناع الى صحة هذا الاجتماع مما يدل على خروجه عن موضوع النزاع.

فانه يقال: ان القائل بالامتناع انما يرى الامتناع اما لانه لا يمكن ان يجتمع فيما هو الحكم لبّا و هو الارادة و الكراهة لواحد بان يريد هذا الواحد و يكرهه، أو لانه لا يمكن ان يجتمع التحريك إلى هذا الواحد و البعث اليه مع التحريك إلى عدمه و الزجر عنه، و لازم هذا الكلام انه لا بد ان يجتمع ما تعلق به الامر و ما تعلق به النهي في وجود هذا الواحد، فان كان هذا الواحد فردا شخصيا فله وجود شخصي و ان كان كليا ففي وجوده في ضمن فرده، و اذا كان الكلي متفصلا بفصلين لا يعقل ان يجتمعا في وجود واحد للكلي و لو في ضمن فرده كالسجود للّه و السجود للصنم، فانه لا يعقل ان يجتمعا في وجود واحد لكلي السجود و لو في ضمن احد افراده، اذ لا يعقل ان يجتمع في وجود واحد للسجود الكلي هذان النوعان و هما السجود للّه و السجود للصنم، بخلاف كلي الركوع المتحقق في فرد من افراده فانه يمكن ان يكون مجمعا للصلاة و الغصب، و كذلك السجود الكلي المتحقق في ضمن فرد من افراده

ص: 13

.....

______________________________

يمكن ان يجتمع فيه العنوانان كالصلاة و الغصب، إلّا انه لا يعقل ان يكون مجمعا لعنواني السجود للّه و السجود للصنم، فالواحد الجنسي الذي يمكن ان يجتمع في وجوده العنوانان هو الداخل في موضع النزاع، و الواحد الجنسي الذي لا يعقل ان يجتمع في وجوده و لو في ضمن فرده العنوانان فهو خارج عن محل النزاع، فالسجود الكلي الذي يكون مجمعا لعنواني الصلاة و الغصب هو الداخل دون السجود الكلي بالنسبة الى نوعيه و هما السجود للّه و السجود للصنم فانه خارج عن موضع النزاع.

و بعبارة اخرى: ان محل النزاع هو ان متعلق الامر و النهي الذي يمكن ان يجتمعا في الوجود الواحد سواء كان ذلك الوجود الواحد مجمعا لهما من حيث انه بذاته انطبق عليه العنوانان كزيد الشخصي الذي ينطبق عليه عنوانا العالم و الفاسق، أو لانه قد تحقق في ضمنه الواحد الجنسي الذي هو المجمع للعنوانين كهذا الوضع الخاص الذي تحقق به كلي الوضع السجودي الذي اجتمع فيه- بما هو وضع سجودي- عنوانا الصلاة و الغصب، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (المراد بالواحد)) في العنوان المذكور هو ( (مطلق ما كان ذا وجهين و مندرجا تحت عنوانين باحدهما كان موردا للامر و بالآخر للنهي و ان كان كليا مقولا على كثيرين)) أي و ان كان ذلك الواحد كليا و مقولا على كثيرين و لا يختص الواحد المذكور في العنوان بالواحد الشخصي، بل يعم الواحد الجنسي ايضا ( (كالصلاة في المغصوب)) فان الصلاة في المغصوب قد اجتمع عنوان الصلاة و الغصب في وضع الركوع و السجود و القيام و كل من هذه كلي مقولا على كثيرين من افراد وضع الركوع و السجود و القيام ( (و انما ذكر)) الواحد في العنوان لا لاخراج غير الواحد الشخصي بل ( (لا خراج)) الواحد مفهوما و هو مثل ( (ما اذا)) تعدد متعلق الامر و النهي و لم يجتمعا وجودا و لو جمعهما واحد مفهوما كالسجود للّه و السجود للصنم مثلا)) فانهما و ان اجتمعا في مفهوم السجود الواحد إلّا ان مفهوم السجود بالنسبة إلى هذين: العنوان المامور باحدهما و المنهي عن احدهما جامع مفهومي لهما لا جامع وجودي، اذ لا يعقل ان يجتمع في السجود

ص: 14

الثاني: الفرق بين هذه المسألة و مسألة النهي في العبادة، هو أن الجهة المبحوث عنها فيها التي بها تمتاز المسائل، هي أن تعدد الوجه و العنوان في الواحد يوجب تعدد متعلق الامر و النهي، بحيث ترتفع به غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بوجه واحد، أو لا يوجبه، بل يكون حاله حاله، فالنزاع في سراية كل من الامر و النهي إلى متعلق الآخر، لاتحاد متعلقيهما وجودا، و عدم سرايته لتعددهما وجها، و هذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الاخرى، فإن البحث فيها في أن النهي في العبادة أو المعاملة يوجب فسادها، بعد الفراغ عن التوجه إليها (1).

______________________________

الكلي الموجود و لو في ضمن فرده عنوانا السجود للّه و السجود للصنم فلا يمكن ان يكون وجودا للسجود يكون ذلك الوجود السجودي سجودا للّه و سجودا للصنم.

و على كل فالواحد المذكور انما ذكر لاخراج الواحد المفهومي ( (لا لاخراج الواحد الجنسي أو النوعي كالحركة و السكون الكليين المعنونين بالصلاتية و الغصبية)).

و لا يخفى ان السكون انما يكون مجمعا للعنوانين من الصلاة و الغصبية بناء على كون السكون من الاكوان الصلاتيّة، إلّا ان يكون مراده من السكون هو الوضع الخاص الذي يكون حال السكون كالوضع الركوعي و السجودي.

(1)

الفرق بين هذه المسألة و مسألة النهي في العبادة

لا يخفى ان الداعي لإبداء الفرق بين هذه المسألة و مسألة دلالة النهي على الفساد في العبادة هو ان موضوع هذه المسألة هو الامر و النهي و محمولها جواز الاجتماع و عدمه، و الموضوع و المحمول في تلك المسألة هو الامر و النهي و اجتماعهما، لأن لازم دلالة النهي على الفساد في العبادة و عدمه هو تعلق النهي بما تعلق به الامر، و لازم تعلق النهي بما تعلق به الامر هو اجتماع الامر و النهي، فهي مشتملة على الامر و النهي و على اجتماعهما، فمن هنا يبدأ توهم المتوهم: انه ما الفرق بين هاتين المسألتين مع ان هذه المسألة هي الامر و النهي و البحث عما يستلزمه اجتماعهما، و تلك المسألة ايضا هي الامر و النهي و البحث عما يستلزم اجتماعهما.

ص: 15

.....

______________________________

و الذي يرتضيه المصنف في الفرق بينهما: هو ان المميز لمسألة عن مسألة اخرى هو الجهة المبحوث عنها في كل مسألة.

و توضيحه: انه قد تقدم لك في صدر الكتاب هو ان المميز للعلوم بعضها عن بعض هو امتيازها بالغرض لا بالموضوعات و لا بالمحمولات و كان المميز للعلوم هو الغرض، فالمميز للمسائل بعضها عن بعض هو الغرض و الجهة التي دعت للبحث عن تلك الجهة في تلك المسألة، لا باختلاف الموضوع في المسألتين و لا باختلاف المحمول فيهما، فلو اتحدت المسألتان موضوعا و محمولا و اختلفتا في الغرض و الجهة المبحوث عنها فيهما فهما مسألتان مختلفتان بواسطة اختلاف الغرض، و لو اختلفتا موضوعا و محمولا أو موضوعا فقط و محمولا فقط و لكنهما اتحدتا في الغرض فهما متحدتان و غير مختلفتين، مثلا مسألة قام زيد المبحوث عنها من حيث الفاعل داخلة في المسألة المبحوث فيها عن الفاعل هي غير مسألة قام زيد المبحوث عنها في المسألة الباحثة عن الفعل و ان اتحدت المسألتان موضوعا و محمولا، و مسألة زيد قائم و عمرو قاعد المبحوث عنهما في مسألة المبتدأ و الخبر هما مسألة واحدة و ان اختلفتا موضوعا و محمولا.

فاتضح: ان المميز للمسائل هو الغرض و الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة لا الموضوع و لا المحمول.

و اذا عرفت هذا تعرف ان الجهة المبحوث عنها في مسألة الاجتماع و عدمه هو ان تعدد الوجه و العنوان كالصلاة المامور بها و الغصبية المنهي عنها المجتمعتين في الحركة الصلاتية في المكان المغصوب هل يوجب تعدد تلك الحركة ام لا يوجب تعددها؟

فالقائل بالجواز يرى ان تعدد الوجه في الامر و النهي موجب لتعددها.

و القائل بالامتناع يرى ان تعدد الوجه و العنوان في الامر و النهي لا يوجب التعدد فيما اجتمعا فيه و هي الحركة. و الوجه و الغرض المبحوث عنه في مسألة دلالة النهي

ص: 16

.....

______________________________

على الفساد في العبادة هو ان النهي المتعلق بما تعلق به الامر هل يوجب فساده و عدم صحة الامتثال به او لا يوجب فساده؟

و الفرق بين هاتين الجهتين واضح، فان الجهة في مسألة الاجتماع هو اقتضاء تعدد العنوان لتعدد المجمع و عدمه، و الجهة في مسألة دلالة النهي على الفساد في العبادة هو فساد العبادة التي صارت مجمعا لهما.

و الفرق بين تعدد المجمع و عدمه، و فساد العبادة المجمع لهما و عدمه من اوضح الواضحات. و بعد تمايز الجهتين في المسألتين يتضح الميزان الفارق بينهما، و قد عرفت ان الجهة و الغرض هو المميّز، و حينئذ فسواء اتحد الموضوع و المحمول في المسألتين أو اختلفا فهما مسألتان لاختلاف الجهة فيهما، و قد اشار إلى ان المميّز للمسائل هو الجهة و الغرض بقوله: ( (الفرق بين هذه المسألة و مسألة النهي في العبادة هو ان الجهة المبحوث عنها فيها)): أي في هذه المسألة ( (التي بها)): أي التي بتلك الجهة المبحوث عنها في المسألة ( (تمتاز المسائل)) بعضها عن بعض، و قد اشار الى ان الجهة في هذه المسألة غير الجهة في مسألة النهي في العبادة بقوله: ( (هي ان تعدد الوجه و العنوان في الواحد يوجب تعدد متعلق الامر و النهي بحيث ترتفع به)): أي بحيث ترتفع بواسطة تعدد الوجه و العنوان في هذا الواحد ( (غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بوجه واحد)) فانه من المسلم انه لا يعقل اجتماع الامر و النهي في الواحد بعنوان واحد، فلا يعقل اجتماع الامر بالصلاة و النهي عن الصلاة بان يقول: صل و لا تصل، و لا بد اما من رفع اليد عن احدهما أو تساقطهما و الرجوع الى الاصول.

فهل ان الواحد بعنوانين كالحركات الصلاتية في المغصوب المجتمع فيها الامر بالصلاة و النهي عن التصرف في المغصوب هو كالواحد بالعنوان الواحد، أو انه بواسطة تعدد الوجه و العنوان ترتفع المحالية و عدم الامكان المتحقق في الواحد ب عنوان واحد؟

ص: 17

.....

______________________________

فالنزاع في هذه المسألة في ان هذين العنوانين المجتمعين في الوجود الواحد هل يوجب سراية كل من العنوانين إلى الآخر؟ و يكون حال صلّ و لا تغصب كحال صل و لا تصل.

أو ان تعدد الوجه و العنوان لا يوجب السراية؟ فلا محالية و ان كان المجمع وجودا واحدا. فهذه هي الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة.

و اما الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة و هي مسألة النهي في العبادة فهي غير هذه الجهة، لأن جهة البحث هناك هو ان النهي المتعلق بما تعلق به الامر كقوله صلي و لا تصلي ايام الحيض فانه قد نهيت المرأة عن الصلاة في حال حيضها، فهل ان هذا النهي المتعلق بصلاتها في حال حيضها يدل على فساد صلاتها لو أتت بالصلاة ام لا يدل؟

و من الواضح: ان لازم جهة البحث في مسألة النهي في العبادة كون النهي قد تعلق بما تعلق به الامر، و بعد الفراغ عن انه قد تعلق بما تعلق به الامر فهل يوجب هذا التعلق فساد العبادة ام لا؟

فالبحث فيها عن انه هل يوجب الفساد ام لا؟ بعد الفراغ عن ان متعلق النهي هو نفس متعلق الامر. و هذا المفروغ عنه في مسألة النهي الذي لازمه عدم بقاء الامر التكليفي هو مبحوث عنه في هذه المسألة، و ان النهي المتعلق بعنوان الغصب اذا اجتمع مع عنوان الصلاة في الوجود الواحد هل يسري إلى الصلاة المتعلق بها الامر ام لا؟ فكون متعلق النهي هو متعلق الامر ليس مفروغا عنه هنا بل هو المبحوث عنه، بخلاف مسألة النهي في العبادة فانه من المفروغ عنه فيها، و الى هذا اشار بقوله:

( (بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الاخرى)) و هي مسألة النهي في العبادة ( (فان البحث فيها في ان النهي في العبادة او المعاملة يوجب فسادها بعد الفراغ عن التوجه اليها)): أي بعد الفراغ عن توجه النهي الى نفس العبادة كقوله: صلي، و دعي الصلاة ايام اقرائك.

ص: 18

نعم لو قيل بالامتناع مع ترجيح جانب النهي في مسألة الاجتماع، يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك المسألة.

فانقدح أن الفرق بين المسألتين في غاية الوضوح (1).

و أما ما أفاده في الفصول، من الفرق بما هذه عبارته ثم اعلم أن الفرق بين المقام و المقام المتقدم، و هو أن الامر و النهي هل يجتمعان في شي ء واحد أو لا؟ أما في المعاملات فظاهر، و أما في العبادات، فهو أن النزاع هناك فيما إذا تعلق الامر و النهي بطبيعتين متغايرتين بحسب

______________________________

(1)

كلام الفصول و المناقشة فيه

و هذا ايضا مما يدل على ان الجهة المبحوث عنها في مسألة الاجتماع غير الجهة المبحوث عنها في مسألة النهي في العبادة.

و حاصله: انه حيث كانت الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة هو انه مع تعدد الوجه و العنوان هل يوجب سريان النهي الى متعلق الامر ام لا؟

فعلى القول بالجواز و عدم السريان لا تكون الصلاة في الدار المغصوبة مما يسرى اليها النهي المتعلق بالغصب و لا يكون متعلق الامر العبادي مما سرى اليه النهي فلا تكون من صغريات مسألة النهي في العبادة، إذ لم يتعلق نهي بالعبادة لعدم السريان.

و على القول بالامتناع و ان النهي عن الغصب المجتمع مع الامر بالصلاة يسري إلى الصلاة تكون الصلاة الساري لها النهي من الغصب المنهي عنه من صغريات مسألة النهي في العبادة، و قد اشار إلى إلى ان هذا يدل على الفرق بقوله: ( (فانقدح ان الفرق)) الى آخر كلامه (قدس سره).

ص: 19

الحقيقة (1)، و إن كان بينهما عموم مطلق، و هنا فيما إذا اتحدتا حقيقة و تغايرتا بمجرد الاطلاق و التقييد، بأن تعلق الامر بالمطلق، و النهي

______________________________

(1) قد ظهر- مما مر- ان الفارق بين المسائل و المميز لها هو الغرض و الجهة المبحوث عنها في المسألة، و ان الموضوعات و المحمولات سواء تعددت أو اتحدت لا تكون فارقة و مميزة بين المسائل هذا على مختاره (قدس سره).

و حيث كان ما اختاره (قدس سره) غير الذي اختاره في الفصول في الفرق بين المسألتين- تعرض إلى ما جعله في الفصول فارقا و الى رده بقوله: ( (فاسد)) جواب قوله: ( (و اما ما افاده في الفصول من الفرق)).

و لا يخفى ان صاحب الفصول ذكر الفرق بين المسألتين في مسألة النهي في العبادة المبحوث عنها بعد البحث عن مسألة الاجتماع، فمراده من قوله المقام المتقدم هو مقام مسألة اجتماع الامر و النهي.

و حاصل الفرق عنده بين المسألتين هو اختلاف الموضوع فيهما، و لذا قال:

( (و هو ان الامر و النهي)) الى آخره.

و بيانه: ان الفرق بين مسألة الاجتماع و مسألة النهي في العبادة و المعاملة: هو ان الموضوع في مسألة الاجتماع هو ان الامر و النهي هل يجتمعان ام لا؟ و حيث كان الموضوع فيها هو الامر و النهي و المحمول اجتماعهما- ظهر الفرق بين مسألة الاجتماع و مسألة النهي في خصوص المعاملات، لوضوح انه ليس في المعاملات امر يجتمع مع النهي، بل الموجود في المعاملات حكم وضعي و الامر الذي هو جزء الموضوع في مسألة الاجتماع المراد منه هو التكليفي، فلا موجب لتوهم اتحادهما حتى نحتاج إلى ابداء الفرق، و الى هذا اشار بقوله: ( (اما في المعاملات فظاهر)).

و اما في النهي في العبادات فلوجود الامر التكليفي فيها نحتاج الى الفارق، فالفرق هو ان الموضوع في مسألة الاجتماع هو الامر و النهي، و المحمول اجتماعهما و عدمه.

و حيث كان النزاع في جواز اجتماعهما في واحد ام لا؟ فلا بد و ان يكون متعلق الامر

ص: 20

.....

______________________________

طبيعة غير طبيعة متعلق النهي، و ان هاتين الطبيعتين المختلفتين هل يمكن ان تجتمعا في وجود واحد ام لا؟

و لو كان متعلق النهي متحدا مع متعلق الامر لكان العنوان هل يجوز ان يتعلق النهي بما تعلق به الامر ام لا؟ و الى هذا اشار بقوله: ( (ان النزاع هناك)): أي مسألة الاجتماع ( (فيما اذا تعلق الامر و النهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة)) كالصلاة و الغصب.

ثم قال (قدس سره): ( (و ان كان بينهما عموم مطلق)). توضيحه: ان متعلق الامر و النهي اما ان يكونا متباينين بحيث لا يتصادقان على واحد و هذا خارج موضوعا عن مسألة الاجتماع، لانهما اذا كانا لا يتصادقان على واحد فلا يعقل البحث انه هل يسري احدهما الى الآخر ام لا؟

و اما ان يكونا متساويين بان لا يشذ مصداق لاحدهما عمّا يصدق عليه الآخر، و هذا خارج- ايضا- عن مسألة الاجتماع على ما يظهر من كلامه (قدس سره)، و السبب في الخروج هو انه اذا كانا متساويين في الصدق يكونان من باب التعارض، و مسألة اجتماع الامر و النهي- بناء على الجواز- لا تكون داخلة في باب التعارض، و اما بناء على الامتناع فقد تدخل في باب التعارض و قد تدخل في باب التزاحم كما ستأتي الاشارة اليه في الامر التاسع.

فانحصر مورد مسألة الاجتماع فيما اذا كان بين متعلق الامر و النهي عموم من مطلق كما لو امر باكرام العلماء و نهي عن احترام اهل البدع و انحصر اهل البدع بمصداق العالم، أو يكون بينهما عموم من وجه كصلّ و لا تغصب فانه تصدق الصلاة من دون الغصب في الصلاة في غير المغصوب، و يصدق الغصب دون الصلاة في التصرفات الغصبية غير الصلاتية، و يجتمعان في الحركات الصلاتية في المحل المغصوب، و قد اشار إلى ما ذكرنا بقوله: ( (و ان كان بينهما عموم مطلق)) فانه اشار

ص: 21

.....

______________________________

إلى الفرد الخفي و هو العموم من مطلق، و اما العموم من وجه فحيث انه واضح لم يشر اليه إلّا بعنوان الترقي الى العموم المطلق.

فحاصل ما ذكره صاحب الفصول في الفرق بين مسألة الاجتماع و مسألة النهي:

هو ان الموضوع في مسألة الاجتماع هو ان الامر و النهي المتعلقين بطبيعتين مختلفتين كان بينهما عموم من وجه أو عموم من مطلق هل يجوز اجتماعهما في وجود واحد كان ذلك الوجود الواحد مصداقا لهما ام لا يجوز؟

و الموضوع في مسألة النهي في العبادة هو ان النهي المتعلق بما تعلق به الامر هل يوجب فساده ام لا؟ فتعلق النهي بما تعلق به الامر هو الموضوع في مسألة النهي في العبادة، و لازم ذلك هو اتحاد المتعلق فيهما، فموضوع البحث في هذه المسألة في الطبيعة الواحدة التي تعلق بها الامر و تعلق بها النهي، و لا بد في هذه المسألة: أي مسالة النهي في العبادة ان يكون المتعلق به النهي هو الطبيعة الواحدة المقيدة بشي ء و الطبيعة الواحدة غير المقيدة بشي ء هي متعلق الامر، فيكون النهي متعلقا بالمقيد و الامر متعلقا بالمطلق، لوضوح انه لو تعلق النهي بما تعلق به الامر من دون ضم شي ء لكان بينهما تعارض فاما ان يتساقطا فلا امر حتى يكون امتثاله صحيحا أو فاسدا، أو يتغلّب جانب النهي فلا امر ايضا أو يتغلب جانب الامر فلا نهي حتى يكون موجبا للفساد ام لا؟

و اما ان يكون بينهما عموم من وجه فهو خارج عن موضوع مسألة النهي في العبادة، لما عرفت من انه لا بد ان يكون العنوان المتعلق للامر هو متعلقا للنهي و لا بد في العموم من وجه اختلاف العنوان المتعلق فيهما.

هذا شرح ما ذكره في الفصول بقوله: ( (و هنا)) أي و في مسألة النهي في العبادة الكلام ( (فيما اذا اتحدتا حقيقة و تغايرتا بمجرد الاطلاق و التقييد بان تعلق الامر بالمطلق و النهي بالمقيد)).

فاتضح: ان الفرق بين المسألتين عنده هو اختلاف الموضوع فيهما.

ص: 22

بالمقيد انتهى موضع الحاجة، فاسد، فإن مجرد تعدد الموضوعات و تغايرها بحسب الذوات، لا يوجب التمايز بين المسائل، ما لم يكن هناك اختلاف الجهات، و معه لا حاجة أصلا إلى تعددها، بل لا بد من عقد مسألتين، مع وحدة الموضوع و تعدد الجهة المبحوث عنها، و عقد مسألة واحدة في صورة العكس، كما لا يخفى (1).

و من هنا انقدح أيضا فساد الفرق، بأن النزاع هنا في جواز الاجتماع عقلا، و هناك في دلالة النهي لفظا، فإن مجرد ذلك لو لم يكن تعدد الجهة

______________________________

(1) قد عرفت ان قوله: ( (فاسد)) هو جواب قوله: ( (و اما ما افاده في الفصول)).

و اما وجه فساده فقد عرفته ايضا- مما مر- من ان المميّز للمسائل هو الغرض و الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة لا اختلاف الموضوع و لا اختلاف المحمول و انه اذا تعددت الجهة المبحوث عنها لا بد من عقد مسألتين و ان اتحد الموضوع و المحمول، و لا بد من دخول قولنا- مثلا-: ضرب زيد في البحث عن الفاعل المرفوع بفعله و دخولها في البحث عن الفعل المستند الى فاعله و تكون هذه القضية الواحدة من مسائل باب الفاعل و من مسائل باب الفعل، فهذه القضية الواحدة هي من حيث اختلاف الجهة فيها مسألتان من ناحية البحث و ان كانت من ناحية الموضوع و المحمول هي قضية واحدة، و اذا اتحد الغرض فلا بد من البحث عن القضيتين المختلفتين موضوعا و محمولا تحت عنوان واحد و جعلهما مسألة واحدة من ناحية الجهة المبحوث عنها، و قد اشار الى ان المميز للمسائل هو الغرض دون الموضوع و المحمول بقوله:

( (فان مجرد تعدد الموضوعات ... الى آخر كلامه)) و اشار الى انه مع تعدد الغرض لا بد من عقد مسألتين و ان اتحد الموضوع و المحمول و مع وحدة الغرض لا بد من عقد مسألة واحدة و ان تعدد الموضوع و المحمول بقوله: ( (بل لا بد من عقد مسألتين ... الى آخر كلامه)).

ص: 23

في البين، لا يوجب إلا تفصيلا في المسألة الواحدة، لا عقد مسألتين، هذا مع عدم اختصاص النزاع في تلك المسألة بدلالة اللفظ، كما سيظهر (1).

الثالث: إنه حيث كانت نتيجة هذه المسألة مما تقع في طريق الاستنباط، كانت المسألة من المسائل الاصولية، لا من مبادئها الاحكامية،

______________________________

(1)

صدق ضابط المسألة الاصولية على مسألة الاجتماع

بعد ما عرفت- فيما مر- من أن المميز و الفارق بين المسائل هو الجهة و الغرض المبحوث عنه فيها- يتضح ايضا فساد هذا الفرق الذي ذكره المصنف عن بعض.

و حاصله: ان الفرق بين هذه المسألة و مسألة النهي في العبادة هو ان هذه المسألة عقلية و البحث عن ان العقل هل يرى جواز اجتماع الامر و النهي في واحد بعنوانين ام لا يرى؟

و البحث في مسألة النهي في العبادة هو ان اللفظ هل يدل على الفساد ام لا؟

و ملخص الفرق: ان هذه المسألة عقلية و تلك المسألة لفظية، و قد عرفت ان الفارق و المميز منحصر في الجهة و الغرض، فلو كانت الجهة و الغرض متحدا في المسألتين لما كان كون البحث في احداهما عقليا و في الاخرى لفظيا بفارق، بل لا بد مع وحدة الغرض من عقد مسألة واحدة يبحث فيها مرة من ناحية الجواز و عدم الجواز عقلا، و اخرى من ناحية الدلالة اللفظية، و الى هذا اشار بقوله: ( (ان مجرد ذلك)): أي مجرد كون البحث في احداهما عقليا و في احداهما لفظيا لا يصلح ان يكون فارقا و مميزا بينهما ( (لو لم يكن تعدد الجهة في البين)) فان الاختلاف في العقلية و اللفظية ( (لا يوجب إلّا تفصيلا في المسألة الواحدة)).

ثم ذكر اشكالا آخر على هذا الفارق: و هو ان البحث في مسالة دلالة النهي على الفساد لا ينحصر في الدلالة اللفظية و انه هناك في الدلالة اللفظية و العقلية ايضا و قد اشار الى هذا بقوله: ( (هذا مع عدم اختصاص النزاع ... إلى آخر كلامه))، إلّا انه سيأتي منه ان النزاع في مسألة النهي هو في الدلالة اللفظية فقط.

ص: 24

و لا التصديقية، و لا من المسائل الكلامية، و لا من المسائل الفرعية، و إن كانت فيها جهاتها، كما لا يخفى (1)، ضرورة أن مجرد ذلك لا يوجب

______________________________

(1) لا يخفى انه وقع الكلام في ان مسألة اجتماع الامر و النهي هل هي من المسائل الاصولية؟

أو من المبادئ الاحكامية؟

أو من المبادئ التصديقية لعلم الاصول؟

أو من المسائل الكلامية؟

أو من المسائل الفرعية؟

و قد اختار المصنف انها من المسائل الاصولية، ثم اشار إلى ان جهات كل واحدة من هذه الاربع الأخر موجودة فيها.

و توضيح ذلك: اما انها من المسائل الاصولية فلأن المناط في كون المسألة اصولية وقوع نتيجتها في طريق الاستنباط، و لا اشكال في ان نتيجة هذه المسألة مما تقع في طريق استنباط الحكم الفرعي، لوضوح انه على القول بجواز الاجتماع فالمجمع للامر و النهي يقع به الامتثال للامر، و يصح وقوعه عبادة و يعاقب على المنهي عنه الصادق على المجمع و لا يسقط كل من الحكمين عما يترتب عليه.

و على القول بالامتناع فلا بد من السقوط فاما ان يسقطا معا فلا يصح وقوع المجمع عبادة حتى بناء على عدم انحصار عبادية العبادة في قصد الامر، لأن نفس متعلق العبادة يكون منهيا عنه و مثل هذا النهي في العبادة يقتضي الفساد كما سيأتي، أو يسقط احدهما فان سقط الامر و تغلّب النهي فلا تصح- ايضا- عبادة لما ذكرنا، و ان سقط النهي و تغلّب الامر صحّ وقوع المجمع عبادة لوجود الامر و سقوط ما يمنع عن العبادية و هو النهي، و من الواضح ان هذه النتيجة الفرعية تستنبط و تترتب على المختار في هذه المسألة.

ص: 25

.....

______________________________

ثم لا يخفى انها من المسائل الاصولية العقلية لكنها من العقلية غير المستقلة، اما انها من المسائل العقلية فلان البحث فيها انه هل يستلزم عقلا اجتماع الامر و النهي المتعلقين بعنوانين في وجود واحد سقوط احدهما، أو لا يستلزم اجتماعهما سقوط احدهما عقلا؟ و اما انها من غير المستقلات العقلية فلأن المستقلات العقلية هي المسألة التي تكون موردا لحكم العقل من دون توسط شي ء شرعي، كمبحث الحسن و القبح العقليين فان البحث فيها غير متوقف على ما يرجع الى الشرع، و غير المستقلات العقلية هي التي تكون موردا لحكم العقل بعد ارتباطها بما يرجع الى الشرع، و من الواضح ان حكم العقل في هذه المسألة انما هو بعد الامر و النهي المرتبطين بالشارع.

و اما من يدعى انها من المبادئ الاحكامية فلأن المبادئ الاحكامية هي التي يبحث فيها عن الحكم و لوازمه، و هذه المسألة مما يبحث فيها عما يستلزمه الحكم لأنها يبحث فيها عن انه هل يستلزم احد الحكمين من الحرمة و الوجوب المجتمعين في مورد لعدم الآخر أو لا يستلزم احد الحكمين المجتمعين عدم الآخر؟

و اما دعوى انها من المبادئ التصديقية فلأن المبادئ التصديقية لعلم الاصول هي التي يكون نتيجة البحث فيها سببا لدخول الناتج منها في احدى المسائل الاصولية، و مسألة الاجتماع من هذا القبيل لأنها و ان كانت بناء على القول بالجواز يترتب عليها صحة وقوع المجمع عبادة، إلّا انها بناء على الامتناع لا يترتب عليها فساد العبادة الّا بعد دخولها في باب التعارض و ملاحظة ما يقتضيه باب التعارض، و ان من الواضح ان باب التعارض من المسائل الاصولية.

و لا يخفى انه لازم دعوى هذا القائل هو كون المسألة من المبادئ التصديقية لا بد و ان تقع في طريق احدى المسائل الاصولية للاستنباط نفيا و اثباتا، فلا تكون مسألة الاجتماع من المسائل التصديقية إلّا ان يقع القول بالجواز فيها في طريق احدى المسائل الاصولية، و القول بالامتناع فيها ايضا يكون كذلك.

ص: 26

.....

______________________________

و لكن قد عرفت انه على القول بالجواز لا تدخل في طريق احدى المسائل الاصولية الّا ان الظاهر انه شرط لا يلتزمون به، فانه يكفي عندهم كون الاثر لطرف واحد، أو نقول إن وقوعها بناء على الامتناع في طريق احدى المسائل الاصولية يستلزم كونها ذا اثر نفيا و اثباتا، لأن عدم وقوعها بناء على الجواز يصح ان يقال انه اثر ايضا لعدم موجب للالتزام بكون الاثر لا بد و ان يكون امرا وجوديا فان كونها لا تقع ايضا اثر.

و اما دعوى انها من المسائل الكلامية فلوضوح ان علم الكلام هو ما يبحث فيه عن احوال المبدأ و المعاد، و حيث ان الامر و النهي الشرعيين مما يتعلقان بالمبدإ فالبحث عن جواز اجتماعهما و عدمه بمعنى انه هل يحسن من الشارع أن يأمر و ينهى عن واحد بعنوانين ام لا يحسن ذلك؟ و بهذا المعنى هي من مسائل الكلام لا لأنها مسألة عقلية، لوضوح انه ليس كل مسالة عقلية هي من الكلام.

إلّا انه لا بد من تغيير العنوان المبحوث عنه في المقام بان يكون العنوان: هل يجوز للشارع ان يامر و ينهى بعنوانين مجتمعين في وجود واحد، لأن العنوان المبحوث عنه في المقام هو ان الامر و النهي اذا اجتمعا هل يطرد احدهما الآخر ام لا؟ لا لأنهما من الشارع فانه سيأتي ان القائل بالامتناع يرى سراية احدهما الى الآخر فيكون اجتماعهما من اجتماع الضدين و محالية اجتماع الضدين لا يختص بكونهما من الشارع.

و اما دعوى انها من المسائل الفرعية فلان النتيجة المتحصلة من جواز اجتماع الامر و النهي و عدمه هو صحة وقوع المجمع امتثالا للامر و عصيانا للنهي.

و لا يخفى ان كون النتيجة من البحث هو صحة الامتثال و عدمه لا يجعل المسألة المبحوث عنها من المسائل الفرعية، لأن النتيجة في البحث عن كل مسالة اصولية يرتبط بحكم شرعي فيلزم ان يكون علم الاصول بجملته هو علم الفقه، و هو واضح

ص: 27

كونها منها إذا كانت فيها جهة أخرى، يمكن عقدها معها من المسائل، إذ لا مجال حينئذ لتوهم عقدها من غيرها في الاصول، و إن عقدت كلامية في الكلام، و صح عقدها فرعية أو غيرها بلا كلام، و قد عرفت في أول الكتاب أنه لا ضير في كون مسألة واحدة، يبحث فيها عن جهة خاصة من مسائل علمين، لانطباق جهتين عامتين على تلك الجهة، كانت بإحداهما من مسائل علم، و بالاخرى من آخر، فتذكر (1).

______________________________

الفساد، بل هذه المسألة انما تكون فرعيه حيث يتغير العنوان فيها بان يكون: هل يقع المجمع كالحركة الصلاتية في الدار المغصوبة امتثالا للامر و عصيانا للنهي ام لا؟

اما البحث عن جواز الاجتماع و عدمه بلزوم اجتماع الضدين و عدم لزومه فيتفرع عليه صحة الصلاة و عدمها فليس بحثا فقهيا.

فاتضح مما ذكرنا من دون تغيير عنوان البحث في المقام انما يكون فيها جهة المسائل الثلاث الاصولية و المبادئ الاحكامية و المبادئ التصديقية، فقول المصنف: ( (و ان كانت فيها جهاتها)) لا بد و ان يراد منه وجود جهاتها و لو بتغيير للعنوان لتنطبق جهات المسائل الخمس كلها.

(1) قد عرفت ان هذه المسألة يمكن ان تكون من المسائل الاصولية و يمكن ان تكون من المبادئ الاحكامية و من المبادئ التصديقية و من المسائل الكلامية و من المسائل الفرعية، و ان كان في الاخيرين ينبغي تغيير العنوان.

و على كلّ فمجرد امكان ان تكون المسألة الاصولية من المسائل الأخر لا يقتضي ان يقال انها منها لأن مراد القائل انها من المسائل الأخر ان كان لإنكار كونها اصولية و قد عرفت بطلانه- لما تقدم- من انها مسألة تقع نتيجتها في طريق الاستنباط، مضافا الى انها لو لم تكن من مسائل الاصول فلا وجه للبحث عنها في الاصول، و ان كان مراده انها مع كونها اصولية يمكن ان يبحث عنها في غير الاصول من الكلام و الفقه- مثلا- فهو صحيح، و لا يضر امكان ان يبحث عنها في علم آخر بالبحث عنها

ص: 28

الرابع: إنه قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه، أن المسألة عقلية، و لا اختصاص للنزاع في جواز الاجتماع و الامتناع فيها بما إذا كان الايجاب و التحريم باللفظ، كما ربما يوهمه التعبير بالامر و النهي الظاهرين في الطلب بالقول، إلا أنه لكون الدلالة عليهما غالبا بهما، كما هو أوضح من أن يخفى.

و ذهاب البعض إلى الجواز عقلا و الامتناع عرفا، ليس بمعنى دلالة اللفظ، بل بدعوى أن الواحد بالنظر الدقيق العقلي اثنان، و أنه بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين، و إلا فلا يكون معنى محصلا للامتناع العرفي، غاية الامر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع، فتدبر جيدا (1).

______________________________

في الاصول بعد ان كانت مما يترتب عليها الغرض المطلوب في علم الاصول، و قد مر- في اول هذا الكتاب- انه لا مانع ( (و لا ضير في كون مسألة واحدة يبحث فيها عن جهة خاصة من مسائل علمين)) المراد من الجهة الخاصة هو موضوعها و محمولها لا الغرض الداعي للبحث عنها، و لذا قال: ( (لانطباق جهتين عامتين على تلك الجهة الى آخر كلامه)) و ذلك كمسألة جواز اجتماع الامر و النهي في وجود واحد و عدم جوازه، فانه يمكن ان يبحث عنها في الاصول لحصول الغرض من علم الاصول و ترتبه عليها، و يمكن ان يبحث عنها في علوم أخر لترتب الغرض في تلك العلوم عليها ايضا.

(1)

التفصيل بين الامتناع عرفا و الجواز عقلا

قد عرفت- مما مر- ان المسألة من المسائل الاصولية العقلية غير المستقلة مضافا إلى ان عنوان المسألة يدل على كونها عقلية، لأن المراد من الجواز و عدمه في العنوان هو الامكان و عدمه، و من الواضح ان الحكم بالامكان و عدمه مما يرتبط بالعقل دون الدلالة اللفظية، فلو كانت المسألة لفظية للزم تغيير العنوان بان يعنون: ان النهي عن شي ء باللفظ هل يدل على عدم الوجوب في مورد الاجتماع ام لا يدل؟

ص: 29

.....

______________________________

و دعوى ان المسألة لفظية ربما ينشأ من توهمين اشار اليهما المصنف و الى فسادهما:

الاول: ما اشار اليه بقوله: ( (كما ربما يوهمه التعبير بالامر و النهي)).

و حاصله: ان توهم انها لفظية انما نشأ من تعبيرهم في العنوان بجواز اجتماع الامر و النهي، و لفظ الامر و النهي لهما ظهور في الطلب و الزجر المستفادين من اللفظ و القول، و اذا كان متعلق الجواز و عدمه ما يستفاد من اللفظ فلا بد من كونها لفظية، اذ البحث يتبع القيد الخاص في العنوان، و حيث تقيد الجواز و عدمه بما يستفاد من اللفظ فاللازم ان تكون المسألة لفظية.

و قد اشار الى فساد هذا التوهم بقوله: ( (إلّا انه لكون الدلالة عليهما الى آخره)) و حاصله: ان التعبير عن الايجاب و التحريم المجتمعين في وجود واحد بلفظ الامر و النهي انما هو لان الايجاب و التحريم غالبا يكونان مستفادين من الدليل اللفظي الذي هو الامر و النهي، و إلّا فقد عرفت ان الكلام في جواز اجتماع الوجوب و الحرمة سواء كانا مستفادين من لفظ أو عقل أو اجماع، و لا خصوصية للحرمة و الوجوب المستفادين من اللفظ، فالتعبير بالامر و النهي المخصوصين بمقولة اللفظ انما نشأ من الغالب لا غير.

الثاني: ما اشار اليه: ( (و ذهاب البعض الى آخره)) توضيح هذا المنشأ الثاني لتوهم كون المسألة لفظية انه قد ذهب بعضهم الى التفصيل في هذه المسألة.

و حاصل هذا التفصيل: انه يجوز عقلا و يمتنع عرفا و يدعى المتوهم ان مراد هذا المفصل من الجواز عقلا انه حيث كان متعلق الامر طبيعة غير الطبيعة المتعلق بها النهي فهما متعددان بالذات و المتعدد بالذات لا يعقل ان يكون واحدا، فاذا تصادقا و اجتمعا في وجود واحد فلا بد من تعدد ذلك الواحد فلا يسري حكم احدهما إلى الآخر لتعددهما و تعدد ما اجتمعا فيه و تصادقا عليه، فلذا ان العقل يرى الجواز، و مراده من الامتناع عرفا هو انه حيث كان الايجاب و التحريم المبحوث عن جواز

ص: 30

.....

______________________________

اجتماعهما و عدمه مستفادين من اللفظ، و العرف يرى ان اللفظ الدال على الوجوب يدل بالدلالة الالتزامية الناشئة من الملازمة العرفية على عدم اجتماع الوجوب مع الحرمة فيما اذا اجتمعا في وجود واحد، و كذلك العرف يرى ان اللفظ الدال على الحرمة يدل بالدلالة الالتزامية الناشئة من الملازمة العرفية على عدم اجتماع الحرمة مع الوجوب فيما اذا اجتمعا في وجود واحد، فاذا كان مراد المفصّل من الامتناع عرفا هو الدلالة الالتزامية التي هي من الدلالات اللفظية فلازم ذلك ان يكون البحث في هذه المسألة لفظيا، و الّا فلو كانت المسألة بجميع شئونها عقلية فلا معنى لهذا التفصيل، فلا مناص من ان يكون لهذه المسألة مساس بالناحية اللفظية.

و قد اشار المصنف في ضمن الجواب عن هذا التوهم الى منشأ هذا المتوهم لكون المسألة لفظية بقوله: ( (ليس بمعنى دلالة اللفظ)).

و حاصل الجواب: هو ان مراد هذا المفصّل من الامتناع العرفي ليس دلالة اللفظ بالالتزام على عدم الاجتماع للملازمة العرفية حتى يستلزم ذلك ان تكون المسألة لفظية، بل مراد هذا المفصّل من الجواز العقلي هو انه حيث ان العقل ينظر الى الاشياء بدقة و تحليل فهو يرى ان هذا الواحد بنظر العرف الذي لا ينظر الى الاشياء بدقة و تحليل هو واحد، و لكنه بالدقة و التحليل هو متعدد فلذلك يرى العقل الجواز، و مراده من الامتناع عرفا هو ان العرف حيث لا ينظر الى الاشياء بدقة و تحليل بل نظره اليها بنحو التسامح في مقام النظر فهو يرى ان المجمع واحد و لا يجتمع الامر و النهي في واحد، فمراده من الامتناع عرفا هو ان العرف يرى عدم الاجتماع لانه مبني على النظر المسامحي دون النظر الدقي، و ليس مراده من الامتناع العرفي هو الدلالة الالتزامية العرفية، بل العرف يرى ان هذا المجمع واحد ذو وجهين، و حيث كان المجمع في رأي العرف واحدا فلذا يرى عدم جواز الاجتماع.

و قد اشار ايضا الى لزوم حمل مراد المفصّل في دعوى الامتناع عرفا على ما ذكره دون الدلالة اللفظية بقوله: ( (و إلّا فلا يكون معنى محصلا الخ)).

ص: 31

.....

______________________________

و حاصله: ان الذهاب الى التفصيل في مسألة لا بد و ان يكون تفصيلا فيما هو محل النزاع في المسألة، و حيث كان هذا المفصّل يرى جواز الاجتماع عقلا فقوله بالامتناع عرفا لا بد و ان يكون ان هذا الذي يراه العقل جائزا لا يراه العرف جائزا، و اذا كان مراده غير هذا بان يكون مراده هو دلالة اللفظ على عدم الاجتماع للملازمة العرفية لا يكون قوله هذا تفصيلا في هذه المسألة، لما عرفت من ان التفصيل في مسألة لا بد و ان يكون واسطة بين الايجاب الكلي و السلب الكلي، و الدلالة اللفظية خارجة عما هو موضع النزاع بين القوم من الذهاب إلى الجواز و ذهاب الآخرين إلى عدم الجواز، فيكون هذا المفصّل واسطة بين الرأيين، فهو يوافق القائلين بالجواز من ناحية حكم العقل بالجواز و يوافق القائلين بعدم الجواز من ناحية النظر العرفي و الحكم العرفي، و لو كان مراده من الامتناع عرفا هو الدلالة اللفظية الخارجة عما هو موضع النزاع لما كان لهذا التفصيل منه معنى محصلا، اذ الدلالة اللفظية ليست موضع النزاع، و لا بد من ان يكون هذا المفصّل ممن يرى الجواز مطلقا.

غايته انه اذا كان الوجوب و التحريم مستفادين من اللفظ فاللفظ بالدلالة الالتزامية يدل على عدم وقوع الامر مجتمعا مع الحرمة، و اللفظ الدال على الحرمة يدل على عدم وقوع الحرمة مجتمعة مع الوجوب، و لا يصح جعل هذا تفصيلا فيما هو موضع النزاع، و الى ما ذكرنا- اولا- اشار بقوله: ( (و إلّا فلا يكون معنى محصلا للامتناع العرفي)) و اشار الى انه لو كان المراد من الامتناع العرفي هو الدلالة اللفظية لما كان منه تفصيلا في المسألة، بل يكون المتحصل منه هو عدم وقوع الوجوب و الحرمة المستفادين من اللفظ كل مع الآخر بقوله: ( (غاية الامر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع)): أي بعد ان يكون المتحصل من رأي هذا المفصّل هو جواز الاجتماع و ليس له تفصيل في القول بالجواز، غاية الامر انه لا يقع هذا الجواز فيما اذا كان الوجوب و الحرمة مستفادين من اللفظ.

ص: 32

الخامس: لا يخفى أن ملاك النزاع في جواز الاجتماع و الامتناع يعم جميع اقسام الايجاب و التحريم، كما هو قضية اطلاق لفظ الامر و النهي (1)، و دعوى الانصراف إلى النفسيين التعيينيين العينيين في

______________________________

(1)

شمول النزاع لانواع الايجاب و التحريم

لا يخفى ان اقسام الايجاب ستة:

- الايجاب النفسي كايجاب الصلاة.

- الايجاب الغيري كوجوب الطهارة الواقعة مقدمة للواجب.

- و الايجاب التعييني كالصلاة ايضا.

- و الايجاب التخييري كالعتق و الصوم في خصال الكفارة.

- و الايجاب العيني كالصلاة ايضا.

- و الايجاب التكافئي كالصلاة على الميت.

و اقسام التحريم الموجود منها في الشرع خمسة:

- التحريم النفسي كحرمة شرب الخمر و قتل النفس.

- و التحريم الغيري كتحريم مقدمة الحرام الأخيرة التي لا يتوسط بينها و بين الحرام ارادة كإلقاء مسلم في النار.

- و التحريم التعييني كشرب الخمر ايضا.

- و التحريم التخييري فمثاله هو ما اذا اضطر شخص الى ارتكاب احد محرمين تعيينيين كما لو اضطر شخص الى احد المحرمين التعيينيين كشرب الخمر أو التصرف في الدار المغصوبة فان النهي عنهما ينقلب من التعيينية الى التخييرية.

- و التحريم العيني كشرب الخمر ايضا.

- و اما التحريم الكفائي فليس له مثال في الشرع، نعم لو قلنا بان الامر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده الخاص فالضد الخاص للواجب الكفائي يكون حراما كفائيا.

و لا يخفى ان اطلاق الامر الموجود في العنوان يعم جميع اقسام الايجاب المذكورة كما ان اطلاق لفظ النهي الموجود في العنوان يعم جميع اقسام التحريم المذكورة.

ص: 33

مادتهما، غير خالية عن الاعتساف، و إن سلم في صيغتهما، مع أنه فيها ممنوع.

نعم لا يبعد دعوى الظهور و الانسباق من الاطلاق، بمقدمات الحكمة غير الجارية في المقام، لما عرفت من عموم الملاك لجميع الاقسام (1)، و كذا

______________________________

مضافا الى ان ملاك النزاع الموجود في الامر و النهي النفسيين موجود في جميع اقسام الامر و النهي المتقدمة، لأن ملاك النزاع هو ان اجتماعهما في وجود واحد هل يوجب سريان احدهما إلى الآخر ام لا يوجب؟ و هذا المعنى موجود في كل تحريم و ايجاب قد اجتمعا في واحد، و لا خصوصية لكون الامر و النهي نفسيين تعيينيين عينيين، لأن السريان الموجب لاجتماع المتضادين لا انحصار له في النفسيين التعيينيين العينيين و قد اشار الى هذا بقوله: ( (ان ملاك النزاع في جواز الاجتماع و الامتناع يعم جميع اقسام الايجاب و التحريم)) و اشار الى الاول و هو ان اطلاق الامر و النهي يقتضي الشمول ايضا لجميع اقسام التحريم و الايجاب بقوله: ( (كما هو قضية اطلاق لفظ الامر و النهي)).

(1) دعوى اختصاص النزاع بخصوص الامر و النهي النفسيين التعيينيين العينيين تنحصر في وجهين:

الاول: دعوى انصراف لفظ الامر و النهي المذكورين الى خصوص المذكورات و هي باطلة، لأن الانصراف لا يكون جزافا بل لا بد له من منشأ، و منشؤه اما غلبة الوجود أو غلبة الاستعمال في خصوص المذكورات، و دعوى غلبة الوجود ممنوعة صغرى و كبرى.

اما الصغرى فلا نسلم ان وجود النفسيين العينيين التعيينيين اكثر من بقية الاقسام الأخر.

و اما الكبرى فلما مر- غير مرة- من ان الانصراف ينحصر منشؤه بغلبة الاستعمال، لانه انس ذهني يحصل بين اللفظ الموضوع لمعنى عام و بعض افراده،

ص: 34

.....

______________________________

و الانس الذهني انما ينشأ من كثرة ما يراد من هذا اللفظ بعض افراده و لا ربط له بكثرة الوجود و غلبته، فلو كان الاقل وجودا اكثر استعمالا لأوجب الانصراف دون الاكثر وجودا، إلّا ان يدعى الملازمة بين كثرة الوجود و كثرة الاستعمال، و لكنه على كل يكون منشؤه كثرة الاستعمال، فلا وجه لكون كثرة الوجود بنفسها موجبة للانصراف.

و اما غلبة الاستعمال فهي ممنوعة صغرى، فان استعمال لفظ الامر و النهي في خصوص المذكورات ليس اكثر من استعمالهما في بقية اقسام الايجاب و التحريم.

و اما كبرى و هو ان غلبة الاستعمال موجبة للانصراف فهي مسلمة في غير هذا المقام، لأن الشرط في الانصراف ان لا تقوم قرينة على خلاف المنصرف اليه و عدم ارادته في هذا الاستعمال، و في المقام قد قامت القرينة على عدم ارادته و هي عموم الملاك الشامل للمذكورات و غيرها من اقسام الايجاب و التحريم، و الى هذا اشار بقوله: ( (في مادتهما غير خالية عن الاعتساف)) و المراد من مادتهما هو لفظ الامر و النهي: أي ان دعوى الانصراف في خصوص لفظ الامر و النهي في المقام غير خالية عن التكلف، و قد اشار (قدس سره) الى ان دعوى الانصراف في صيغة الامر و النهي الى خصوص المذكورات مسلّمة و هما صيغة افعل و لا تفعل.

ثم عقّب ذلك بقوله: ( (مع انه فيها ممنوع)) و ظاهره منع الانصراف ايضا في صيغتهما كما يساعد عليه تعبيره عن التسليم بصيغة المجهول بقوله: ( (و ان سلّم)).

و لا يخفى ان هذا ينافي ما مر منه في مبحث الاوامر من تسليم الانصراف في الصيغة.

و يحتمل ان يكون سبب منع الانصراف في الصيغة في المقام فيما لو كان تعبير القوم في العنوان انه هل يجوز اجتماع افعل و لا تفعل بعنوانين في وجود واحد ام لا؟

أو انه لا وجه لدعوى الانصراف في المقام لما مر: من ان الانصراف شرطه عدم وجود القرينة على خلافه، و عموم الملاك في المقام لما يشمل جميع اقسام الايجاب و التحريم قرينة على خلافه.

ص: 35

ما وقع في البين من النقض و الابرام (1)، مثلا إذا أمر بالصلاة و الصوم تخييرا بينهما، و كذلك نهى عن التصرف في الدار و المجالسة مع الاغيار (2)، فصلى فيها مع مجالستهم، كان حال الصلاة فيها حالها، كما إذا أمر بها تعيينا، و نهى عن التصرف فيها كذلك في جريان النزاع في الجواز و الامتناع، و مجي ء أدلة الطرفين، و ما وقع من النقض و الابرام في البين، فتفطن (3).

______________________________

الوجه الثاني: لدعوى اختصاص النزاع بالمذكورات هو دعوى ان الظاهر من لفظ الامر و النهي في العنوان بواسطة الاطلاق و مقدمات الحكمة يقتضي الاختصاص بالمذكورات، لأن النفسية و التعيينية و العينيّة لا تحتاج في مقام البيان إلى التقييد، بخلاف الغيرية و التخييرية و الكفائية فان نفس لفظ الامر و النهي لا يكفي فيها بل لا بد من ذكر ما يدل عليها، و قد اشار إلى هذا بقوله: ( (نعم لا يبعد دعوى الظهور و الانسباق من الاطلاق)) و الجواب عنه ما اشار اليه بقوله: ( (غير الجارية في المقام)).

و حاصله: ان من شروط جريان مقدمات الحكمة عدم وجود القرينة، و قد عرفت ان عموم الملاك قرينة على عدم الاختصاص بالمذكورات.

(1) قوله: ( (و كذا ما وقع في البين من النقض و الابرام)) هذا معطوف على قوله في صدر المسألة و هو قوله: ( (لا يخفى ان ملاك النزاع)).

و حاصله: ان ملاك النزاع يعمّ جميع اقسام الايجاب و التحريم و كذا ادلة القوم في مقام النقض و الابرام تعمّ جميع اقسام الايجاب و التحريم، فان مدعى السراية و التضاد لا يفرق بين اقسام الايجاب و التحريم، و كذا مدعى عدم السراية لا يفرق ايضا.

(2) هذا مثال لاجتماع الامر التخييري و النهي التخييري، فانه في هذا المثال ملاك النزاع موجود و ادلة الطرفين جوازا و امتناعا تتأتى فيه.

(3) لا يخفى ان امتثال الوجوب التخييري يحصل باتيان احد طرفي التخيير، و عصيان النهي التخييري انما يكون باتيان كلا فردي التخيير، لأن النهي التخييري هو النهي

ص: 36

السادس: إنه ربما يؤخذ في محل النزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال، بل ربما قيل: بأن الاطلاق إنما هو للاتكال على الوضوح، إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال.

و لكن التحقيق مع ذلك عدم اعتبارها في ما هو المهم في محل النزاع من لزوم المحال، و هو اجتماع الحكمين المتضادين، و عدم الجدوى في كون موردهما موجها بوجهين في دفع غائلة اجتماع الضدين، أو عدم لزومه، و أن تعدد الوجه يجدي في دفعها، و لا يتفاوت في ذلك أصلا

______________________________

عن الجمع بينهما فلو تركهما أو ترك احدهما لا يكون عاصيا، فاذا نهى المولى عن التصرف في الدار و المجالسة مع الاغيار بان يكون النهي عن التصرف في الدار المقرون بالمجالسة مع الاغيار فيكون المطلوب بهذا النهي ترك احدهما، و هذا معنى كون النهي تخييريا، فعصيان هذا النهي لا يكون إلّا بالجمع بين الفردين، فاجتماع الامر التخييري بين الصلاة و الصوم الذي يحصل امتثاله باتيان الصلاة- مثلا- انما يجتمع مع هذا النهي التخييري عن التصرف في الدار و المجالسة مع الاغيار في الصلاة في الدار مع مجالسة الاغيار و لذا قال: ( (فصلى فيها)): أي في الدار ( (مع مجالستهم)): أي مع مجالسة الاغيار، فانه يجتمع- في هذه الحركة الصلاتية عنوان الامر المتعلق بالصلاة على نحو التخيير و النهي عن هذه الحركة في الدار المقرونة بمجالسة الاغيار- الامر و النهي، فان قلنا بالجواز و عدم السراية فتقع صحيحة، و ان قلنا بالامتناع و السراية و تغليب النهي أو التساقط فلا تصح.

و حال الامر و النهي التخييري حال الامر بالصلاة تعيينيا و النهي عن التصرف في الدار تعيينيا من وجود الملاك و مجي ء ادلة الطرفين، و الى هذا اشار بقوله: ( (كان حال الصلاة فيها)) على نحو التخيير ( (حالها)) على نحو التعيين من وجود ملاك النزاع و مجي ء الادلة الى آخر كلامه.

ص: 37

وجود المندوحة و عدمها، و لزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع.

نعم لا بد من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلا، لمن يرى التكليف بالمحال محذورا و محالا، كما ربما لا بد من اعتبار أمر آخر في الحكم به كذلك أيضا.

و بالجملة لا وجه لاعتبارها، إلا لاجل اعتبار القدرة على الامتثال، و عدم لزوم التكليف بالمحال، و لا دخل له بما هو المحذور في المقام من التكليف المحال (1)،

______________________________

(1)

اعتبار المندوحة و عدمه

لا يخفى ان بعضهم قيد مورد النزاع في المقام بقيد المندوحة فادعى ان النزاع في جواز الاجتماع و عدمه انما هو فيما كان للمكلف استطاعة ان يأتي بالصلاة- مثلا- في غير الدار المغصوبة، اما لو كان لا مندوحة له و لا يستطيع الاتيان في غير المحل المغصوب كالمسجون في المحل المغصوب فانه ليس موردا للنزاع لصحة صلاته قطعا اما بناء على الجواز فواضح و اما بناء على الامتناع فلسقوط النهي بالاضطرار فلا يجتمع الامر و النهي و على كل فلا اجتماع للامر و النهي حتى يكون من مورد النزاع و قد ذهب المصنف الى انه لا وجه لقيد المندوحة فيما هو المهم في النزاع في هذه المسألة.

و توضيح مرامه: ان المانع لاجتماع الامر و النهي امران:

الاول: التكليف بالمحال: بان يقال ان الامر و النهي انما لا يجتمعان في وجود واحد لانه من شرط توجه التكليف قدرة المكلف على امتثاله بحيث يستطيع ان يمتثل الامر و ان لا يعصي النهي، فلا يعقل توجه التكليف بالامر و النهي لمن لا يستطيع امتثالهما، و الذي لا مندوحة له لا يستطيع امتثال الامر و النهي فلا يعقل ان يتوجها اليه معا.

ص: 38

.....

______________________________

الثاني: ان المانع من اجتماع الامر و النهي هو انه اذا اجتمعا هل يسري احدهما الى الآخر بحيث يكون اجتماعهما موجبا لاجتماع الضدين فيكون من التكليف المحال، بخلاف المانع الاول فانه يكون من التكليف بالمحال و ذلك لأن المانع الثاني هو دعوى اجتماع الضدين و هو من الامور المحالية بالذات، لأن اجتماع الامر و النهي موجب لاجتماع الارادة و الكراهة في وجود واحد و هو محال بالذات هذا بناء على الامتناع، و اما بناء على دعوى الجواز فان القائل به يدعي ان تعدد العنوان لازمه تعدد المعنون فلا يكون اجتماعهما بعنوانين في وجود واحد من اجتماع الضدين و من التكليف المحال.

و اذا كان النزاع في ان اجتماعهما هل يكون من اجتماع الضدين و التكليف المحال ام لا يكون يسقط تقييد مورد النزاع بقيد المندوحة لما عرفت من ان قيد المندوحة انما هو فيما اذا كان المحذور هو التكليف بالمحال لا التكليف المحال، فان اجتماعهما اذا كان موجبا لاجتماع الضدين كان بنفسه من المحالات الذاتية سواء أ كان للمكلف المندوحة ام لم تكن.

و الذي يدلك على ان المهم في النزاع هو اجتماع الضدين و التكليف المحال و عدمه الذي لا يرتبط هذا النزاع بقيد المندوحة هو كون الاشعري القائل بجواز التكليف بالمحال و بغير المقدور من الداخلين في النزاع، لانه لا يقول بالتكليف المحال و بجواز اجتماع الضدين، فالاشعري القائل بالسراية يقول بالامتناع مع انه لا يرى التكليف بالمحال محذورا، فلو كان المهم في النزاع هو التكليف بالمحال الذي عليه يتقيّد عنوان النزاع بقيد المندوحة لما دخل الاشعري في جملة المتكلمين في هذا العنوان المتنازع فيه.

قوله: ( (بل ربما قيل بان الاطلاق انما هو للاتكال على الوضوح)): أي ان القائل باخذ قيد المندوحة في عنوان هذا المسألة يقول ان الذي عنون المسألة مطلقة و خالية من قيد المندوحة و لم يقيد العنوان بقيد المندوحة انما هو لاتكاله على وضوح

ص: 39

.....

______________________________

لزوم اخذ قيد المندوحة، فلذلك اطلق العنوان و لم يقيده بها، و قد اشار المصنف الى عدم اخذ المندوحة فيما هو المهم من النزاع و هو لزوم اجتماع الضدين و عدمه بقوله:

( (و لكن التحقيق مع ذلك عدم اعتبارها فيما هو المهم في محل النزاع من لزوم المحال و هو اجتماع الحكمين المتضادين)) و عدم الجدوى في كون موردهما: أي لا يجدي كون مورد الامر و النهي و هو الوجود الواحد الذي اجتمعا فيه موجها بوجهين في دفع غائلة اجتماع الضدين بناء على الامتناع و السراية ( (أو عدم لزومه)): أي عدم لزوم اجتماع الضدين في الوجود الواحد اذا اجتمعا فيه بوجهين ( (و ان تعدد الوجه يجدي في دفعها)): أي في دفع غائلة اجتماع الضدين بناء على الجواز و عدم السراية.

و اذا كان المهم من محل النزاع هو هذا فلا دخل لقيد المندوحة فيه ( (و لا يتفاوت في ذلك اصلا)): أي فيما هو المهم من محل النزاع ( (وجود المندوحة و عدمها)).

و قد اشار إلى ان قيد المندوحة انما يؤخذ فيما لو كان المهم من محل النزاع هو المانعية من حيث لزوم التكليف بغير المقدور و التكليف بالمحال، و ليس هذا هو المهم من محل النزاع بل المهم هو ما ذكرنا من لزوم اجتماع الضدين و عدمه، و ان لزوم التكليف بالمحال محذور آخر فيما لا مندوحة فيه غير ما هو المهم في النزاع في هذه المسألة بقوله: ( (و لزوم التكليف بالمحال بدونها)): أي بدون المندوحة ( (محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع)) لأن محذوره محذور لزوم اشتراط القدرة و عدم امكان التكليف بالمحال، و المهم من محل النزاع هو اجتماع الضدين و عدمه.

و قد اشار إلى ان الذي يدل على ان المهم في محل النزاع هو ما ذكرنا لا التكليف بالمحال هو كون الاشعري القائل بجواز التكليف بالمحال من الداخلين في النزاع فيما هو المهم من هذه المسألة، و لو كان النزاع في جواز التكليف بالمحال لما دخل بقوله:

( (نعم لا بد من اعتبارها)): أي لا بد من اعتبار قيد المندوحة لمن يرى ان الحكم في

ص: 40

فافهم و اغتنم (1).

______________________________

هذه المسألة هو الجواز و كان من العدلية القائلين بعدم امكان التكليف بالمحال و بغير المقدور فعليه اعتبار قيد المندوحة ( (في الحكم بالجواز فعلا)).

و على كل فقيد المندوحة انما هو ( (لمن يرى التكليف بالمحال محذورا و محالا)).

فاتضح من كلامه هذا من ان الاشعري الذي لا يرى التكليف بالمحال محذورا داخل في المتنازعين في هذه المسألة، فيدل هذا على ان المهم فيما هو محل النزاع هو اجتماع الضدين الذي لا يقول به الاشعري لو لزم ذلك من اجتماع الامر و النهي في واحد، دون التكليف بالمحال الذي يقول به و لا يراه محذورا.

قوله: ( (كما ربما لا بد من اعتبار امر آخر)): أي انه اذا عرفت خروج قيد المندوحة عما هو المهم في محل النزاع و ان المحتاج لقيد المندوحة هو القائل بالجواز من العدليّة حيث يريد استنباط حكم الصلاة بالفعل في الدار المغصوبة، فانه يحتاج إلى قيد المندوحة كما انه في مقام توجه التكليف إلى امور أخر كالبلوغ و العلم و ساير الشرائط العامة و الخاصة في مقام توجه التكليف الفعلي، و قد اشار إلى ان قيد المندوحة انما هو فيما كان المحذور هو التكليف بالمحال و هذا المحذور غير المحذور في محل النزاع و هو لزوم كون المقام من التكليف المحال بقوله: ( (و بالجملة الى آخر كلامه)).

(1) لعله اشارة الى ان لزوم اجتماع الضدين ليس قيدا في موضوع هذه المسألة، و الّا لقالوا: هل يلزم اجتماع الضدين في اجتماع الامر و النهي بعنوانين في واحد ام لا؟

و انما هو مدرك القائلين بالامتناع و بعض القائلين بالجواز، فانه و ان كان لا يرى في اجتماع الامر و النهي بعنوانين في واحد لزوم اجتماع الضدين، إلّا انه حيث كان بحثه بحثا اصوليا فهو انما يبحث عن جواز اجتماع الامر و النهي لاستنباط الحكم الفرعي، و اذا لم تكن مندوحة فلا يجتمع الامر و النهي للزوم التكليف بالمحال، فاجتماع الامر و النهي الذي يبحث عنه القائل بالجواز لاستنباط الحكم الفرعي لا بد من تقييده بقيد

ص: 41

السابع: إنه ربما يتوهم تارة أن النزاع في الجواز و الامتناع، يبتني على القول بتعلق الاحكام بالطبائع، و أما الامتناع على القول بتعلقها بالافراد فلا يكاد يخفى، ضرورة لزوم تعلق الحكمين بواحد شخصي، و لو كان ذا وجهين على هذا القول.

و أخرى أن القول بالجواز مبني على القول بالطبائع، لتعدد متعلق الامر و النهي ذاتا عليه، و إن اتحد وجودا، و القول بالامتناع على القول بالافراد، لاتحاد متعلقهما شخصا خارجا، و كونه فردا واحدا (1).

______________________________

المندوحة، فتعميم البحث الذي يقع في طريق الاستنباط من القائلين بالامتناع و القائلين بالجواز لا بد من تقييده بقيد المندوحة، و قيد المندوحة بالنسبة إلى عنوان النزاع الذي هو جواز اجتماع الامر و النهي من القائلين بالجواز ليست نسبته نسبة البلوغ و العلم، بل هو من شئون العنوان المذكور فلذا كان اللازم تقييد العنوان به.

(1)

ابتناء النزاع على تعلق الاحكام بالطبائع لا الافراد و عدمه

يشتمل هذا الامر على توهمين:

الاول: ان النزاع في جواز اجتماع الامر و النهي و عدمه انما يتأتى على القول بتعلق الطلب ايجادا أو تركا بالطبيعة، و اما بناء على تعلقه بالفرد فلا مجال لهذا النزاع.

و بيانه: انه اذا كان متعلق الطلب هو الطبيعة و الطبائع متباينات بانفسها، فاذا تصادقا على واحد فمن يرى ان تصادقهما يوجب سراية احدهما إلى الآخر لأنهما صارا بحسب الخارج واحدا، و ان كانا بذاتهما متعددين و متباينين يقول بالامتناع، و من يرى ان تصادقهما على واحد لا يجعلهما واحدا بل هما باقيان على تعددهما و تباينهما فلا موجب للسراية يقول بالجواز و هذا هو الذي ينبغي ان يكون مدركا للجواز و الامتناع.

لا ما يقال: ان الجواز مبني على تعلق الطلب بالطبيعة المقيدة بالوجود و الامتناع على القول بتعلقه بوجود الطبيعة بدعوى ان الوجود اذا كان تقيده داخلا في الطبيعة

ص: 42

و أنت خبير بفساد كلا التوهمين، فإن تعدد الوجه إن كان يجدي بحيث لا يضر معه الاتحاد بحسب الوجود و الايجاد، لكان يجدي و لو على

______________________________

يكون هو خارجا عن الطلب فيكون مدركا للجواز لعدم اجتماع الامر و النهي فيه، و اذا كان داخلا و جزء المطلوب يلزم اجتماعهما فيه فيكون مدركا للامتناع.

لانه يقال: انه بناء على تعلق الطلب بالطبيعة المقيدة بالوجود فان الوجود على هذا و ان كان خارجا عن الطلب النفسي الّا انه لا بد و ان يكون مطلوبا بطلب غيري، لانه مما يتوقف عليه تحقق المطلوب بالطلب النفسي فيكون مجمعا للامر الغيري و النهي الغيري، فلا فرق بين كون وجود الطبيعة قيدا أو جزءا، لما عرفت في الامر الخامس:

ان ملاك النزاع يشمل الغيري ايضا و لا اختصاص له بالنفسي.

و اما اذا كان متعلق الطلب هو الفرد فلا مجال لهذا النزاع لأن الفرد المتشخص في الخارج واحد و غير متعدد فلا يتأتى مناط القول بالجواز، بل لا بد من القول بالامتناع، لأنه اذا كان متعلق الطلب وجودا أو تركا هو الفرد المتشخص خارجا الذي له وجود واحد فكونه ذا وجهين و ذا عنوانين لا يجعله متعددا وجودا، فلا ينفع تعدد العنوان للقول بالجواز، و الى هذا اشار بقوله: ( (ضرورة لزوم تعلق الحكمين بواحد شخصي و لو كان ذا وجهين)). هذا هو التوهم الاول.

و اما التوهم الثاني: فهو ان القول بالجواز يبتني على تعلق الطلب بالطبيعة لأن الطبائع متباينات بالذات و تصادقهما على وجود واحد لا يجعل المتعدد و المتباين بالذات واحدا.

و القول بالامتناع يبتني على القول بتعلق الطلب بالفرد لأن الفرد متشخص و واحد خارجا و الواحد الخارجي المتشخص لا يتعدد بتعدد الوجه و العنوان، و الى هذا التوهم اشار بقوله: ( (و اخرى ان القول بالجواز مبني على القول بالطبائع ...

الى آخر كلامه)).

ص: 43

القول بالافراد، فإن الموجود الخارجي الموجه بوجهين، يكون فردا لكل من الطبيعتين، فيكون مجمعا لفردين موجودين بوجود واحد، فكما لا يضر وحدة الوجود بتعدد الطبيعتين، كذلك لا يضر بكون المجمع اثنين بما هو مصداق و فرد لكل من الطبيعتين، و إلا لما كان يجدي أصلا، حتى على القول بالطبائع، كما لا يخفى، لوحدة الطبيعتين وجودا و اتحادهما خارجا، فكما أن وحدة الصلاتية و الغصبية في الصلاة في الدار المغصوبة وجودا غير ضائر بتعددهما و كونهما طبيعتين، كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيات الصلاة فيها وجودا غير ضائر بكونه فردا للصلاة، فيكون مأمورا به، و فردا للغصب فيكون منهيا عنه، فهو على وحدته وجودا يكون اثنين، لكونه مصداقا للطبيعتين، فلا تغفل (1).

______________________________

(1) لا ينبغي ان يخفى انه إذا اثبتنا تأتي النزاع على القول بتعلق الطلب بالفرد، و انه لا فرق في تأتي النزاع بينه و بين تعلق الطلب بالطبيعة.

يتضح فساد كلا التوهمين فانه اذا امكن تأتي النزاع على القول بالفرد يفسد التوهم الاول الذي ادعى انه على القول بالفرد لا يتأتى النزاع، فانه اذا ثبت امكان دعوى الجواز حتى بناء على تعلق الطلب بالفرد يتضح منه فساد دعوى اختصاص النزاع بخصوص القول بالطبيعة، و ايضا يفسد التوهم الثاني الذي ادعى انه بناء على التعلق بالفرد لا وجه للقول بالجواز و انه انما يتأتى على القول بالتعلق بالطبيعة، فان ثبوت امكان تأتي النزاع حتى بناء على التعلق بالفرد لازمه فساد هذا التوهم ايضا، لانه مع امكان القول بالجواز حتى اذا قيل بتعلق الطلب بالفرد لا وجه لاختصاص القول بالجواز بتعلق الطلب بالطبيعة، و لذلك جعل المصنف الجواب عن هذين التوهمين واحدا: و هو امكان القول بالجواز حتى بناء على تعلق الطلب بالفرد.

ص: 44

.....

______________________________

و توضيحه: انه بناء على كون التشخص بالوجود لا بلوازم الطبيعة المقارنة لوجودها كالزمان و المكان لا وقع لهذين التوهمين، لوضوح ان الصلاة المطلوبة اذا كانت تتشخص بنفس وجودها، و مقارناتها من المقولات الأخر خارجة عما به تشخصها، و الفرد هو ليس إلّا الطبيعة المتشخصة، ففرد طبيعة الصلاة هو الصلاة المتشخصة بالوجود و فرد الغصب الموجود منضما اليها ليس به تشخصها، فلا ينبغي ان يتوهم احد ان الغصب الذي لا ربط له بشخص الصلاة، و انما هو مقارن لها لا بد من ان يسرى إلى فرد الصلاة حتى على القول بالجواز فلا يمكن الا القول بالامتناع، بل يمكن ان يقال بجواز الاجتماع لانه بعد ان كان فرد الصلاة غير الغصب و ليس هناك إلّا انهما اجتمعا في وجود واحد فلا سراية لاحدهما الى الآخر. و يمكن ايضا ان يقال: انه حيث اجتمعا في وجود واحد تتحقق السراية فلا يجوز الاجتماع.

نعم، بناء على ما مرّ من المصنف: من ان التشخص بلوازم الوجود من المقولات المقارنة في الوجود للطبيعة يكون لهذين التوهمين وجه.

لأن الفرد الصلاتي يكون تشخصه بما يقارنه فيكون الغصب المقارن له من مشخصاته، و لا بد من سريان ما به التشخص إلى ما يتشخص به، فان الغصب اذا كان هو المشخص للفرد الصلاتي فدعوى سريان قبحه اليه له وجه فيكون الفرد الصلاتي قبيحا، و لا يعقل امر المولى بالقبيح فلا يعقل بناء على تعلق الامر بالافراد القول بالجواز.

و الجواب عنه: ان المتشخص و ان كان هو المقارن إلّا ان المشخص لفرد الصلاة هو الكون في المكان بما هو كون في المكان، و الغصبية خارجة عن حقيقة الكون في المكان بما هو مقولة المكان، فما به التشخص الذي هو الكون في المكان ليس قبيحا و انما القبيح هو الغصبية المتحققة في هذا الكون المكاني و هي خارجة عن الكون المكاني بما هو مقولة المكان.

ص: 45

.....

______________________________

فاتضح انه حتى لو قلنا بان التشخص باللوازم يمكن ان يقال بالجواز ايضا، لأن المشخص للفرد الصلاتي ليس هو الغصب بل تشخصه بنفس مقولة المكان، و الغصب خارج عن مقولة المكان بما هي مقولة المكان.

فيمكن ان يقال بالجواز لأن تعدد الوجه في هذا الوجود الواحد الجامع للفردين- الذي لم يكن احدهما مشخصا للفرد الآخر- مجد في عدم سراية احدهما للآخر.

و يمكن ان يقال بالامتناع لأن اجتماعهما في الوجود الواحد يوجب السراية.

و بعبارة اخرى: ان كون المجمع لهما وجودا واحدا ان كان يقتضي السراية و لا يجدي فيه تعدد الوجه فلا فرق بين كون متعلق الامر و النهي هو الطبيعة أو الفرد، فانه بناء على انه هو الطبيعة فقد جمع الطبيعتين وجود واحد، و بناء على الفرد فانه ايضا قد جمع الفردين وجود واحد، و اذا كان كون المجمع وجودا واحدا لا يقتضي السراية و ان تعدد الوجه يجدي في عدم السراية فلا فرق ايضا بين كون متعلق الامر و النهي هو الطبيعة أو الفرد.

و الحاصل: ان المانع من جواز الاجتماع انما هو كون المجمع وجودا واحدا و ان تعدد الوجه فيه لا ينفع حيث يكون المجمع وجودا واحدا، و اما كون متعلق الامر و النهي هو الفرد فلا يضر القائل بالجواز، كما ان كون متعلقهما هو الطبيعة لا ينفعه اذا كان وحدة وجود المجمع مانعة عن الاجتماع.

و اذا لم تكن وحدة وجود المجمع منافية للقول بالجواز فلا ينافيه كون متعلق الامر و النهي هو الفرد، و الى هذا اشار بقوله: ( (فكما ان وحدة الصلاتية و الغصبية في الصلاة في الدار المغصوبة وجودا غير ضائر)): أي ان الذي عليه يدور الجواز و الاجتماع هو كون المجمع وجودا واحدا، و اما كون المتعلق هو الطبائع أو الافراد فلا يضر و لا ينفع، فاذا كان اجتماعهما في وجود واحد غير ضائر لانه لا يوجب السراية فلا فرق بين كون المتعلق الطبيعة أو الفرد، و لذا قال: ( (كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيات الصلاة فيها وجودا)): أي الخصوصيات الصلاتية التي

ص: 46

الثامن: إنه لا يكاد يكون من باب الاجتماع، إلا إذا كان في كل واحد من متعلقي الايجاب و التحريم مناط حكمه مطلقا، حتى في مورد التصادق و الاجتماع، كي يحكم على الجواز بكونه فعلا محكوما بالحكمين و على الامتناع بكونه محكوما بأقوى المناطين، أو بحكم آخر غير الحكمين فيما لم يكن هناك أحدهما أقوى، كما يأتي تفصيله.

و أما إذا لم يكن للمتعلقين مناط بذلك، فلا يكون من هذا الباب، و لا يكون مورد الاجتماع محكوما إلا بحكم واحد منهما، إذا كان له مناطه، أو حكم آخر غيرهما، فيما لم يكن لواحد منهما، قيل بالجواز أو الامتناع (1)،

______________________________

بها تكون الصلاة فردا و مشخصة وجودا، فان وحدة المجمع في الوجود حيث لا تكون مضرة بناء على التعلق بالطبيعة كذلك لا تكون مضرة اذا كان هذا المجمع الواحد قد اجتمع فيه فرد من الصلاة بما له من المشخصات الوجوديّة غير المرتبط بالفرد الغصبي و هو ( (غير ضائر بكونه فردا للصلاة فيكون مامورا به)) و غير ضائر بكون هذا المجمع الواحد وجودا ( (و فردا للغصب)) ايضا ( (فهو على وحدته وجودا يكون اثنين لكونه مصداقا للطبيعتين)) و يكون ايضا اثنين لكونه مصداقا للفردين، لما عرفت من ان كلا من الفردين غير مشخص للآخر و ليس له ربط في تشخصه، و اذا لم يكن فرد الغصب مشخصا لفرد الصلاة فحال الفرد كالطبيعة من ناحية القول بالجواز و عدمه، و انما المانع عن القول بالجواز هو كون المجمع وجودا واحدا، فاذا لم يكن هذا مانعا فليس هناك مانع غيره.

(1)

صغروية المسألة لكبرى التزاحم لا التعارض

هذا الامر معقود لبيان تعيين مورد مسألة اجتماع الامر و النهي في مرحلتي الثبوت و الاثبات.

و الكلام اولا في بيان مرحلة الثبوت الذي اشار اليها في آخر كلامه بقوله: هذا بحسب مقام الثبوت.

ص: 47

.....

______________________________

فنقول: حيث كان الكلام في مسألة الاجتماع ان اجتماع متعلقي الايجاب و التحريم في مصداق واحد وجودا هل يمنع من الاجتماع ام لا؟ فلا بد من تحقق كلا متعلقي الايجاب و التحريم فيما تصادقا عليه، لأن تحقق الحكم يتبع تحقق مناطه في متعلقه، فانه لا يعقل تحقق الحكم من دون تحقق مناطه لانه يكون من قبيل تحقق المعلول من غير علة، و اذا لم يتحقق مناط الحكم لا يتحقق الحكم و اذا لم يتحقق الحكم فلم يجتمع الحكمان، و لذلك فلا بد في كون المورد من مسألة الاجتماع من تحقق مناط كلّ من الحكمين في مورد التصادق، فانه ما لم يتحقق مناط كلا الحكمين في مورد التصادق لا يكون الحكمان مجتمعين في مورد التصادق فلا يكون المورد من مسألة الاجتماع.

و لا يخفى ايضا انه لا بد من كون كل المناطين فعليا في مورد التصادق، فانه اذا كان احد المناطين اقتضائيا لا فعليا فالحكم يتبعه و يكون اقتضائيا ايضا، و لا اثر للحكم في مرحلة الاقتضاء، بل يصح ان يسلب عن كونه حكما بالحمل الشائع، و كذلك اذا كان احدهما انشائيا لا فعليا فان مورد التزاحم و التأثير انما هو مرتبة الفعلية، فما لم يكن الحكم حكما فعليا لا يزاحم حكما آخر و لا يعارضه.

فمورد مسألة الاجتماع ينحصر في المرتبة الفعلية للايجاب و التحريم فاذا تحقق المناطان للحكمين في مرحلة الفعلية يكون المورد الذي تصادقا فيه بالفعل من مسألة الاجتماع.

فعلى الجواز يكون مورد التصادق فعلا محكوما بالحكمين الايجابي و التحريمي و لذا قال (قدس سره): ( (كي يحكم على الجواز بكونه فعلا محكوما بالحكمين)).

و اما على الامتناع فان كان احد المناطين اقوى و غالبا على غيره فيكون هو الباقي و يسقط الآخر و يكون مورد التصادق اما واجبا فيما تغلبت جهة المصلحة الوجوبية بنحو ان يكون المقدار الزائد على المفسدة التحريمية بحد الالزام، و اما اذا كان الباقي من المصلحة المزاحمة بالمفسدة ليس بحد الالزام فانه يكون مستحبا.

ص: 48

.....

______________________________

و مثله في جهة المفسدة فانها اذا كانت غالبة على المصلحة الوجوبية يسقط الوجوب و يبقى التحريم اذا كان الباقي من المفسدة التحريمية المزاحمة بالمصلحة الوجوبية بحد الالزام، و اذا لم تكن بحدّ الالزام فان المورد يكون مكروها بعد سقوط الوجوب.

و مراده من قوله: ( (و على الامتناع بكونه محكوما باقوى المناطين)) هو ما اذا كان الباقي بحد الالزام أو ان مراده تغلب قوة جهة المصلحة و المفسدة و لا يكون ناظرا الى بقاء الحكم بما هو وجوب أو حرمة، و اذا تكافأ المناطان من المصلحة و المفسدة و لم يكن احدهما اقوى فيسقطان معا و يحكم بغيرهما من الاحكام، و الظاهر هو الاباحة، و الى هذا اشار بقوله: ( (أو بحكم آخر الى آخر كلامه))، و مراده من قوله: ( (كما يأتي تفصيله)) هو ما سيذكره في الامر التاسع.

فاتضح مما ذكرنا ان مورد مسألة الاجتماع انما يكون فيما اذا تحقق المناطان في مورد التصادق بنحو الفعلية.

و اما اذا لم يتحقق المناطان في مورد التصادق بنحو الفعلية و لو بان يكون احدهما اقتضائيا أو انشائيا فلا يكون مورد التصادق من مسألة الاجتماع.

و قد يقال: لا يكون ايضا من مورد باب التعارض لأن باب التعارض مورده الادلة، و الادلة انما تكون ادلة في مرحلة الاثبات لا في مرحلة الثبوت، فمرحلة الثبوت ليس مورد باب التعارض.

و فيه: ان الفرق بين مرحلة الثبوت و الاثبات هو ان النظر في مرحلة الثبوت الى الواقع بما هو، و في مرحلة الاثبات الى كيفية اثبات ذلك الواقع من دليل ظاهر أو نص أو اجماع أو عقل، و الّا فلو علمنا لا من دليل ان المتحقق بالفعل احد المناطين لم يكن المورد من باب الاجتماع و كان من باب التعارض لأن الضابط فيه التكاذب.

و على كل اذا لم يتحقق المناطان لا يكون مورد التصادق من باب الاجتماع، و اذا لم يكن من باب الاجتماع فان تحقق احد المناطين فالحكم حكم ذلك المناط

ص: 49

هذا بحسب مقام الثبوت (1).

و أما بحسب مقام الدلالة و الاثبات، فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان، إذا احرز أن المناط من قبيل الثاني، فلا بد من عمل المعارضة حينئذ بينهما من الترجيح و التخيير، و إلا فلا تعارض في البين، بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين، فربما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلا، لكونه أقوى مناطا، فلا مجال

______________________________

المتحقق، و اذا لم يتحقق اصلا و لا واحد من المناطين يكون حكم المورد حكما آخر سواء قلنا في مورد تحقق كلا المناطين بالجواز أو بالامتناع، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (و اما اذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك)): أي مناط متحقق في مورد التصادق بالفعل ( (فلا يكون من هذا الباب)): أي من باب الاجتماع الى آخر كلامه.

(1)

حكم الدليلين المتكفلين للحكمين

قد اشرنا انه سيذكر ان كلامه من اول هذا الامر الى هنا انما هو في مرحلة الثبوت.

قوله: ( (و الّا فلا تعارض في البين)) أي و ان احرزنا كلا المناطين.

قوله: ( (بل كان من باب التزاحم)). قد عرفت انه يكون موردهما مورد التزاحم بناء على الامتناع لا الجواز، و قد عرفت ايضا انه انما يكونان من المتزاحمين لا المتعارضين فيما اذا كانا متعرضين لا للحكم الفعلي، و يدل عليه قوله فيما بعد: لو كان كل منهما متكفلا للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض.

قوله: ( (لو لم يوفق بينهما)). أي ان ملاحظة مرجحات باب المعارضة انما هو فيما اذا لم يحرز قوة احد المناطين أو كان احدهما مضيقا و الآخر موسعا، و الّا فيتقدم الاقوى منهما مناطا أو المضيق منهما و لا يلاحظ بينهما مرجحات باب المعارضة و يحمل الأضعف منهما أو الموسع على الحكم الاقتضائي.

ص: 50

حينئذ لملاحظة مرجحات الروايات أصلا، بل لا بد من مرجحات المقتضيات المتزاحمات، كما يأتي الاشارة إليها.

نعم لو كان كل منها متكفلا للحكم الفعلي، لوقع بينهما التعارض، فلا بد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة، لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة (1)،

______________________________

(1) لما فرغ من بيان مورد الاجتماع في مرحلة الثبوت تعرض لبيانه في مرحلة الاثبات.

و بيانه: ان الروايتين الدالتين على الايجاب و التحريم اذا احرزنا ان المتحقق بالفعل مناط احدهما فقط فانهما يكون موردهما من باب التعارض لعدم معرفة المناط المتحقق بعينه و لانهما متكاذبان لأن الموجود الصادر هو احد الحكمين لا كلاهما على الفرض، فسواء قلنا في باب الاجتماع بالجواز أو الامتناع لا يكون الحكمان اللذان دلت عليهما الروايتان من باب الاجتماع، لوضوح انه اذا لم يكن الا مناط احد الحكمين فالمتحقق حكم واحد لا حكمان حتى يمكن ان يقال بجواز اجتماعهما و عدمه- بناء على الجواز و بناء على الامتناع- فالقول بالتزاحم في مورد و التعارض في مورد آخر انما هو اذا احرز كلا المناطين لا فيما اذا كان المتحقق احد المناطين.

و على كل اذا احرز ان المتحقق احد المناطين فقط فهما لتكاذبهما من المتعارضين، و لا بد من المعاملة معهما معاملة باب التعارض من الترجيح لاحدهما أو التخيير بينهما على تفصيل يذكر في باب التعارض، و الى هذا اشار بقوله: ( (اذا احرز ان المناط من قبيل الثاني)) و هو ما اذا كان المتحقق احد المناطين لا على التعيين فهما متكاذبان ( (فلا بد من عمل المعارضة حينئذ بينهما من الترجيح و التخيير)).

و اما اذا احرزنا تحقق مناطيهما معا بأن احرزنا من الخارج المصلحة الايجابية و المفسدة التحريمية فان كانت الروايتان لا في مقام بيان الحكم الفعلي بل كانتا في مقام

ص: 51

.....

______________________________

التشريع- مثلا- و لبيان الحكم بمرتبته الاقتضائية أو الانشائية فلا يدخل مورد الروايتين في باب التعارض سواء قلنا بالجواز أو الامتناع.

اما على الجواز فواضح، لانه مع احراز كلا المناطين فلا بأس باجتماعهما و لا تزاحم بينهما في المرحلة الفعلية فضلا عن غيرها.

و اما على الامتناع فلأن المدار في باب التعارض على التكاذب في المرحلة الفعلية، و المفروض عدمها و تكون الروايتان على الامتناع من المتزاحمين لاحراز المناطين في حكمهما الايجابي و التحريمي، و حيث لا يمكن ان يؤثرا معا على الامتناع فهما متزاحمان، و لا بد ان يعامل معهما معاملة باب التزاحم و هو ترجيح اقواهما مناطا و ان كان اضعف دليلا سندا أو دلالة، فلو كان الاقوى مناطا حسنا أو موثقا و الاضعف مناطا صحيحا اعلائيا قدم الحسن أو الموثق عليه، بخلاف باب التعارض فان الترجيح فيه للاقوى سندا فيقدم الصحيح، و كذا لو كان الاقوى مناطا ظاهرا و الأضعف مناطا اظهر يتقدم الظاهر الاقوى مناطا على الاظهر الأضعف مناطا، هذا اذا لم تكن الروايتان في مقام بيان الحكم الفعلي و قد احرزنا كلا المناطين.

و اما اذا كانتا في مقام بيان الحكم الفعلي و قد احرزنا كلا المناطين.

فعلى الجواز لا يدخلان في باب التعارض و لا باب التزاحم اذ لا مانع من تاثيرهما معا و لا تكاذب بينهما.

و اما على الامتناع فحيث لا يمكن ان يؤثرا معا في مرحلة الفعلية فيكونان متكاذبين في هذه المرحلة، فان احرزنا من الخارج قوة احد المناطين فيتقدم الاقوى منهما أو كان احدهما موسعا و الآخر مضيقا فيتقدم المضيق و ان كان اضعف مناطا، لعدم فوات الاقوى لكونه موسعا، و ان لم يحرز احد المناطين و لم يكن احدهما مضيقا بان كانا مضيقين- مثلا- فيعامل معهما معاملة باب التعارض، فيقدم ما هو اقوى سندا أو دلالة و يكون كاشفا حيث لا كاشف غيره عن قوة الاقوى منهما مناطا.

ص: 52

فتفطن (1).

التاسع: إنه قد عرفت أن المعتبر في هذا الباب، أن يكون كل واحد من الطبيعة المأمور بها و المنهي عنها، مشتملة على مناط الحكم مطلقا، حتى في حال الاجتماع، فلو كان هناك ما دل على ذلك من اجماع أو غيره فلا إشكال، و لو لم يكن إلا اطلاق دليلي الحكمين، ففيه تفصيل و هو: إن الاطلاق لو كان في بيان الحكم الاقتضائي، لكن دليلا على ثبوت المقتضي و المناط في مورد الاجتماع، فيكون من هذا الباب، و لو كان بصدد الحكم الفعلي، فلا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي في

______________________________

(1)

ما يتعلق بدليل الحكمين اثباتا

ربما يكون اشارة الى ما ذكره من ان التزاحم بين المقتضيين في غير المرتبة الفعلية لدلالة قوله فيما بعد نعم انهما من المتعارضين اذا كانا متكفلين للحكم بمرتبة الفعلية، و ربما يقال بان التزاحم بين المقتضيين انما يكون في مرحلة التأثير في المرتبة الفعلية بان يكون احدهما بعثا بالفعل و الآخر زجرا بالفعل، و اما المقتضيان في غير هذه المرحلة من مرحلة الاقتضاء فلا تزاحم بينهما، اذ كون المصلحة في ذاتها لها اقتضاء للحكم الايجابي اقتضاء و للمفسدة اقتضاء للحكم التحريمي اقتضاء لا يوجب تزاحما بينهما في اقتضائهما الذي هو ذاتي، و انما يتزاحمان حيث تؤثر المصلحة حكما ايجابيا فعليا و المفسدة تؤثر حكما تحريميا فعليا، و كذلك لا تزاحم بينهما في مرحلة الانشاء و جعل القانون بحيث لو علم بهما كانا فعليين كما في الاحكام المخزونة الى ظهور صاحب الامر عليه السّلام، و انما يتزاحمان في مرحلة الانشاء الذي بحيث لو علم بها لكانت الاحكام فعلية منجزة، و هذه المرحلة من الانشاء هي الفعلية من قبل المولى.

فينبغي ان يقال: انهما بناء على الامتناع هما متزاحمان في المرحلة الفعلية لعدم امكان تاثيرهما معا، فان علم الاقوى منهما مناطا أو كان احدهما موسعا و الآخر مضيقا قدم الاقوى منهما و المضيق منهما، و الّا فيعامل معهما معاملة المتعارضين لتكاذبهما في مرحلة الفعلية فيقدم اقواهما سندا أو دلالة.

ص: 53

الحكمين على القول بالجواز، إلا إذا علم إجمالا بكذب أحد الدليلين، فيعامل معهما معاملة المتعارضين.

و أما على القول بالامتناع فالاطلاقان متنافيان، من غير دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلا، فإن انتفاء أحد المتنافيين، كما يمكن أن يكون لاجل المانع مع ثبوت المقتضي له، يمكن أن يكون لاجل انتفائه، إلا أن يقال: إن قضية التوفيق بينهما، هو حمل كل منهما على الحكم الاقتضائي، لو لم يكن أحدهما أظهر، و إلا فخصوص الظاهر منهما (1).

______________________________

(1) لما بين في الامر السابق مورد باب الاجتماع و انه لا بد من احراز كلا المناطين فيه عقبه بهذا الامر لبيان ان الحال فيما به يحرز المناطان يختلف، فان كان المحرز لتحقق المناطين في مورد الاجتماع إجماعا أو نصا فلا اشكال انه من مسألة باب اجتماع الامر و النهي، فعلى الجواز يتحقق في المأتي به الامتثال و العصيان و لا تزاحم و لا تعارض، و على الامتناع يعامل معهما معاملة باب التزاحم ان امكن تعيين الاقوى مناطا أو كان احدهما موسعا و الآخر مضيقا، و الّا فيعامل معهما معاملة المتعارضين فيقدم الاقوى سندا أو دلالة، هذا اذا دل النص أو الاجماع على تحقق المناطين، فعلا و اما اذا دل على تحقق المناطين اقتضاء فيعلم حاله مما سيأتي فيما اذا كان المحرز للمناطين هو الاطلاق.

و ان كان المحرز هو الاطلاق فيختلف الحال على الجواز و الامتناع.

فانه على الجواز لا تزاحم بينهما و لا تعارض فيما اذا كان الاطلاق في مقام بيان الحكم الفعلي فضلا عن الاقتضائي، و يحرز بالاطلاق وجود كلا المناطين الّا اذا علم من الخارج بكذب احد الدليلين و ان الصادر احدهما لا على التعيين، فانه مع العلم بكذب احد الدليلين يعلم بان المتحقق احد المناطين فقط، فالموجود حكم واحد

ص: 54

.....

______________________________

منهما لا كلاهما، و حيث لا يعلم به على التعيين فهما متكاذبان فيعامل معهما معاملة باب التعارض و يكونان من المتعارضين.

ثم لا يخفى انه قد عرفت مما مرّ ان الحكمين في مرتبة الاقتضاء لا تزاحم بينهما و لا تعارض، فسواء قلنا بالجواز أو الامتناع في مرحلة الفعلية لا مانع من اجتماعهما في مرتبة الاقتضاء، فاذا كان الاطلاق في مقام التشريع و بيان الحكم بمرتبته الاقتضائية يكون الحكم كاشفا عن ثبوت المقتضي بحسب كشف المعلول عن علته إنّا على الجواز و على الامتناع، و لكنه في مرحلة الاقتضاء لا يكشف الحكم الّا عن ثبوت مقتضيه فقط و لا كاشفية له عن شرائط التأثير و عدم المانع المزاحم للتأثير.

نعم الحكم في مرتبته الفعلية لا بد و ان يكون كاشفا عن ثبوت المقتضي له و شرائطه و عدم المانع عن التأثير، اذ الحكم في مرتبة الفعلية هو في مرتبة وجوده و كونه حكما موجودا بالحمل الشائع، و لا يوجد المعلول الا بعد وجود علته التامة التي هي المقتضي و شرط تأثيره و عدم المانع عن تأثيره، فان المؤثر في الاحراق- مثلا- هي النار المقاربة للجسم المحترق مع عدم الرطوبة في الجسم المانعة عن الاحراق، و اما لو وجدت النار وحدها فالاحراق ليس بموجود بالفعل، بل هو ثابت بثبوت اقتضائي، و الحكم في مرحلة الاقتضاء كذلك ثابت بثبوت المصلحة ثبوتا اقتضائيا: بمعنى ان المصلحة لها قابلية التأثير في نفس المولى ان يوجد الحكم لو اجتمعت شرائطه، فيخرج الحكم من حدود الاقتضاء إلى حدود الفعلية و يكون حكما فعليا خارجيا، فالمقتضي في مرحلة الاقتضاء له قابلية التأثير لا فعلية التأثير، و الحكم ليس بموجود الا اقتضاء، و المقتضيان المتمانعان في مرحلة التأثير لا تزاحم بينهما في مرحلة القابلية و انما يتزاحمان في مرحلة الفعلية التي هي مرحلة التأثير، فلا تزاحم و لا تعارض بين الحكمين في مرحلة الاقتضاء سواء قلنا بالجواز في مرحلة الفعلية أو بالامتناع، فاذا كان الاطلاقان في مقام بيان الحكم الاقتضائي فلا مانع من اجتماعهما في مورد واحد سواء قلنا بالجواز أو الامتناع، اذ لا ثبوت للحكم بذاته في هذه المرحلة و انما الثبوت

ص: 55

.....

______________________________

الخارجي لمقتضيه و قد عرفت انه لا مانع من اجتماع المقتضيات في غير مرحلة التأثير.

و حيث كان الحكم كاشفا عن سببه كشف المعلول عن علته، فالحكم الاقتضائي الدال عليه الاطلاق يكشف عن ثبوت المقتضى فقط و لا كشف له عن سائر الشرائط لأنها انما يكشف عنها الحكم في مرتبته الفعلية لا الاقتضائية.

و قد تبين مما ذكرنا: انه لا مانع من استكشاف ثبوت المناط الذي هو المقتضي بهذا الاطلاق في مورد الاجتماع، فالاطلاق الدال على ثبوت الوجوب اقتضاء دال على ثبوت مقتضيه، و الاطلاق الدال على ثبوت الحرمة اقتضاء دال على ثبوت مقتضيها، و لا مانع من اجتماع مقتضي الوجوب و مقتضي الحرمة في مورد واحد سواء قلنا بالجواز أو الامتناع في مرحلة الفعلية و لذا قال (قدس سره): ( (و لو لم يكن الّا اطلاق دليلي الحكمين ففيه تفصيل و هو ان الاطلاق لو كان في)) مقام ( (بيان الحكم الاقتضائي لكان دليلا على ثبوت المقتضي و المناط في مورد الاجتماع)).

و من تفصيله الآتي في مرحلة الفعلية و عدم تفصيله هنا يفهم منه انه في مرحلة الاقتضاء لا مانع من استكشاف ثبوت كلا المقتضيين في مورد الاجتماع على الجواز و على الامتناع.

هذا كله اذا كان الاطلاق في مقام بيان الحكم الاقتضائي بان يراد بثبوت الوجوب ثبوت مصلحته و بثبوت الحرمة ثبوت مفسدتها.

و اما اذا كان الاطلاق في مقام بيان الحكم بمرتبته الفعلية فيختلف الحال على الجواز و على الامتناع.

فعلى الجواز لا مانع من ثبوت المقتضي لكلا الحكمين، اذ لا مزاحمة بينهما و لا منافاة في مقام التأثير، بل على الجواز يستكشف من وجود الحكم وجود علته التامة من مقتضيه و شرائط تأثيره و عدم المزاحم له في التأثير. نعم اذا علم من الخارج بكذب احدهما فلا بد من المعاملة معهما معاملة المتعارضين كما مر بيانه- ايضا- فيما اذا كان المحرز للمناط الاجماع أو النص، و الى هذا اشار بقوله: ( (فلا اشكال في

ص: 56

.....

______________________________

استكشاف ثبوت المقتضي في الحكمين على القول بالجواز إلّا اذا علم الى آخر كلامه)).

و اما على الامتناع فالذي يظهر من المصنف انه لا دلالة على ثبوت المقتضيين لانه قال: ( (و اما على القول بالامتناع فالاطلاقان متنافيان من غير دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع اصلا)) ثم اشار الى الوجه في ذلك بقوله:

( (فان انتفاء احد المتنافيين كما يمكن ان يكون لاجل المانع مع ثبوت المقتضى له يمكن ان يكون لاجل انتفائه)): أي لاجل انتفاء المقتضي ايضا.

و حاصله: انه بناء على الامتناع فاجتماع الحكمين الوجوبي و التحريمي في مرتبة الفعلية غير معقول، و لا بد ان يكون الموجود في هذه المرتبة احدهما فقط و الآخر منتف، و حيث لا يدرى ان المنتفي منهما كان انتفاؤه لوجود المانع المزاحم للمقتضى له في مقام التأثير أو ان انتفائه كان لعدم المقتضي رأسا، و التنافي بينهما لا يدل على اكثر من عدم وجودهما معا فعلا، و لا دلالة للتنافي على ثبوت المقتضى لهما معا و انه اثر احدهما و لم يؤثر الآخر، فيحتمل ان يكون عدم وجودهما معا لثبوت المقتضى لاحدهما و عدم ثبوت المقتضى للآخر، و يحتمل ان يكون لوجود المانع عن تأثيره بعد ثبوته و لا دافع لهذا الاحتمال.

و لكنه لا يخفى ان الحكم بمرتبته الفعلية كاشف عن علته التامة من المقتضي و الشرط و عدم المانع الذي من جملته عدم مقتض آخر يزاحمه في تأثيره، و حيث كان مع هذا الحكم حكم آخر مناف له و هو كاشف ايضا عن ثبوت مقتض و شرط و عدم المانع، و حيث انهما متنافيان فلا بد ان لا يكون الحكمان معا موجودين، و لكن الحكم الذي لم يؤثر مقتضيه فعلا لا يسقط كشفه عن ثبوت مقتضيه و ساير شرائطه عدا عدم وجود المانع، لتحقق المانع له وجدانا و هو المقتضي للآخر الذي يحتمل انه هو الاقوى، و لذا لو سقط تأثير هذا المقتضي الثاني لنسيان أو جهل لا نحتاج الى تحقق الحكم في الآخر الى محرز له غير الاطلاق الذي كان.

ص: 57

فتلخص أنه كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين، كان من مسألة الاجتماع، و كلما لم تكن هناك دلالة عليه، فهو من باب التعارض مطلقا، إذا كانت هناك دلالة على انتفائه في أحدهما بلا تعيين و لو على الجواز، و إلا فعلى الامتناع (1).

______________________________

فاتضح: انه على الامتناع لا تسقط كاشفية الحكم عن ثبوت مقتضيه، و لا فرق في هذه الكاشفية عن ثبوت المقتضى بين القول بالجواز أو الامتناع، و لعله لهذه الكاشفية قال المصنف: ( (الّا ان يقال ان قضية التوفيق بينهما الى آخر كلامه)) لوضوح ان التوفيق بينهما بحمل احدهما و هو المغلوب على الحكم الاقتضائي لا يكون جزافا، بل انما يحمل احدهما على كونه اقتضائيا الذي لازمه ثبوت المقتضى له و ان المانع منع عن التأثير فعلا لكاشفية الحكم عن ثبوت مقتضيه كشف المسبب عن سببه، هذا اذا كان احدهما اظهر، فان أظهريته تدل بالملازمة على اقوائية المناط فيه.

و اما اذا تساويا في الظهور فالتنافي بينهما يمنع عن فعليتهما، و حيث انهما متساويان فيتساقطان في الفعلية لمزاحمة كلّ منهما لتأثير الآخر، و يبقى كشفهما عن ثبوت المقتضى لهما فيحملان معا على الاقتضاء و لذا قال (قدس سره): ( (ان قضية التوفيق بينهما هو حمل كل منهما على الحكم الاقتضائي)) و ذلك فيما اذا تساويا في الظهور.

و اما اذا كان احدهما اظهر فيحمل خصوص الظاهر منهما على الحكم الاقتضائي و يكون حكم الاظهر هو الفعلي، و لذا قال: ( (لو لم يكن احدهما اظهر و الّا فخصوص الظاهر منهما)): أي انه اذا لم يتساويا في الظهور و كان احدهما اظهر فالمحمول على الحكم الاقتضائي هو خصوص الظاهر منهما و الاظهر يكون فعليا.

(1) هذا تلخيص لما ذكره في هذا الامر التاسع.

و حاصله: انه اذا دل الدليل على ثبوت المقتضى للحكمين في مورد الاجتماع كالاجماع و النص فالمورد يكون من مسألة اجتماع الامر و النهي، فعلى الجواز يكون

ص: 58

العاشر: إنه لا إشكال في سقوط الامر و حصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الامر على الجواز مطلقا، و لو في العبادات، و إن كان معصية للنهي أيضا، و كذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الامر، إلا أنه

______________________________

امتثالا و عصيانا، و على الامتناع تلاحظ اولا مرجحات باب المزاحمة و يكون من باب التزاحم، فان لم توجد فيدخل في باب التعارض و يعامل معهما معاملة المتعارضين، و الى هذا اشار بقوله: ( (كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضى الى آخر الجملة)).

و اذا لم يدل الدليل من الاجماع و النص على ثبوت المقتضي للحكمين في المورد و هذا على نحوين:

الاول: ان يدل دليل من الخارج على ان الصادر هو احد الحكمين لا غير من دون تعيين فالمورد يكون من باب التعارض على الجواز و على الامتناع، و الى هذا اشار بقوله: ( (و كلما لم تكن هناك دلالة عليه)): أي على ثبوت المقتضى في كلا الحكمين ( (فهو من باب التعارض مطلقا)): أي على الجواز و الامتناع، لكنه فيما ( (اذا كانت هناك دلالة على انتفائه في احدهما بلا تعيين)) فانه يكون من باب التعارض ( (و لو على الجواز)).

النحو الثاني: ان لا يكون دليل من نص أو اجماع على ثبوت المقتضى للحكمين، و لا يكون دليل من الخارج على ان المتحقق احد المقتضيين و لا يكون إلّا الاطلاق، فعلى الجواز يستكشف به كلا المقتضيين، و اما على الامتناع يدخل في باب التعارض لما ذكره اولا من ان التنافي لا يدل على اكثر من عدم اجتماع الحكمين، و لا دلالة له على ان الحكم المنتفي لوجود المانع فقط، لانه يحتمل ان يكون انتفاؤه لعدم المقتضي، و الى هذا اشار بقوله: ( (و إلّا فعلى الامتناع)) لكن قد عرفت انه لا مانع ايضا ان يستكشف بالاطلاق ثبوت المقتضي ايضا، و ان التوفيق بينهما بحمل احدهما على الحكم الاقتضائي ليس جزافا كما مرّ مفصلا.

ص: 59

لا معصية عليه، و أما عليه و ترجيح جانب النهي فيسقط به الامر به مطلقا في غير العبادات، لحصول الغرض الموجب له، و أما فيها فلا، مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه تقصيرا، فإنه و إن كان متمكنا- مع عدم الالتفات- من قصد القربة، و قد قصدها، إلا أنه مع التقصير لا يصلح لان يتقرب به أصلا، فلا يقع مقربا، و بدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للامر به عبادة، كما لا يخفى.

و أما إذا لم يلتفت إليها قصورا، و قد قصد القربة بإتيانه، فالامر يسقط، لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به، لاشتماله على المصلحة، مع صدوره حسنا لاجل الجهل بحرمته قصورا، فيحصل به الغرض من الامر، فيسقط به قطعا، و إن لم يكن امتثالا له بناء على تبعية الاحكام لما هو الاقوى من جهات المصالح و المفاسد واقعا، لا لما هو المؤثر منها فعلا للحسن أو القبح، لكونهما تابعين لما علم منهما كما حقق في محله (1).

______________________________

(1)

ثمرة بحث الاجتماع

هذا الامر لبيان ما يترتب على القولين من الجواز و الامتناع من الصحة و الفساد، فهو ثمرة النزاع.

فعلى القول بالجواز و عدم سريان احدهما إلى الآخر، فايجاد المجمع ايجاد لمتعلق الامر فيكون اطاعة له و لمتعلق النهي فيكون عصيانا له، فالآتي به مطيع و عاص و حال المجمع كفردين غير مجتمعين، فالآتي بالصلاة في الدار المغصوبة كمن أتى بالصلاة في غير الدار المغصوبة و تصرف بالدخول في الدار المغصوبة من غير صلاة فيها.

و من الواضح انه اذا صحت الصلاة المجتمعة مع الغصب مع انها من العبادات تصح المعاملة المجتمعة مع النهي بطريق اولى، لما سيأتي من انه على القول بالامتناع و السراية تصح المعاملة المجتمعة، فكيف لا تصح بناء على الجواز؟ و لذا قال (قدس سره): ( (و حصول الامتثال باتيان المجمع بداعي الامر على الجواز مطلقا و لو في

ص: 60

.....

______________________________

العبادات)) و انما قيده بداعي الامر لبيان اخص صور الامتثال في العبادات، فانه سيأتي في بعض الصور على الامتناع ايضا يصح وقوعها عبادة و مسقطة للامر و ان لم تكن امتثالا للامر، بناء على تزاحم المقتضيات في غير المرتبة الفعلية.

و بناء على عدم تزاحمها في تلك المرتبة و اختصاص تزاحمها في خصوص المرتبة الفعلية فانه يصح وقوعها بقصد امتثال الامر ايضا، و حينئذ يكون الفرق بين الجواز و الامتناع في بعض الصور و هي صورة الالتفات أو ما هو بحكمه، هذا على الجواز.

و اما على الامتناع فان قلنا بترجيح جانب الامر فيصح الاتيان بالعبادة المجتمعة مع متعلق النهي بقصد امتثال الامر، و لا يتحقق عصيان في الاتيان بالمجمع لسقوط النهي.

و هذا هو الفرق بين القول بالجواز و بين القول بالامتناع و ترجيح جانب الأمر، و الى هذا اشار بقوله: ( (و كذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الامر)): أي حال الامتناع و ترجيح جانب الأمر كحال الجواز في حصول الامتثال باتيان المجمع بداعي الامر، الّا ان الفرق بينهما انه على الامتناع و ترجيح جانب الامر لا معصية باتيان المجمع و لذا قال: ( (إلّا انه لا معصية عليه)): أي على الامتناع مع ترجيح جانب الامر.

و اما اذا قلنا بالامتناع و ترجيح جانب النهي ففي التوصليات معاملة أو غير معاملة كتطهير الجسم من الخبث بالماء المغصوب، أو المعاطاة في المكان المغصوب بحركة اليد اخذا و عطاءً يحصل الغرض فيطهر الجسم و يقع البيع صحيحا مؤثرا في الملكية، لما عرفت- فيما مرّ-: من ان الامر في التوصليات يسقط و لو بالفرد المحرم، و اما صحة المعاملة مع هذا النهي فلان النهي الذي له ظهور ثانوي في الدلالة على فساد المعاملة هو النهي عن المعاملة بداعي الارشاد إلى فسادها لا مثل هذا النهي التكليفي، كما سيأتي الاشارة اليه في باب دلالة النهي على الفساد.

و لا يخفى ان سقوط الامر في التوصليات مع الامتناع و ترجيح جانب النهي مطلقا سواء مع الالتفات الى الحرمة أو عدم الالتفات لها تقصيرا، و اما مع عدم الالتفات

ص: 61

.....

______________________________

قصورا فسيأتي انه يسقط الامر في العباديات فضلا عن التوصليات، و الى هذا اشار بقوله: ( (و اما عليه)): أي على الامتناع ( (و ترجيح جانب النهي فيسقط به)): أي بالمجمع ( (الامر مطلقا)): أي مع الالتفات الى الحرمة أو بدونه تقصيرا ( (في غير العبادات لحصول الغرض الموجب له)): أي للامر التوصلي غير العبادي.

و اما على الامتناع و ترجيح جانب النهي في العبادات فالاتيان بالمجمع لمتعلق الامر العبادي و متعلق النهي كالصلاة في الدار المغصوبة هو على ثلاثة اقسام لانه:

- اما ان يأتي به مع الالتفات الى الحرمة.

- أو مع عدم الالتفات اليها تقصيرا.

- أو مع عدم الالتفات اليها قصورا.

اما مع الالتفات اليها فلا تصح عبادة و لا يسقط الامر المتعلق بالصلاة بهذا الاتيان فلا يقع امتثال و لا يسقط امر، لأن تحقق الامتثال بالمأتي عبادة يتوقف على قصد امتثال الامر و كونه مما يمكن ان يتقرب به، و لا يعقل على الامتناع و ترجيح جانب النهي مع الالتفات ان يحصل من الملتفت قصد امتثال الامر باتيان هذا المجمع الذي يعلم انه منهي عنه و لا امر به، و لا يعقل ايضا ان يتأتى من الملتفت قصد القربة من غير ناحية الامر، كالاتيان بداعي حسنه أو محبوبيته، لأن المفروض سراية النهي و المبغوضية الغالبة على محبوبيته و جهة القبح على ما فيه من الحسن فلا يكون المجمع مما يمكن ان يتقرب به، فالجهتان اللتان يتوقف عليهما كون الفعل عبادة مفقودتان مع الالتفات، اذ لا يتأتى من المكلف قصد الامتثال للامر و ليس ما يأتي به قابلا للتقرب، اذ لا يعقل بالمبغوض لأن المبغوض للمولى مبعّد عنه فكيف يقصد التقرب اليه بما يبعّد عنه.

و اما مع عدم الالتفات اليه تقصيرا فحيث ان المقصر بحكم العامد، و الفرق بينهما ان العامد ملتفت الى توجه النهي اليه، و المقصّر غير ملتفت الى توجه النهي اليه، إلّا انهما معا مشتركان في استحقاق العقاب على المأتي به، لأن عدم العلم عن تقصير

ص: 62

.....

______________________________

ليس عذرا عن صحة العقاب، و لذا لو تعذر بأني ما علمت يقال له: هلا تعلّمت، و الفعل الذي يستحق فاعله العقاب عليه يكون مبغوضا و يقع مبعّدا، فالمقصّر لعدم علمه يتوجه النهي اليه و ان تأتى منه قصد القربة، بخلاف العالم العامد فانه لا يتاتى منه قصدها، إلّا انه في كون المأتي به مما لا يصلح لأن يتقرب به مثل العامد من هذه الجهة.

و بعبارة اخرى: ان العامد مفقود عنده الشرطان، و المقصّر مفقود عنده احدهما و هو كون فعله مما لا يمكن ان يتقرب به، و قد عرفت ان وقوع الماتي به عبادة كما يتوقف على قصد امتثال امره كذلك يتوقف على كونه مما يصلح ان يتقرب به، و المبغوض لا يقع مقربا و كيف يقع به التقرب و هو مما يستحق عليه العقاب، و الى هذه اشار بقوله: ( (و اما فيها فلا)): أي في العبادات بناء على الامتناع و ترجيح جانب النهي لا يحصل الامتثال و لا يسقط الامر ( (مع الالتفات الى الحرمة)) و هو العالم العامد فانه لا يتمكن من قصد القربة، و المأتي به غير قابل للتقرب، و اشار الى المقصّر و هو غير الملتفت عن تقصير بقوله: ( (أو بدونه تقصيرا)): أي بدون الالتفات و لكن عن تقصير ايضا لا يحصل في الاتيان بالمجمع الامتثال و لا يسقط الامر، و قد اشار الى انه في المقصّر المفقود شرط واحد و هو عدم صلاحية المأتي به للتقرب بقوله:

( (فانه و ان كان متمكنا مع عدم الالتفات من قصد القربة و)) المفروض انه قد اتى بالمجمع بداعي القربة فيكون ( (قد قصدها))، كمن صلى في الدار المغصوبة مع جهله تقصيرا بالحكم بان كان جاهلا تقصيرا ان الغصب منهي عنه بان يكون قد التفت في زمان من الازمنة الى الغصب مما له حكم من الشارع و لكنه اهمل عن تسامح و لم يفحص، و المرتكب للشبهة الحكمية قبل الفحص من غير عذر هو الجاهل المقصّر، و قد عرفت انه بحكم العامد.

و على كل فالمقصّر في المقام و ان تمكن من قصد القربة لجهله و قصد القربة ( (الّا انه مع التقصير)) بفقد الشرط الثاني و هو ان ما يأتي به لكونه مبغوضا يستحق عليه

ص: 63

.....

______________________________

العقاب ( (لا يصلح لأن يتقرب به اصلا فلا يقع مقربا و بدونه)): أي و بدون صلاحية ما ياتي به للتقرب ( (لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للامر به عبادة)) فان حصول الغرض العبادي يتوقف على وقوع الماتي به عبادة، و وقوعه عبادة كما يتوقف على قصد امتثال الامر يتوقف ايضا على ان يكون مما يصلح ان يتقرب به، و قد عرفت ان الفعل المأتي به من الجاهل المقصر فاقد لهذا الشرط.

و اما الثالث: و هو عدم الالتفات عن قصور الذي اشار اليه بقوله: ( (و اما اذا لم يلتفت اليها قصورا و قد قصد القربة باتيانه)) و هو الجاهل القاصر المحكوم عقلا بالعذرية به و عدم استحقاق العقاب، فتوضيح الحال فيه ان نقول: قد عرفت ان مورد اجتماع الامر و النهي لا بد من ثبوت كلا المقتضيين فيه.

فان قلنا: بان المقتضيات تتزاحم في غير مرتبة الفعلية من مرتبة الاقتضاء و الانشاء كما تتزاحم في المرتبة الفعلية، و ان الاحكام بواقعيتها في أي مرتبة كانت تقع المزاحمة بينهما و يؤثر ما هو الاقوى منها و قد فرضنا تقديم جانب النهي، فلا بد من سقوط الحكم بجميع مراتبه فلا امر في جميع المراتب، فالجاهل القاصر و ان قصد الامر الّا انه لا امر واقعا فلا يقع ما أتى به معنونا بكونه مما حصل به امتثال الامر إذ المفروض انه لا امر، و لكن حيث كان الجاهل القاصر معذورا و غير مستحق للعقاب فلا يكون فعله و ما أتى به مبغوضا و قبيحا، فجهة الحسن الموجودة في فعله لم يتغلب عليها جهة القبح و المبغوضية فيقع ما أتى به حسنا و محبوبا.

و قد عرفت- فيما مر- انه يكفي في وقوع الفعل عبادة جهة حسنه و محبوبيته و اذا وقع عبادة ترتب الغرض العبادي الداعي إلى الامر فيسقط الامر لحصول الغرض الداعي اليه و ان لم يصدق على ما اتى به انه مما قصد به الامتثال، كما قلنا به في الضد الواجب الملازم للمحرم فانه و ان لم يقع عبادة بقصد امتثال امره لعدم الامر حيث ان المتلازمين لا يعقل اختلافهما في الحكم و ان لم يجب ان يتحدا في الحكم، إلّا انه لا مانع من وقوعه عبادة بقصد ما فيه من جهة حسنه و محبوبيته فيسقط به الامر و ان

ص: 64

.....

______________________________

لم يحصل به الامتثال، و الفعل من الجاهل القاصر في المقام كذلك اذ المزاحمة انما أزالت الامر به و لم تزاحم جهة حسنه و محبوبيته لأن الحسن لا يزاحم الا بالقبيح، و المحبوبية لا تزاحم الا بالمبغوضية، و حيث انه معذور و لا يستحق العقاب فليس ما أتى به قبيحا و لا مبغوضا و يقع عبادة لجهة حسنه و محبوبيته، و قد اشار الى سقوط الامر به بقوله: ( (فالامر يسقط لقصد التقرب بما يصلح ان يتقرب به)) و اشار الى علة وقوعه قربيّا بقوله: ( (لاشتماله على المصلحة مع صدوره حسنا لاجل الجهل بحرمته قصورا)) و قد اشار الى ان الامر يسقط بحصول غرضه العبادي كما يسقط بصدق الامتثال على المأتي به بقوله: ( (فيحصل به الغرض من الامر فيسقط به قطعا)) و قد اشار الى عدم صدق الامتثال عليه بقوله: ( (و ان لم يكن امتثالا له)) و قد اشار الى أن هذا مبني على وقوع التزاحم في غير المرتبة الفعلية كما يقع في المرتبة الفعلية بقوله:

( (بناء على تبعية الاحكام لما هو الاقوى من جهات المصالح و المفاسد واقعا)).

و قد اشار الى المبنى الآخر و هو اختصاص التزاحم بين المقتضيات في خصوص المرتبة الفعلية دون غيرها من المراتب بقوله: ( (لا لما هو المؤثر منها فعلا للحسن أو القبح)) فالامر و النهي في غير المرتبة الفعلية غير متزاحمين فيؤثر كل منهما و لا سراية لاحدهما الى الآخر فلا تسري مبغوضية النهي الى محبوبية الامر، و لا جهة قبح النهي الى جهة حسن الامر، و انما التزاحم بينهما و سراية المبغوضية و القبح في المرتبة الفعلية فقط، فالحكم الوجوبي التابع للمصلحة و الحسن انما يزاحمه الحكم التحريمي التابع للمفسدة و القبح في مرتبة تاثير المصلحة و الحسن بالفعل و تاثير المفسدة و القبح بالفعل، فالتزاحم يقع بين المصلحة و المفسدة اولا و بالذات و بين حكميهما ثانيا و بالعرض، و في هذه المرتبة الفعلية بناء على الامتناع تسري المبغوضية وجهة القبح.

و بعبارة اخرى: المصلحة التي يلازمها كون متعلقها حسنا و المفسدة التي يلازمها كون متعلقها قبيحا في مقام تاثيرهما في الحكم بمرتبته الفعلية يتزاحمان، فاذا غلبت جهة المفسدة جهة المصلحة و صار التأثير لجانب النهي بالفعل حينئذ ترتفع جهة

ص: 65

مع أنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك، فإن العقل لا يرى تفاوتا بينه و بين سائر الافراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها، و إن لم تعمه بما هي مأمور بها، لكنه لوجود المانع لا لعدم المقتضي.

و من هنا انقدح أنه يجزي، و لو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة، و عدم كفاية الاتيان بمجرد المحبوبية، كما يكون كذلك في ضد الواجب، حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلا (1).

______________________________

الحسن وجهة المحبوبية و يتبعهما فعلية الحكم الوجوبي فلا يكون فعليا، و حيث ان المفروض ان الجاهل قاصر و القاصر لا يكون الحكم في حقه فعليا، اذ من شروط فعلية الحكم كونه مما علم به أو يمكن ان يعلم به، و الجاهل القاصر لا علم له و لا يمكن ان يحصل له العلم اما كونه لا علم له فواضح، و اما كونه مما لا يمكن ان يحصل له العلم فلانه هو الفارق بين القصور و التقصير، فان القاصر هو الذي لا يمكن ان يقال له هلا تعلّمت، فجهة الحسن في الجاهل القاصر غير مزاحمة و لا مغلوبة في المرتبة الفعلية بجهة القبح لانها تابعة للعلم أو ما بحكمه، و الى هذا اشار بقوله: ( (لكونهما تابعين لما علم منهما)) و سيأتي انه بناء على هذا يكون فعل القاصر مما يحصل به الامتثال ايضا لا انه يسقط به الامر فقط لحصول الغرض.

(1) لا يخفى ان هذا بناء على التزاحم في غير المرتبة الفعلية و عدم اختصاصه بها.

و اما بناء على اختصاصه بالمرتبة الفعلية فسيأتي انه يمكن ان يقصد الامتثال و يكون المجمع مما تسعه الطبيعة بما هي مامور بها.

و حاصله: ما ذكره في مسألة الضد من ان الامر و ان كان مما لا يسع هذا الفرد الّا انه اذا كان هذا الفرد مثل بقية الافراد التي يسعها الامر من ناحية تمامية جهة حسنه و محبوبيته، و انما لا يسعه الامر لابتلائه بوجود مانع فيه بالخصوص عن ان يسعه الامر دون بقية الافراد لا لاختلال المقتضي فيه، فلا مانع من ان يقصد به امتثال الامر المتعلق بما لا يسع هذا الفرد لوجود المانع لا لعدم المقتضي.

ص: 66

و بالجملة مع الجهل قصورا بالحرمة موضوعا أو حكما، يكون الاتيان بالمجمع امتثالا، و بداعي الامر بالطبيعة لا محالة، غاية الامر أنه لا يكون مما تسعه بما هي مأمور بها (1)، لو قيل بتزاحم الجهات في مقام

______________________________

و بعبارة اخرى: ان المصنف لا يرى فرقا في امكان قصد الامتثال بين الفرد الذي يسعه الامر و الذي لا يسعه لوجود المانع بعد تحقق المقتضى فيه، و ان كل ما يترتب عليه الغرض يمكن ان يحصل به قصد الامتثال و ان كان لا يسعه الامر، و لا يرى قصد الامتثال منحصرا فيما وسعه الامر، و برهانه ما اشار اليه بقوله: ( (فان العقل لا يرى تفاوتا بينه)): أي بين هذا الفرد الذي يسعه الامر ( (و بين سائر الافراد في الوفاء بغرض الطبيعة المامور بها و ان لم تعمه بما هي مامور بها لكنه لوجود المانع لا لعدم المقتضى)) فهذا الفرد و ان كان لا تعمه الطبيعة بما هي مامور بها لكنه يمكن ان يقصد به امتثال امرها كالفرد الذي تسعه بما هي مامور بها.

فلو قلنا: بان وقوع المأتي به عبادة ينحصر في قصد الامتثال و لا يحصل بقصد حسنه أو محبوبيته لكان المجمع الذي أتى به الجاهل القاصر مما يحصل به امتثال الامر، و حال المجمع حال الضد الواجب الملازم للترك المحرم و كما ان المقتضي فيه موجود، و انما لم يؤثر لعدم امكان اختلاف المتلازمين في الوجود في ناحية الحكم كذلك المجمع الآتي به الجاهل القاصر فان المفروض ثبوت المقتضي فيه و انما لم يؤثر لوجود المانع و هو مقتضى التحريم، و كما ان في الضد الواجب الامر المتعلق بالطبيعة لا يسع هذا الفرد المبتلى بالترك المحرم كذلك المجمع في المقام الامر المتعلق بالطبيعة لا يسعه ايضا، و في المقامين لا امر بخصوص هذا الفرد و الى هذا اشار بقوله: ( (و من هنا انقدح الى آخر كلامه)).

(1) لا يخفى عليك ان الجهل: تارة يتعلق بالحكم كمن لا يعلم ان حكم الغصب هو الحرمة، و اخرى يتعلق بالموضوع كمن لا يعلم ان هذه الدار- مثلا- مغصوبة مع علمه بان حكم الغصب هو الحرمة.

ص: 67

تأثيرها للاحكام الواقعية (1)، و أما لو قيل بعدم التزاحم إلا في مقام فعلية الاحكام، لكان مما تسعه و امتثالا لامرها بلا كلام (2).

و قد انقدح بذلك الفرق بين ما اذا كان دليلا الحرمة و الوجوب متعارضين، و قدم دليل الحرمة تخييرا أو ترجيحا، حيث لا يكون معه مجال للصحة أصلا، و بين ما إذا كانا من باب الاجتماع. و قيل بالامتناع، و تقديم جانب الحرمة، حيث يقع صحيحا (3) في غير مورد من موارد

______________________________

و الاول: هو الجاهل بالحكم.

و الثاني: هو الجاهل بالموضوع.

(1) هذا ما اشرنا اليه من كون هذا الكلام و هو امكان قصد الامتثال بما لا يسعه الامر المتعلق بالطبيعة انما هو لو قيل بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للاحكام الواقعية و لا يختص التزاحم بالحكم في المرتبة الفعلية.

(2)

الفرق بين الاجتماع و التعارض

حاصله: انه لو قلنا بالتزاحم في خصوص المرتبة الفعلية فالجاهل القاصر المعذور لا حكم فعلي بالنهي بالنسبة اليه، لما مرّ من ان فعلية الحكم منوطة بما علم أو يمكن ان يعلم، و الجاهل القاصر لا علم له و لا يمكن ان يعلم فلا فعلية للنهي بالنسبة اليه، و قد عرفت وجود المقتضي للامر و تأثيره للحكم في مرتبة الانشاء فلا مانع من تأثيره ايضا في المرتبة الفعلية، اذ المانع عن تاثيره في هذه المرتبة هو تاثير مقتضي النهي و فعلية حكمه، و حيث فرض عدم تاثير النهي في هذه المرتبة فلا فعلية لما هو المزاحم في هذه المرتبة و يبقى مقتضى الامر في هذه المرتبة ايضا من غير مزاحم فيؤثر و يكون الامر متعلقا بما يسع هذا الفرد ايضا، و لذا قال (قدس سره): ( (لكان مما يسعه و امتثالا لامرها)): أي لكان هذا المجمع الآتي به الجاهل القاصر مما يسعه الامر المتعلق بالطبيعة و يكون امتثالا لها بقصد امرها المتعلق به.

(3) هذا لبيان الفرق بين القول بالامتناع في هذه المسألة مع ترجيح جانب النهي، و بين باب التعارض الاصطلاحي الذي علم بكذب احد الحكمين فيه مع ترجيح دليل

ص: 68

الجهل و النسيان، لموافقته للغرض بل للامر، و من هنا علم أن الثواب عليه من قبيل الثواب على الاطاعة، لا الانقياد و مجرد اعتقاد الموافقة.

و قد ظهر بما ذكرناه، وجه حكم الاصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة (1)، مع النسيان أو الجهل بالموضوع، بل أو الحكم إذا كان عن

______________________________

الحرمة، أو الأخذ به من باب التخيير المصرّح به في جملة من النصوص في باب تعارض الخبرين.

فان الفرق بينهما هو انه على الامتناع و ترجيح جانب النهي تصح العبادة من القاصر في المجمع اما لوقوعها قربيّة بجهة حسنها أو محبوبيتها، أو لوقوعها قربيّة بقصد الامتثال للامر المتعلق بالطبيعة بحيث لا تسع المجمع بناء على تبعية الاحكام الواقعية لما هو الاقوى واقعا، و وقوعها قربيّة بقصد امتثال الامر المتعلق بالطبيعة بحيث تسع المجمع بناء على اختصاص التزاحم بالمرتبة الفعلية كما مر بيانه.

و اما على التعارض الاصطلاحي الذي علم بكذب احد الحكمين فيه مع الأخذ بدليل الحرمة ترجيحا أو تخييرا فانه لا تصح العبادة، اذ بعد الأخذ بدليل الحرمة لازمه البناء على ترتيب أثر الصدور على الحكم بالحرمة و ترتيب اثر عدم الصدور على دليل الوجوب، و مع عدم الصدور لا مصلحة و لا حسن و لا امر و لا يعقل ان تصح عبادة من دون هذه الاشياء.

(1) قد عرفت ان الجهل: تارة يتعلق بالحكم، و اخرى بالموضوع.

و في الجهل بالحكم لا عذر الا للقاصر، و اما المقصّر فغير معذور و يصدر الفعل منه مبغوضا و قبيحا بناء على الامتناع و ترجيح جانب النهي، و اما القاصر فقد عرفت صحة وقوع المأتي به عبادة منه.

و اما الجهل بالموضوع فحيث انه لا يجب فيه الفحص فالقاصر و المقصر فيه على حد سواء و تصح العبادة منهما معا، اذ بعد دليل العذر لمن يمكنه العلم و عدم وجوب الفحص عليه لا عقاب عليه فلازمه عدم فعلية النهي في حقه، و مع عدم فعلية النهي

ص: 69

قصور (1)، مع أن الجلّ لو لا الكلّ قائلون بالامتناع و تقديم الحرمة، و يحكمون بالبطلان في غير موارد العذر، فلتكن من ذلك على ذكر.

إذا عرفت هذه الامور، فالحق هو القول بالامتناع، كما ذهب إليه المشهور، و تحقيقه على وجه يتضح به فساد ما قيل، أو يمكن أن يقال، من وجوه الاستدلال لسائر الاقوال، يتوقف على تمهيد مقدمات:

إحداها: إنه لا ريب في أن الاحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها، و بلوغها إلى مرتبة البعث و الزجر، ضرورة ثبوت المنافاة و المعاندة التامة

______________________________

في حقه يقع ما يأتي به عبادة و يكون إتيانه بالمجمع من باب الاطاعة و الاتيان بما فيه الغرض العبادي، و الثواب عليه ثواب على اتيان ما يسقط به الامر أو يمتثل به الامر على ما مرّ تفصيله، و ليس الثواب عليه ثواب انقياد و أن ما اتى به لا يحصل به الغرض و لا يقع به الامتثال.

و اما النسيان فسواء كان نسيانا لحكم الحرمة كمن نسى حرمة الغصب أو للموضوع المحرّم كمن نسى ان هذه الدار مغصوبة فقد ورد العذر فيه برفع النسيان، و ان الناسي مطلقا حكما أو موضوعا معذور، و قد عرفت ان لازم العذر و عدم العقاب عدم فعلية النهي، و مع عدم فعليته يقع ما يأتي به الناسي من المجمع عبادة.

فاتضح مما ذكرنا وجه حكم مشهور الاصحاب القائلين بالامتناع و ترجيح جانب النهي بصحة الصلاة في الدار المغصوبة في حال النسيان حكما كان أو موضوعا، و صحة حكمهم بصلاة الجاهل بالموضوع و هو من لا يعلم ان الدار المغصوبة سواء كان قاصرا لا يمكن ان يحصل له العلم أو كان بحيث يمكنه ان يعلم و لم يفحص، و حكمهم بصحة خصوص صلاة الجاهل القاصر بالحكم دون المقصر في الدار المغصوبة، و وجهه ما عرفت من عدم فعلية النهي في هذه الموارد.

(1

تضاد الاحكام الخمسة في رتبة فعليتها

) لا يخفى ان قوله بالموضوع قيد لخصوص الجهل دون النسيان لما عرفت من عذر الناسي مطلقا، و لذا عطف عليه الجهل بالحكم لخصوص القاصر.

ص: 70

بين البعث نحو واحد في زمان و الزجر عنه في ذاك الزمان، و إن لم يكن بينها مضادة ما لم يبلغ إلى تلك المرتبة، لعدم المنافاة و المعاندة بين وجوداتها الانشائية قبل البلوغ اليها، كما لا يخفى.

فاستحالة اجتماع الامر و النهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال، بل من جهة أنه بنفسه محال، فلا يجوز عند من يجوز التكليف بغير المقدور أيضا (1).

______________________________

(1) قد قدم لما ذهب اليه موافقا للمشهور من الامتناع و محالية جواز اجتماع الحكمين في الوجود الواحد بعنوانين اربع مقدمات، هذه اولها: و هي ان الاحكام في أي مرتبة تتضاد و يكون اجتماعهما من اجتماع الضدين المحال بالذات فلا يقول به القائل بجواز التكليف بغير المقدور لانه من التكليف بالمحال، و اما التضاد بين الاحكام فلازم الاجتماع اجتماع الضدين هو التكليف المحال.

و توضيح هذه المقدمة: ان المراد من الاحكام الخمسة التي هي الوجوب و الاستحباب و الحرمة و الكراهة و الاباحة هو المجعول التشريعي منها، و هو الانشائي منها الذي يوجده الشارع بانشائه له، و هو انشاء البعث الى الفعل وجوبا أو استحبابا و انشاء الزجر عن الفعل تحريما أو كراهة أو انشاء الاذن و الترخيص و ارخاء العنان.

و ليس المراد من الحكم هو اللبّي أي الحالة المتكيفة بها النفس واقعا و لبّا من الحبّ و البغض و الارادة و الكراهة الحقيقيين النفسيين، لوضوح انهما من كيفيات النفس الواقعية و من الامور التكوينية دون المجعولات التشريعية التي تحصل بالجعل و التشريع انشاء.

مراتب الحكم

و لا يخفى ايضا ان مراتب الحكم عند المصنف أربع:

- مرتبة الاقتضاء.

- و مرتبة الانشاء و جعل القانون.

ص: 71

.....

______________________________

- و مرتبة الفعلية و هي كون الحكم بحيث لو علم به لتنجّز.

- و مرتبة التنجّز و هي مرتبة الحكم بعد العلم به.

و هذه المراتب متدرجة بالسبق، فمرتبة الاقتضاء اسبق من مرتبة الانشاء و هي متقدمة على مرتبة الفعلية، و مرتبة الفعلية متقدمة على مرتبة التنجّز.

و من الواضح: انه اذا وقع التضاد بين الاحكام و التعاند في المرتبة السابقة لا بد و ان يقع بينها في المرتبة التي تلحقها، و لكن التضاد و التعاند في المرتبة اللاحقة لا يستلزم التضاد في المرتبة السابقة عليها للزوم سريان ما في الاصل لفرعه و لا يسري ما في الفرع لاصله، و كل مرتبة سابقة هي كالاصل للمرتبة اللاحقة، فاذا وقع التضاد بين الاحكام في المرتبة الفعلية فلا بد من وقوعه بينها في مرتبة التنجّز، و لكن لا يلزم ان يقع بينها في مرتبة الانشاء فضلا عن مرتبة الاقتضاء.

و اتضح مما ذكرنا: ان المصنف حيث اثبت التضاد بين الاحكام في مرتبة الفعلية لم يذكر مرتبة التنجّز لحصوله فيها قطعا لانها متفرعة على الفعلية، و حيث نفى التضاد في مرتبة الانشاء فلا بد و ان يكون منتفيا في مرتبة الاقتضاء، اذ لو كان موجودا في مرتبة الاقتضاء لكان موجودا في مرتبة الانشاء قطعا.

و لا يخفى ايضا ان مرتبة الفعلية هي مرتبة البعث و الزجر من الشارع، لأن لازم كون الحكم بالغا الى مرتبة بحيث لو علم به لتنجّز انه قد استكمل جميع ما هو له من قبل الشارع، فلا بد و ان يكون قد بعث المولى المكلف الى الفعل و قد زجره عنه بحيث لو علم ببعثه له لتنجّز و لو علم بزجره لتنجّز فيكون الحكم قد بلغ الى حد كون المولى قد جعله بحيث لا مانع من ان يكون قابلا للتحريك نحو الفعل أو للتحريك عن الفعل و تبعيد المكلف عنه، و اذا بلغ الحكم الى هذه المرتبة فلا يعقل ان يكون المولى محركا للعبد نحو الموجود بوجود واحد و محركا له عنه، فلا يعقل ان يكون باعثا له الى ايجاده و زاجرا له عن ايجاده، ففي مرتبة الفعلية و هي مرتبة البعث و الزجر تتضاد الاحكام وجوبا و حرمة، كما انها تتضاد في هذه المرتبة وجوبا و استحبابا، اذ

ص: 72

ثانيتها: إنه لا شبهة في أن متعلق الاحكام، هو فعل المكلف و ما هو في الخارج يصدر عنه، و هو فاعله و جاعله، لا ما هو اسمه، و هو واضح، و لا ما هو عنوانه مما قد انتزع عنه، بحيث لو لا انتزاعه تصورا و اختراعه ذهنا، لما كان بحذائه شي ء خارجا و يكون خارج المحمول،

______________________________

لا يعقل ان يكون باعثا إلى ايجاده بحيث يعاقب على تركه و باعثا له بحيث لا يعاقب على تركه و كذلك الحرمة و الكراهة، و مثله احدها مع الاباحة و الترخيص.

و اما في مرحلة الانشاء و جعل القانون فحيث ان انشاء الحكم في تلك المرتبة لا يستلزم تحريكا و لا بعثا فلا مانع من ان ينشأ على طبق المصلحة حكما قانونيا، و على طبق المفسدة حكما قانونيا بحيث لا يكون الحكم باعثا الى الايجاد و الى عدم الايجاد للشي ء الواحد، و لذا لا وجه لتضاد الاحكام في هذه المرتبة فان وجودها ليس إلّا وجودا انشائيا قانونيا لا باعثا و لا زاجرا، و لذا قال (قدس سره): ( (لا ريب في ان الاحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها الى آخر كلامه)).

تضاد الاحكام الخمسة في رتبة فعليتها

و اشار الى عدم تضادها في المرتبة الانشائية ( (و ان لم يكن بينها مضادة ما لم تبلغ الى تلك المرتبة الى آخر كلامه)).

و اما عدم تضادها في مرتبة الاقتضاء و هي مرحلة المصالح و المفاسد الواقعية الموجودة في الاشياء، فلوضوح امكان اشتمال الموجود الواحد على المصلحة و المفسدة معا و هو مشاهد وجدانا، مضافا الى ان الاحكام اذا لم يكن بينها تضاد في مرحلة الانشاء فلا بد و ان لا يكون بينها تضاد في المرتبة السابقة، و الّا لكان التضاد متحققا في المرتبة اللاحقة لها ايضا.

و قد اشار المصنف الى ان التضاد في المرتبة الفعلية معناه ان الاجتماع يكون من التكليف المحال بنفسه ذاتا، و ليس هو من التكليف بالمحال الذي يكون المانع فيه عدم القدرة، و لذا ان من يقول بجواز التكليف بغير المقدور لا يقول بامكان اجتماع الحكمين المتضادين بقوله: ( (فاستحالة اجتماع الامر و النهي الى آخر كلامه)).

ص: 73

كالملكية و الزوجية و الرقية و الحرية و المغصوبية، إلى غير ذلك من الاعتبارات و الاضافات (1)، ضرورة أن البعث ليس نحوه، و الزجر

______________________________

(1)

تعلق الحكم الشرعي بالموجود الخارجي لا العنوان

حاصل هذه ان متعلق الحكم الذي هو الواجب و الحرام هو الموجود الخارجي و هو ما اراده بقوله: ( (و ما هو في الخارج يصدر عنه)): أي متعلق الحكم ما يصدر خارجا عن المكلف ( (و هو فاعله و جاعله)): أي المكلف هو الفاعل له و جاعله موجودا خارجيا، و ليس متعلق التكليف واقعا ماهية ذلك الموجود الخارجي الذي عبر عنه بقوله: ( (لا ما هو اسمه و هو واضح و لا ما هو عنوانه)).

و توضيح كلامه ان المفهوم من اللفظ، تارة: يكون الماهية التي يتصور عليها الوجودان الذهني و الخارجي و يكون الخارج ظرفا لوجودها بناء على اصالة الوجود، و ظرفا لحيثيتها المكتسبة من الجاعل بناء على اصالة الماهية.

و اخرى: يكون المفهوم من اللفظ العنوان، كمفهوم الابيض الذي يكون الموجود الخارجي مطابقا له و معنونه، و الخارج ظرف لوجود المعنون لا لوجود العنوان، فان الموجود في الخارج الجسم و البياض و ليس في الخارج موجود هو كفرد لمفهوم الابيض، فمفهوم الابيض الموجود في الخارج معنونه الذي ينتزع منه الابيض، و ليس لمفهوم الابيض فرد خارجي غير الجسم و البياض. و من الواضح ان الجسم ليس بنفسه فردا للابيض و لا البياض فردا له اذا اريد من الابيض الجسم الذي له البياض، بل حتى لو اريد من الابيض البياض فان الموجود في الخارج هو البياض لا البياض الذي له البياض، و ليس في الخارج موجود آخر غير الجسم و البياض مركبا منهما يكون له وجود خارجي يكون هو فردا و حصة لمفهوم الابيض، فمفهوم الابيض ليس له فرد خارجي بل هو عنوان، و الموجود في الخارج معنونه و مطابقه لا فرده.

و هذا هو الفرق بين العنوان و الماهية، فان الماهية الموجود الخارجي حصتها و فردها، و العنوان الموجود الخارجي معنونه لا فرده و حصته.

ص: 74

.....

______________________________

نعم الجسم و البياض هو المنشأ لانتزاع الابيض و هو الذي يطلق عليه في بعض الاحيان العرضي أي المنسوب للعرض، و ليس هو العرض فان المنسوب إلى الشي ء غير الشي ء، و الى هذا اشار الحكيم السبزواري بقوله:

و عرضي الشي ء غير العرض ذا كالبياض ذاك مثل الابيض 1]

ثم لا يخفى ان هذا العنوان الذي يكون الخارج ظرفا لمعنونه لا لنفسه على انحاء ثلاثة:(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 3 ؛ ص75

ول: ما يكون منشأ انتزاعه موجودا تكوينيا خارجيا كالبياض العارض للجسم الذي هو منشأ انتزاع عنوان الابيض، و البياض من المحمولات بالضميمة فانه لا يحمل على الجسم بنفسه، بل انما يحمل على الجسم بواسطة اما لفظ ذو فيقال:

الجسم ذو بياض، أو مشتق ينتزع منه و يحمل على الجسم كمفهوم الابيض.

و اخرى لا يكون منشأ انتزاع العنوان موجودا خارجيا و لكنه امر تكويني ايضا، كعنوان الممكن فان منشأ انتزاعه الامكان اللاحق للممكن، و لكن الامكان ليس الخارج ظرفا لنفسه، و إلّا لكان للامكان امكان ايضا و هكذا فيلزم التسلسل، بل منشأ انتزاع الامكان هو ذات الممكن الذي ينتزع العقل منه انه ليس له ضرورة الوجود و لا ضرورة العدم، و اذا وجد هذا الممكن في الخارج لا يكون للامكان وجود بإزاء وجود ذات الممكن كما كان للبياض وجود بإزاء وجود الجسم، بل الموجود الخارجي هو نفس ذات الممكن الذي ينتزع من ملاحظة عدم ضرورته الذاتية من ناحية الوجود و العدم امكانه، و هذا الامكان يشارك البياض في كونه لا يحمل على موضوعه الا بواسطة اما لفظ ذو فيقال: هذا الموجود ذو امكان أو بواسطة اشتقاق مفهوم منه و هو الممكن فيقال: هذا الموجود ممكن، و يشاركه ايضا في كون كل منها امرا تكوينيا لا بجعل أو تشريع، إلّا انه يختلف عنه في كون منشأ انتزاع الابيض

ص: 75


1- 2. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

.....

______________________________

موجودا خارجيا و منشأ انتزاع الممكن ليس موجودا خارجيا.

و ثالثة يكون منشأ الانتزاع ليس امرا تكوينيا كالامكان بل انما يحصل بجعل أو تشريع، كالمالك و المملوك و الغاصب و المغصوب و الرق و الحرّ و الزوج، فان منشأ الانتزاع لهذه العناوين مجعول تشريعي لا تكويني و هو الملكية و الرقية و الزوجية و الحرية و الغصبية ليست من الأمور التكوينية، لا التي يكون الخارج ظرفا لوجودها تكوينا كالبياض، و لا التي يكون الخارج ظرفا لانتزاعها تكوينا كالامكان، بل هي امور جعلية قد اعتبرت لما يترتب عليها من الاغراض الموجبة لاعتبارها، فان الملكية ليست كالبياض موجودا تكوينيا خارجيا، و لا كالامكان امرا تكوينيا ايضا، بل هي مما اعتبرها العقلاء أو الشارع لغرض اوجب ذلك الاعتبار، و كذلك الرقية فإن الموجود في الخارج هو ذات العبد و الرق، و ليست رقيته كبياضه أو سواده و لا كامكانه بل هي بعد اعتبار العقلاء أو الشارع لها صارت منشأ لانتزاع المالك و الرق.

و النحو الثاني و الثالث يسميان بالخارج المحمول إلّا ان الثاني تكويني و الثالث جعلي لا تكويني، و قد اشار ظاهرا بمقتضى امثلته إلى خصوص الثالث بقوله: ( (و لا ما هو عنوانه مما قد انتزع عنه بحيث لو لا انتزاعه تصورا و اختراعه ذهنا لما كان بحذائه شي ء خارجا)).

لا يخفى ان ظاهر كلامه ان سبب انتزاعه و اختراعه هو عدم وجود شي ء بحذائه خارجا، و بهذا المقدار لا يفرق بين التكويني و الجعلي فانه كما انه ليس للرقية ما بحذاء في الخارج، كذلك ليس للامكان ما بحذاء في الخارج.

و ان كان مراده من ان السبب في الانتزاع و الاختراع انه ليس له صلة بالخارج تكوينا اصلا و لو بان لا يكون منشأ انتزاعه تكوينيا كما في الثاني، و ان السبب في انتزاعه و اختراعه هو الجعل كما هو ظاهر امثلته فيختص بالثالث.

ص: 76

لا يكون عنه، و إنما يؤخذ في متعلق الاحكام آلة للحاظ متعلقاتها، و الاشارة إليها، بمقدار الغرض منها و الحاجة إليها، لا بما هو هو و بنفسه، و على استقلاله و حياله (1).

______________________________

الّا ان قوله و يكون خارج المحمول فيه بعض المنافاة لأن الثاني ايضا من الخارج المحمول، الّا ان يكون مراده عدم ان هذا من الخارج المحمول من دون اختصاص خارجية المحمول به.

و على كل فامثلته و هي الملكية و الزوجية و الرقية و الحرية من الواضح انه ليس لها ما بحذاء في الخارج و انها امور اعتبارية و ليست من المقولات، اما الزوجية و الحرية فواضح جدا، و اما الرقية فليست هي الا ملكيته، و اذا كانت الملكية اعتبارية فلا بد و ان تكون الرقية اعتبارية ايضا، و اما كون الملكية اعتبارية فلأن المقولات ما لا تختلف فيها الانظار، فان احاطة شي ء بشي ء أو اضافة شي ء إلى شي ء اضافة مقولية اسبابها تكوينية لا تختلف بحسب نظر دون نظر مع ان الملكية مختلفة بحسب الانظار، فان العقد الربوي مما يقتضي الملكية بحسب نظر و لا يقتضي الملكية بحسب نظر آخر، فهذا مما يدل على ان الملكية من الأمور الاعتبارية، فربما يعتبرها جماعة و ربما لا يعتبرها آخرون، و على كل فقد حقق في محله ان الملكية من الاعتبارات المجعولة.

و اما الغصبية فهي و ان كانت التصرف المضاف إلى عدم رضا المالك، إلّا ان الملكية اذا كانت اعتبارية فالنتيجة تابعة لها فلا تكون الغصبية من المقولات و لا من خارج المحمول التكويني كالامكان.

(1) هذا هو البرهان على ان متعلق الاحكام هو وجود فعل المكلف خارجا أو حيثية الماهية المكتسبة من الجاعل على الخلاف في اصالة الوجود و الماهية، دون الماهية بنفسها أو وجودها الذهني و دون العنوان، لأن السبب في الأمر و النهي هي المصلحة و المفسدة.

ص: 77

ثالثتها: إنه لا يوجب تعدد الوجه و العنوان تعدد المعنون، و لا ينثلم به وحدته، فإن المفاهيم المتعددة و العناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد، و تصدق على الفارد الذي لا كثرة فيه من جهة، بل بسيط من جميع الجهات، ليس فيه حيث غير حيث، وجهة مغايرة لجهة أصلا، كالواجب تبارك و تعالى، فهو على بساطته و وحدته و أحديته، تصدق عليه مفاهيم

______________________________

و من الواضح: ان المصالح و المفاسد انما تكون في الموجود الخارجي الذي هو منبع الآثار أو في الماهية المتحيثة بحيثية الجعل و التكوين، و ليس وجود الماهية ذهنا و لا حيثيتها الذهنية مما تقوم بهما المصالح و المفاسد، و لا الماهية من حيث هي هي ايضا مما تقوم بها المصالح و المفاسد، فلا الماهية و لا وجودها الذهني مما تتعلق بهما الاغراض و انما الاغراض تقوم بما هو الخارج.

و اما العنوان فلأنه لا خارجية له اصلا، و انما الخارجية لمنشا انتزاعه و معنونه فهو الحامل للغرض الداعي إلى الأمر و النهي، فمتعلق غرض المولى هو فعل المكلف الموجود خارجا الذي خارجيته بوجوده بناء على اصالة الوجود، أو بحيثيته المكتسبة من الجاعل بناء على أصالة الماهية.

عدم ايجاب تعدد الوجه لتعدد المعنون

و اما المفهوم سواء كان ماهيته المتصورة أو عنوانه فهو مرآة دالة للموجود الخارجي و المعنون الخارجي، و الى هذا اشار بقوله: ( (ضرورة ان البعث ليس نحوه)) أي ليس نحو اسم الشي ء و لا نحو عنوانه ( (و الزجر لا يكون)) ايضا ( (عنه و انما يؤخذ)) الاسم و العنوان ( (في متعلق الاحكام آله للحاظ متعلقاتها)) و هي الموجودات الخارجية التي هي المسميات و المعنونات ( (و)) لاجل ( (الاشارة اليها بمقدار الغرض منها و الحاجة اليها)) من السعة و الضيق لما هو الموجود في الخارج من افرادها و معنوناتها ( (لا بما هو هو و بنفسه و على استقلاله و حياله)) من الاسم و العنوان.

ص: 78

الصفات الجلالية و الجمالية (1)، له الاسماء الحسنى و الامثال العليا، لكنها بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الاحد.

عباراتنا شتى و حسنك واحدو كل إلى ذاك الجمال يشير (2).

______________________________

(1) حاصل هذه المقدمة ان نفس تعدد الوجه و العنوان لا يكشف عن تعدد المعنون و المصداق لذلك الوجه في الخارج، بل ربما يكون الموجه بوجوه متعددة و المعنون بعناوين كثيرة في الخارج واحدا، و ربما يكون متعددا، و ليس للوجه و العنون اقتضاء لتعدد مضمونه و مصداقه في الخارج.

و الذي يدلك على ان المفاهيم المتعددة و العناوين المتكثرة لا توجب تعدد مصداقها و معنونها، و انها ربما تنطبق بكثرتها على الواحد البسيط من كل جهة، الذي ليس فيه حيثية غير حيثية وجوده المحض البسيط من جميع الجهات هو صدق المفاهيم المتكثرة من اسمائه الحسنى و امثاله العليا تبارك و تعالى على وجوده البسيط بساطة تامة، و هو بوحدته و بساطته التامة الكلية اللّه و الحي و القيوم و الصمد و الواحد و العالم و المكون إلى غير ذلك من صفاته الجلالية و الجمالية تبارك و جل شأنه و عزّ و تعالى جلاله الواحد بذاته لذاته، الذي هو بذاته إله و هو بذاته علم و هو بذاته قدرة إلى ما لا يتناهى من أسمائه و صفاته جلت و عظمت، و هو بوحدته و بساطته مصداق لجميع هذه الأسماء و الصفات.

فاتضح ان تعدد المفاهيم و العناوين لا اقتضاء لها و لا كاشفية فيها عن تعدد المصداق و المعنون خارجا، بل قد يكون واحدا و قد يكون متعددا فالعالم و الهاشمي قد يكون مصداقهما واحدا و قد يكون مصداق العالم غير مصداق الهاشمي.

(2) المراد من قوله له الامثال العليا هو ان الامثال جمع المثل، و من الواضح ان كل موجود من الموجودات من عالم السماء و الأرض هو مثال و مظهر لقدرته و عظمته و جبروته.

ص: 79

رابعتها: إنه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد، إلا ماهية واحدة و حقيقة فاردة، لا يقع في جواب السؤال عن حقيقته بما هو إلا تلك الماهية، فالمفهومان المتصادقان على ذاك لا يكاد يكون كل منهما ماهية و حقيقة، و كانت عينه في الخارج كما هو شأن الطبيعي و فرده، فيكون الواحد وجودا واحدا ماهية و ذاتا لا محالة، فالمجمع و إن تصادق عليه متعلقا الامر و النهي، إلا أنه كما يكون واحدا وجودا، يكون واحدا ماهية و ذاتا، و لا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية.

و منه يظهر عدم ابتناء القول بالجواز و الامتناع في المسألة، على القولين في تلك المسألة، كما توهم في الفصول (1)، كما ظهر عدم الابتناء

______________________________

(1)

المتحد وجودا متحد ماهية

حاصل هذه المقدمة لرفع توهمين:

الأول انه لا ينبغي ان يتوهم احد ان تعدد العنوان انما لا يستلزم تعدد المعنون بناء على اصالة الوجود، لأن الوجود الواحد يمكن ان ينتزع منه مع وحدته عناوين متعددة، كما عرفت من انتزاع جميع الاسماء و الصفات من وجود الواجب الواحد البسيط التام عزّ و جل، فالعناوين المتعددة تتصادق على وجود واحد، و قد تقدم في المقدمة الثانية ان متعلق التكاليف هو الموجود الخارجي، فالمراد بالعنوان في متعلق الأمر و بالعنوان في متعلق النهي هو هذا الموجود الخارجي الواحد، و قد تقدم في المقدمة الأولى تضاد الاحكام فلا يعقل اجتماع الأمر و النهي بعنوانين في مجمع واحد فلا يعقل القول بالجواز.

و اما بناء على اصالة الماهية فالعناوين هي الماهيات و متعلق كل من الأمر و النهي عنوان غير العنوان الآخر، فمتعلق كل منهما ماهية غير الماهية الأخرى و الماهيات لكل واحد منها تحقق غير تحقق الآخر، و لكل منها حيثية مكتسبة من الجاعل غير الحيثية الأخرى و هذه الحيثية هي خارجية الماهية المطلوبة، فلكل من متعلق الأمر و النهي تحقق في الخارج غير تحقق الآخر فلا اجتماع لهما في شي ء واحد لا في مقام

ص: 80

.....

______________________________

تعلق التكليف و لا في الخارج، فلا مانع من القول بالجواز، اذ الاحكام انما تتضاد في الموضوع الخارجي الواحد حقيقة، و بناء على اصالة الماهية يكون تعدد العنوان- الذي هو الماهية- كاشفا عن تعدد المعنون في الخارج، و اذا تعددت المعنونات خارجا لا يكون هناك موضوع واحد مجمع للحكمين ليلزم التضاد فلا بد من القول بالجواز.

و الحاصل: ان القول بالامتناع مبني على القول باصالة الوجود، و القول بالجواز مبني على القول باصالة الماهية، لأن تعدد العنوان بناء على اصالة الوجود لا يكشف عن تعدد المعنون، و بناء على اصالة الماهية تعدد العنوان يكشف عن تعدد المعنون.

هذا حاصل التوهم الأول.

و الجواب عنه: ان متعلق الأمر و النهي هي العناوين، و العناوين ليست ماهيات حتى يكون لكل ماهية تحقق و ثبوت غير ثبوت الآخر و تحققه، بل متعلق الأمر و النهي كما في المقام الصلاة و الغصب و هما ليستا ماهيتين حقيقيتين كما سنشير اليه، فبناء على كل من اصالة الوجود أو الماهية نسبتهما معا إلى الموجود الخارجي سواء كان هو الوجود أو حيثية الماهية المكتسبة من الجاعل كنسبة العنوان و المعنون، و لا وجود لنفس العنوان خارجا بل الموجود خارجا منشأ انتزاعه، و كما ان الوجود الخارجي يكون منشأ لانتزاع عناوين متعددة بسبب اضافات متعددة بناء على اصالة الوجود كذلك حيثية الماهية تكون منشأ لانتزاع عناوين متعددة، ففعل المكلف الخارجي الذي هو متصادق العناوين هو واحد خارجا بناء على كل من القولين من اصالة الوجود و اصالة الماهية، لأن من الواضح المتفق عليه عند الكل ان المتحقق الخارجي واحد تحققا، و انما الخلاف في ان هذا المتحقق في الخارج هل هو وجود الماهية و الماهية اعتبارية و به يقول القائل باصالة الوجود، أو حيثية الماهية و الوجود اعتباري و هو مذهب القائلين باصالة الماهية.

و لا خلاف بينهم في ان للماهية الواحدة وجودا واحدا و للوجود الواحد ماهية واحدة، فالمتحقق في الخارج واحد على كلا الرأيين، و لا يعقل ان يكون كل واحد

ص: 81

.....

______________________________

منهما اصيلا، لانه لا يكون لكل وجود ماهية و لكل ماهية وجود و يكون كل واحد في الخارج اثنين في الخارج لا واحدا، و يكون لكل حقيقة خارجية جنسان و فصلان في عرض واحد.

و على كل فالمتحقق الخارجي واحد حقيقة له وجود واحد و ماهية واحدة، و على اصالة الوجود المتحقق الواحد الخارجي هو الوجود الواحد، و على اصالة الماهية المتحقق الواحد الخارجي هو الماهية المكتسبة حيثيته من الجاعل.

ففعل المكلف الذي هو المجمع للعناوين واحد في الخارج على كل حال، و القائل بالجواز يدعى ان تعدد العنوان كاف في رفع التضاد، و القائل بالامتناع يدعى ان تعدد العنوان لا يرفع غائلة التضاد.

و على كل فمتعلق الأمر و النهي ليسا ماهيتين حقيقيتين متصادقتين على واحد، بل هما قد يكونان عنوانين باضافتين يتصادقان على وجود واحد كعنوان العالم و الهاشمي المتصادقين على زيد العالم الهاشمي، و مثله الصلاة و الغصب فان الصلاة ليست هي الّا مجموع ماهيات متعددة من الوضع الخاص كالقيام و الركوع و السجود و القراءة.

و ان من الواضح ان مجموع المهيات ليست ماهية واحدة حقيقة و الّا لما انتهى عدد المهيات لأن المهيات الحقيقية هي المقولات المحصورة في العشرة بل مجموع المهيات كالصلاة هي ماهية اعتبارية لا حقيقية، و الغصب ايضا عنوان يصدق على هذا الوضع الخاص الحاصل في الدار المغصوبة بالاضافة إلى كونه تصرفا من غير رضا المالك و قد يكونان ماهية و عنوانا كنفس الكون في الدار فانه من مقولة المكان و الغصب فانه عنوان كما عرفت.

و قد اشار المصنف إلى انه ليس للوجود الواحد الا ماهية واحدة و لا للماهية الواحدة الا وجود واحد بقوله: ( (انه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد الا ماهية واحدة إلى آخر الجملة)).

ص: 82

على تعدد وجود الجنس و الفصل في الخارج، و عدم تعدده، ضرورة عدم كون العنوانين المتصادقين عليه من قبيل الجنس و الفصل له، و إن مثل الحركة في دار من أي مقولة كانت، لا يكاد يختلف حقيقتها و ماهيتها و يتخلف ذاتياتها، وقعت جزءا للصلاة أو لا، كانت تلك الدار مغصوبة أو لا (1).

______________________________

و قد اشار إلى ان المفاهيم المتعلقة للأمر و النهي ليست ماهيتين متصادقتين على شي ء واحد بقوله: ( (فالمفهومان المتصادقان إلى آخر جملته)).

و قد اشار إلى ان المتحقق في الخارج واحد بناء على كل من اصالة الوجود أو الماهية و انما الخلاف ان المتحقق في الخارج ايهما و ان المفهومين المتصادقين عليه انما تصادقا على واحد خارجا بقوله: ( (فالمجمع و ان تصادقا عليه متعلقا الأمر و النهي إلّا انه كما يكون واحدا وجودا يكون واحدا ماهية و ذاتا و لا يتفاوت فيه القول باصالة الوجود و اصالة الماهية)).

و قد اشار إلى ان القول بالجواز و الامتناع لا يبتني على الخلاف في اصالة الوجود و اصالة الماهية بقوله: ( (و منه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز و الامتناع في المسألة على القولين في تلك المسألة)) كما اشرنا إلى تفصيله.

(1) هذا هو التوهم الثاني.

و حاصله: ان هناك خلافا بين الحكماء المتقدمين و المتأخرين في ان تركب الجنس و الفصل أو المادة و الصورة هل هو انضمامي أو اتحادي؟

و معنى كونه انضماميا ان لكل من الجنس و الفصل وجودا في الخارج غير وجود الآخر، و لكنهما منضمان.

و معنى كون التركيب بينهما اتحاديا هو ان الجنس و الفصل لهما وجود واحد في الخارج يحلله العقل إلى الجنس و الفصل و الى المادة و الصورة، و ان الجنس من المبهم غير المتحصل في الخارج الا بتحصل الفصل.

ص: 83

.....

______________________________

فبناء على تعدد الجنس و الفصل في الوجود و ان تركيبهما انضمامي يكون لكل منهما تحصل و ثبوت في الخارج و لا يكون هناك وجود واحد يجمعهما، و بناء على التركيب الاتحادي يكون في الخارج وجود واحد ينحلان اليه.

و ابتناء هذه المسألة جوازا و امتناعا على هذين المبنيين لازمه احد امرين:

اما كون العنوانين نسبة بعضهما لبعض نسبة الجنس و الفصل فالصلاة و الغصب كالحيوان و الناطق، فبناء على تعدد الجنس و الفصل وجودا لا يجتمعان في الوجود و يكون لكل منهما تحقق و ثبوت غير تحقق الآخر، فلا يجتمعان وجودا في موضوع واحد فلا يلزم اجتماع الحكمين المتضادين، اذ المحال اجتماع المتضادين في موضوع واحد و حيث لا وجود واحد يجمعهما فلا موضوع واحد بينهما ليتضادا فيه، فلا مانع من القول بالجواز إذ لا اجتماع فلا سراية، و بناء على وحدة وجودهما خارجا فلا بد من القول بالامتناع لاجتماع الحكمين المتضادين في موضوع واحد لهما و هو الوجود.

و يرده ان العنوانين المتعلق بهما الأمر و النهي ليسا من قبيل الجنس و الفصل، بل هما اما عنوانان و اضافتان لموجود واحد له جنسه و فصله كالعالم و الهاشمي المنطبقين على زيد الفرد الخاص من الحيوان الناطق، أو يكون احدهما هو الموجود الخارجي و الآخر عنوان يصدق عليه نسبة و اضافة خاصة كالصلاة و الغصب، فان الصلاة هي الهيئة الخاصة و الغصب عنوان يصدق عليها حيث تكون في ملك مالك لا يرضى بهذا التصرف، و ليس الغصب فصلا للركوع أو السجود.

و اما كون العنوانين المتعلق بهما الأمر و النهي هما كفصلين للموجود الخارجي، فالحركة في الدار المغصوبة يكون لها فصلان الصلاة و الغصب، فبناء على تعدد الجنس و الفصل يكون لكل من الجنس و الفصلين وجود غير وجود الآخر فلا اجتماع للحكمين في موضوع واحد فلا مانع من القول بالجواز، و بناء على التركيب الاتحادي يجتمع الحكمان في موضوع واحد فلا بد من القول بالامتناع.

ص: 84

إذا عرفت ما مهدناه، عرفت أن المجمع حيث كان واحدا وجودا و ذاتا، كان تعلق الامر و النهي به محالا، و لو كان تعلقهما به بعنوانين، لما عرفت من كون فعل المكلف بحقيقته و واقعيته الصادرة عنه، متعلقا للاحكام لا بعناوينه الطارئة عليه (1)، و أن غائلة اجتماع الضدين فيه

______________________________

و يرده ان العنوانين المتعلق بهما الأمر و النهي ليسا كفصلين للموجود الخارجي، اذ لا يعقل ان يكون للجنس الواحد فصلان عرضيان، و لا يمكن ان يكون الحيوان متفصلا بفصلين في عرض واحد كالناطقية و الفرسية.

نعم انما يجوز ان يكون للجنس فصلان طوليان كالنامية للجسم و الحساسية.

و قد اكتفى المصنف بالرد اجمالا بقوله: ( (ضرورة عدم كون العنوانين المتصادقين عليه من قبيل الجنس و الفصل إلى آخر الجملة)).

إلّا انه لا يخفى انه من البعيد على صاحب الفصول ان يتوهم ذلك و خصوصا الثاني.

و المظنون ان صاحب الفصول يريد ان يقول انه اذا تعلق الأمر و النهي بالجنس و الفصل فبناء على التعدد في الوجود يقال بالجواز، و بالامتناع بناء على الاتحاد في الوجود.

و لا يخفى ايضا انه على هذا انما يتم كلامه بناء على ان النزاع في هذه المسألة من ناحية التضاد بين الحكمين و هو التكليف المحال، و اما اذا كان النزاع اعم من التكليف المحال و التكليف بالمحال- و لو من ناحية عدم القدرة على الامتثال- فان الجنس و الفصل و ان كانا متعددين في الوجود إلّا انه لا يعقل اختلافهما في الحكم، فلا يعقل ان يجتمع الأمر بالجنس و النهي عن الفصل أو بالعكس.

(1)

تقرير دليل الامتناع

لا يخفى انه بعد ان ثبت تضاد الاحكام و ثبت ان متعلق التكليف هو الموجود الخارجي و ثبت ان تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون- يتضح القول بالامتناع و انه لا سبيل إلى اجتماع الأمر و النهي في مجمع واحد، فان المطلوب بالصلاة في الدار

ص: 85

لا تكاد ترتفع بكون الاحكام تتعلق بالطبائع لا الافراد، فإن غاية تقريبه أن يقال: إن الطبائع من حيث هي هي، و إن كانت ليست إلا هي، و لا تتعلق بها الاحكام الشرعية، كالآثار العادية و العقلية، إلا أنها مقيدة بالوجود، بحيث كان القيد خارجا و التقيد داخلا، صالحة لتعلق الاحكام بها، و متعلقا الامر و النهي على هذا لا يكونان متحدين أصلا، لا في مقام تعلق البعث و الزجر، و لا في مقام عصيان النهي و إطاعة الامر بإتيان المجمع بسوء الاختيار.

أما في المقام الاول، فلتعددهما بما هما متعلقان لهما و إن كانا متحدين فيما هو خارج عنهما، بما هما كذلك.

______________________________

المغصوبة هي الحركات الخاصة أو الهيئات الخاصة، و هذه الحركات الخاصة في الدار المغصوبة أو الهيئة الخاصة فيها هي مطابق عنوان الغصب، فيكون الأمر متوجها إلى ايجاد هذه الحركة و النهي متوجها إلى عدم ايجادها، و تكون هذه الحركة الخاصة محبوبة و مبغوضة في آن واحد، و هل يعقل ان يجتمع التحريك إلى ايجاد شي ء واحد في آن واحد و الزجر عن ايجاده، و محبوبية ايجاده و مبغوضية ايجاده؟ فاجتماعهما من اجتماع الضدين الذي هو من التكليف المحال، و لا تصل النوبة إلى عدم القدرة و التكليف بالمحال.

و قد ثبت مما ذكرنا: ان حال اجتماع الأمر و النهي في الواحد بعنوانين كحال اجتماعهما في الواحد بعنوان واحد، و قد اشار المصنف إلى المقدمة الثالثة بقوله:

( (عرفت ان المجمع حيث كان واحدا وجودا و ذاتا كان تعلق الأمر و النهي به محالا و لو كان تعلقهما به بعنوانين)) لأن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون.

و اشار إلى المقدمة الثانية بقوله: ( (لما عرفت من كون فعل المكلف إلى آخر الجملة)).

و لم يشر إلى المقدمة الاولى لوضوح تضاد الاحكام و محالية اجتماع الضدين.

ص: 86

و أما في المقام الثاني، فلسقوط أحدهما بالاطاعة، و الآخر بالعصيان بمجرد الاتيان، ففي أي مقام اجتمع الحكمان في واحد (1)؟

______________________________

(1) لما فرغ من اثبات الامتناع شرع في التعرض لادلة المجوزين التي منها ما اشار اليه بقوله: ( (لا تكاد ترتفع بكون الاحكام تتعلق بالطبائع لا الافراد)).

و حاصله: و قد مرّ بعض الكلام فيه في الأمر التاسع، انه لو كان متعلق الأمر و النهي هو الافراد للزم اجتماع الضدين لتضاد الحكمين المجتمعين في الفرد الواحد الذي هو الماهية الموجودة بما لها من المشخصات، خصوصا بناء على ان تشخص الطبيعة بما يلازمها من المقولات المقارنة لها في الوجود، فان الفرد الصلاتي- مثلا- هو المطلوب بما له من المشخصات المقارنة له التي منها كونه في المكان المغصوب، فيكون الفرد بما له من التشخص الغصبي مطلوبا و تشخصه الغصبي منهي عنه فيجتمع الحكمان المتضادان في الوجود الواحد بتشخصه.

و اما اذا كان متعلق الأمر و النهي هي الطبائع و حيث ان الطبيعة من دون تقيدها بالوجود لا يتعلق بها غرض و انما تكون متحملة للغرض حيث تقيّد بالوجود و لا داعي لكون المتعلق هو وجودها، اذ الظاهر ان نفس الطبيعة هي المتعلق، و لكن علمنا عقلا انها بما هي لا تكون متحملة للغرض، فلا بد من مخالفة الظاهر بمقدار الحاجة و هو كون الطبيعة مقيدة بالوجود بنحو ان يكون التقيد داخلا و القيد خارجا، اذ لا داعي إلى دخول القيد بعد ان كان التقيد به كافيا، و اذا كان متعلق الأمر و النهي هو الطبائع المقيدة بالوجود بنحو ان يكون القيد خارجا، ففي مقام تعلق الأمر و النهي فالوجود خارج عن متعلق الحكمين فلا اجتماع لهما في مجمع واحد، اذ متعلق كل منهما طبيعة غير الطبيعة المتعلق بها الآخر فانهما انما يجتمعان في مقام التعلق اذا كان الوجود داخلا، و قد عرفت خروجه عما هو المتعلق، اذ المفروض ان المتعلق لكل منهما هو طبيعة غير الطبيعة الأخرى.

ص: 87

.....

______________________________

و من الواضح ايضا انه في مقام ايجادهما لا اجتماع للحكمين في وجود واحد لأن المفروض انه بايجاد هذا الوجود الواحد المنطبق عليه الطبيعتان يسقط الحكمان احدهما بالاطاعة و الآخر بالعصيان، و لا يعقل ان يكون فيما يتحقق به عدم الحكمين يتضادان فيه، اذ لا يحصل التضاد بين الضدين الا في اجتماعهما في الوجود، اما في حال عدمهما فلا محالية لانه لا محالية في اجتماع الضدين المعدومين، و انما المحال اجتماع الضدين الموجودين، و متعلق الحكمين الذي هو الطبيعتان المقيدتان بالوجود في حال وجود ما ينطبقان عليه خارجا يسقطان و يعدمان، ففي الخارج لا يجتمع الحكمان المتضادان و في مقام تعلق الأمر و النهي بالطبيعتين لا اجتماع بينهما حتى يتضادان في مقام الاجتماع.

قوله: ( (لا يتعلق بها الاحكام الشرعية كالآثار العادية و العقلية)): أي ان الاحكام الشرعية التابعة للاغراض و الآثار لا تتعلق بالطبائع من حيث هي كما ان الآثار العادية و العقلية لا تترتب على الطبائع من حيث هي، فان ماهية الوضع الركوعي من حيث هي لا يترتب عليها كونها معراجا للمؤمن أو ناهية عن الفحشاء، و انما يترتب هذا الغرض على ماهية الركوع المتقيدة بالوجود، كما ان آثار الركوع العادية الذي هو من مقولة الوضع ككون يديه على ركبتيه أو مسبلتين- مثلا- أو قدماه إلى جهة خاصة انما تترتب على ماهية الركوع المتقيدة بالوجود، و كذلك آثارها العقلية ككونها خضوعا للمولى و معنونة بعنوان حسن انما تترتب على ماهية الركوع المقيدة بالوجود.

و الحاصل: ان الماهية المقيدة بالوجود بناء على اصالة الوجود، أو الماهية المقيدة بالحيثية المكتسبة من الجاعل- هي منبع الآثار سواء كانت الآثار شرعية أو عادية أو عقلية، و اما الماهية من حيث هي هي فلا تكون مصدرا لأثر و لا محتملة لشي ء من الأغراض اصلا، و بقية عبارة الكتاب واضحة.

ص: 88

و أنت خبير بأنه لا يكاد يجدي بعد ما عرفت، من أن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون لا وجودا و لا ماهية، و لا تنثلم به وحدته أصلا، و أن المتعلق للاحكام هو المعنونات لا العنوانات، و أنها إنما تؤخذ في المتعلقات بما هي حاكيات كالعبارات، لا بما هي على حيالها و استقلالها (1).

______________________________

(1) و توضيحه انه حيث كان القائل بالجواز بنى القول بالجواز على تعلق الأمر و النهي بالطبائع، و اعترف بانه على القول بالتعلق بالأفراد يقول بالامتناع، فلذا لم يتعرض المصنف إلى ذكر ذلك، و تعرض إلى انه على القول بالتعلق بالطبائع ايضا لا مجال للقول بالجواز.

و تفصيله ان المتعلق للأمر و النهي: اما ان يكون ماهية نوعية، و هذا على نحوين:

لانه تارة يكون لكل ماهية وجود على حدة و لكنهما يجتمعان في موضوع واحد، كما لو تعلق الأمر بالتستر و نهى عن التحرك في المغصوب فانحصر الستر بالمغصوب، فان المأمور به الهيئة التسترية و هي من الوضع و المنهي عنه الحركة في المغصوب و الحركة عرفا هيئة الوضع و عند الانحصار يكون المقام من التكليف بالمحال.

و اخرى: يكون للماهية النوعية وجود واحد و لا بد في مثل ذلك ان يكون ما تعلق به الأمر عين ما تعلق به النهي، و تدخل المسألة في دلالة النهي على الفساد، لوضوح انه لا يعقل ان يكون للماهية النوعية الواحدة وجودان، فلا بد و ان يكون ما تعلق به الأمر عين ما تعلق به النهي.

و اما ان يكون المتعلق للامر و النهي مختلفين بان يكون- مثلا- متعلق الامر ماهية نوعية و متعلق النهي عنوانا كالصلاة في الدار المغصوبة، فان متعلق الأمر طبيعة خاصة و ماهية من الماهيات و متعلق النهي عنوان.

أو يكون المتعلق لكل منهما عنوانا كالعالم و الهاشمي و في مثل هذين القسمين لا ينفع القائل بالجواز كون متعلق الأمر و النهي هو الطبيعة، لأن المتعلق للأمر و النهي

ص: 89

كما ظهر مما حققناه: أنه لا يكاد يجدي أيضا كون الفرد مقدمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه، و أنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار، و ذلك- مضافا إلى وضوح فساده، و أن الفرد هو عين الطبيعي في الخارج، كيف؟ و المقدمية تقتضي الاثنينية بحسب الوجود، و لا تعدد كما هو واضح- أنه إنما يجدي

______________________________

مجتمعان في وجود واحد فلا بد له من ان يقول اما بعدم تضاد الاحكام، أو بان تعدد العنوان يكشف عن تعدد المعنون، أو بان المتعلق هو الطبيعة المقيدة بالوجود.

و قد عرفت تضاد الاحكام و ان تعدد العنوان لا يكشف عن تعدد المعنون، و اما ان متعلق الحكم هو فعل المكلف و وجوده لا الطبيعة المقيدة بالوجود فلوضوح ان الحكم انما ينبعث عن الغرض الداعي اليه، و قد عرفت ان مصدر الاثر و موضوع الغرض انما هو الوجود أو الحيثية المكتسبة، و لا يعقل ان يتعلق الأمر و النهي بالطبيعة المقيدة مع خروج قيد الوجود و الحيثية المكتسبة، و الحال ان ما به الغرض هو الوجود أو الحيثية، فلا بد و ان يكون المراد من الماهية النوعية و العنوان الصادق عليها هو وجود تلك الماهية و معنون العنوان، و ان يكون المراد من العنوانين هو معنونهما و هو الموجود الخارجي الواحد وجودا.

و حيث كان تضاد الاحكام أمرا مفروغا عنه لذا كانت دعوى المدعى هو تعلق الحكم بالطبيعة المقيدة بالوجود فرارا عنه حتى لا تتضاد الاحكام، و يكون تعدد العنوان لازمه تعدد المعنون، و لذلك لم يشر المصنف إلى تضاد الاحكام، و اشار إلى ان تعدد العنوان لا يجدي بقوله: ( (بعد ما عرفت من ان تعدد العنوان إلى آخر الجملة)).

و اشار إلى ان متعلق الاحكام هو وجود الطبيعة لا الطبيعة المقيدة بالوجود ( (و ان المتعلق للاحكام هو المعنونات لا العنوانات إلى آخر الجملة)).

ص: 90

لو لم يكن المجمع واحدا ماهية، و قد عرفت بما لا مزيد عليه أنه بحسبها أيضا واحد (1).

______________________________

(1) يشير إلى ردّ الاستدلال الثاني لبعض القائلين بالجواز و هو المحقق القمي، و ينبغي بيانه اولا قبل التعرض إلى ردّه.

توضيحه: ان متعلق الأمر ماهية غير الماهية المتعلق بها النهي، ففي مقام التعلق لا مضادة بينهما لكون متعلق الأمر ماهية غير الماهية المتعلق بها النهي لتباينهما فلا تسري مبغوضية النهي إلى الأمر، و في مقام الخارج و هو مقام حصولهما و تحققهما ايضا لا مضادة و لا سراية لأن الفرد الخارجي مقدمة لوجودهما و تحققهما، و حيث لا نقول بالملازمة بين وجوب الواجب و وجوب مقدمته و لا بين الحرام و حرمة مقدمته فلا اجتماع في الفرد الذي هو المقدمة لهما، و لا في نفس متعلق الأمر و النهي، لأن لكل ماهية منهما تحققا غير تحقق الآخر، و على فرض القول بالملازمة بين وجوب الواجب و وجوب مقدمته و بين الحرام و حرمة مقدمته فيجتمع في الفرد الوجوب و الحرمة الغيريين و يرتفع الوجوب و يكون الفرد المقدمة حراما، و لا مانع في حرمة المقدمة عن وقوع الامتثال بذي المقدمة، فان حرمة المقدمة مع عدم الانحصار بها لا تضر بحصول الاطاعة و الامتثال لذيها، فان من كان عنده دابتان مغصوبة و غير مغصوبة فركب المغصوبة فمن المسلم وقوع حجه صحيحا، و كذا في الانحصار في المقدمة المحرمة اذا كان بسوء الاختيار، فان التكليف بالمحال لا مانع منه اذا كان بسوء الاختيار، فمن كان عنده دابتان مغصوبة و غير مغصوبة فأتلف غير المغصوبة بسوء اختياره فلا مانع من تكليفه بالحج على هذا الفرض.

نعم اذا كان الانحصار لا بسوء الاختيار، كما لو تلفت الدابة بغير اختياره فانه يسقط عنه الحج اذا كان ملاك حرمة الغصب اقوى، أو يسقط الغصب اذا كان ملاك وجوب الحج اقوى من الغصب، و حيث نشترط المندوحة فلا انحصار اصلا.

ص: 91

.....

______________________________

و قد اشار المصنف إلى بعض ما ذكرنا فاشار إلى كون الفرد مقدمة لمتعلق الأمر و النهي بقوله: ( (كون الفرد مقدمة لوجود الطبيعي)) و اشار إلى انه لا مانع من التكليف اذا كانت المقدمة محرمة، و لكن الانحصار فيها كان بسوء الاختيار بقوله:

( (و انه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار)).

و في هذا الكلام مواقع للنظر:

اولا: ان الانحصار بسوء الاختيار مانع من فعلية الخطاب و التكليف و يلزمه العقاب على ترك الواجب في ظرفه و ان لم يكن له خطاب بالفعل لقبح التكليف بالمحال، و قد اشار إلى هذا بقوله: ( (مضافا إلى وضوح فساده)).

و ثانيا: قد تقدم انه لا وجه لقيد المندوحة فيما هو المهم من محل النزاع من اجتماع الضدين الذي هو من التكليف المحال لا التكليف بالمحال.

و ثالثا: ان الفرد لا يعقل ان يكون وجودا لماهيتين فان لكل ماهية وجودا واحدا، فكيف يمكن ان يكون الوجود الواحد وجودا لماهيتين؟

و قد عرفت فيما تقدم ان مسألة الاجتماع انما تكون فيما اذا كان متعلق الأمر عنوانين منطبقين على معنون واحد وجودا، أو يكون متعلق احدهما ماهية نوعية و متعلق الآخر عنوانا منطبقا على وجود تلك الماهية، و اما اذا كان متعلق كل منهما ماهية نوعية غير الماهية الأخرى و اجتمعا في موضوع واحد فهو خارج عما هو المهم و داخل في التكليف بالمحال.

و رابعا: ان الفرد عين وجود الطبيعي في الخارج و ليس الطبيعي الا الحصة في الخارج و هو الفرد، و ليس الفرد مقدمة للطبيعي فان المقدمية تقتضي الاثنينية في الوجود و لا اثنينية بين الطبيعي و الفرد في الوجود خارجا، و الى هذا اشار بقوله:

( (و ان الفرد هو عين الطبيعي في الخارج إلى آخر الجملة)) و قد اشار إلى الثالث بقوله: ( (انه انما يجدي لو لم يكن المجمع واحدا ماهية إلى آخر الجملة)).

قوله: ( (بيان الملازمة)).

ص: 92

ثم إنه قد استدل على الجواز بأمور:

منها: إنه لو لم يجز اجتماع الامر و النهي، لما وقع نظيره و قد وقع، كما في العبادات المكروهة، كالصلاة في مواضع التهمة و في الحمام و الصيام في السفر و في بعض الايام.

بيان الملازمة: إنه لو لم يكن تعدد الجهة مجديا في إمكان اجتماعهما لما جاز اجتماع حكمين آخرين في مورد مع تعددهما، لعدم اختصاصهما من بين الاحكام بما يوجب الامتناع من التضاد، بداهة تضادها بأسرها، و التالي باطل (1)، لوقوع اجتماع الكراهة و الايجاب أو الاستحباب، في

______________________________

حاصله: ان العلة المانعة من اجتماع الوجوب و الحرمة بعنوانين تقتضي ايضا عدم جواز اجتماع الوجوب و الكراهة في واحد بعنوانين، لأن العلة المانعة من الاجتماع في الوجوب و الحرمة هي تضاد الاحكام، و كما ان الحكم الوجوبي و التحريمي في واحد بعنوانين من المتضادين كذلك الحكم الوجوبي أو الاستحبابي مع الحكم الكراهتي بعنوانين من المتضادين ايضا.

فمراده من الملازمة هي الملازمة بين اجتماع الوجوب و الكراهة بعنوانين، و بين اجتماع الوجوب و الحرمة بعنوانين نفيا و اثباتا، فاذا ثبت في احدهما لا بد و ان يثبت في الآخر، و قد ثبت جواز اجتماع الوجوب و الاستحباب مع الكراهة في الأمثلة المذكورة في لسان الشارع فلا بد و ان يثبت ذلك في اجتماع الوجوب و الحرمة، و حيث ان اجتماع الاحكام المتضادة لا يعقل ان يكون جائزا فلا بد و ان يكون تعدد الجهة و كونهما بعنوانين مجديا في رفع التضاد بينهما لأن حكم الامثال على السواء.

(1)

أدلة المجوزين

هذا من جملة ما استدل القائلون بجواز الاجتماع.

و حاصله: انه لو كان اجتماع الأمر و النهي في وجود واحد بعنوانين محالا لما وقع من الشارع.

ص: 93

.....

______________________________

و توضيحه: انه لاشكال في ان تضاد الاحكام لا ينحصر في الوجوب و الحرمة، فان اجتماع الوجوب و الكراهة ايضا لا يصح، فاذا صحّ اجتماعهما بعنوانين صحّ اجتماع الوجوب و الحرمة بعنوانين، و لا ريب ايضا في تضاد الاحكام في الواحد بعنوان واحد، و اما في الواحد بعنوانين فلا بد ان لا يكون اجتماعهما من اجتماع المتضادين، اذ لا يعقل من الشارع ان يجمع بين الضدين، فاذا وقع في لسان الشارع اجتماع الكراهة و الوجوب بعنوانين فهو يدل ان على تعدد العنوان مجد في رفع التضاد و الّا لما وقع في لسان الشارع.

و بعبارة اخرى: انه يلزم مما ذكرتموه من امتناع اجتماع الأمر بالصلاة و حرمة الغصب في الصلاة في الدار المغصوبة ان لا يجتمع الأمر بصلاة الفريضة و كراهتها في اتيانها بالحمام، لأن الاحكام باسرها متضادة و لا خصوصية للوجوب و الحرمة و هذا اللازم باطل، لأنه قد ورد في لسان الشارع اجتماع الوجوب و الكراهة في النهي بنحو الكراهة عن الصلاة الواجبة في الحمام، و ان لا يجتمع ايضا الصلاة نافلة مع كراهتها في الحمام، فإن الاول من اجتماع الوجوب و الكراهة، و الثاني من اجتماع الاستحباب و الكراهة.

قوله: ( (و التالي باطل)). المتحصل من كلامه ان الاستدلال على الجواز بنحو القياس الاستثنائي، و هو كما في عبارته انه لو لم يجز اجتماع الحكمين الوجوبي و التحريمي في وجود واحد بعنوانين لما جاز اجتماع الحكمين الوجوبي و الكراهتي في وجود واحد بعنوانين، و التالي باطل و هو عدم جواز اجتماع الحكمين الوجوبي و الكراهتي بعنوانين لورود اجتماعهما في لسان الشارع، و يستلزم بطلان التالي بطلان المقدّم و هو عدم جواز اجتماع الحكمين الوجوبي و التحريمي بعنوانين، لعموم العلة و تساوي حكم الامثال.

ص: 94

مثل الصلاة في الحمام، و الصيام في السفر، و في عاشوراء و لو في الحضر، و اجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الاباحة أو الاستحباب (1)، في مثل الصلاة في المسجد أو الدار (2).

و الجواب عنه أما إجمالا: فبأنه لا بد من التصرف و التأويل فيما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع، بعد قيام الدليل على الامتناع، ضرورة أن الظهور لا يصادم البرهان (3)، مع أن قضية ظهور تلك الموارد،

______________________________

(1) مثال الصلاة في الحمام و في مواضع التهمة من اجتماع الوجوب و الكراهة في صلاة الفريضة، و من اجتماع الاستحباب و الكراهة في صلاة النافلة.

و مثال الصوم في السفر فهو لاجتماع الاستحباب و الكراهة بناء على صحة الصوم المندوب في السفر على كراهة، و اجتماع الاستحباب و الكراهة ايضا في الصوم الندبي في الحضر كصوم يوم عاشوراء، فانه قد وردت النصوص بكراهة صوم يوم عاشوراء.

(2) الصلاة في المسجد فريضة من اجتماع الوجوب و الاستحباب، و الصلاة في المسجد نافلة من اجتماع الاستحباب مع الاستحباب، و الصلاة في الدار فريضة من اجتماع الوجوب و الاباحة، و الصلاة في الدار نافلة من اجتماع الاستحباب و الاباحة، فاجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الاباحة في الصلاة في الدار فريضة مرّة و نافلة أخرى، و اجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الاستحباب في الصلاة في المسجد فريضة مرة و نافلة أخرى.

(3)

الجواب الاجمالي عما ظاهره الاجماع

لقد اشار إلى ثلاثة اجوبة عن هذا الاشكال:

الأول: الجواب الاجمالي و حاصله: انه بعد قيام البرهان القطعي: في ان الحال في اجتماع الحكمين المتضادين في وجود واحد بعنوانين كحال اجتماعهما في واحد بعنوان واحد، و لا يعقل ان يكون ما قام الدليل العقلي على محاليته جائزا، فلا بد من التأويل لما كان بظاهره يقتضي جواز اجتماع الحكمين في وجود واحد بعنوانين،

ص: 95

اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد، و لا يقول الخصم بجوازه كذلك، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين و بوجهين، فهو أيضا لا بد له من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها (1) لا سيما إذا لم يكن هناك مندوحة، كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلا، كما لا يخفى (2).

______________________________

لأن الظهور لا يصادم البرهان القطعي، فاذا ورد في لسان الشارع مما يدل بظاهره على جواز الاجتماع في وجود واحد بعنوانين لا بد من تأويله و رفع اليد عن ظهوره.

(1) هذا الجواب الثاني.

و حاصله: ان ما ورد من الشارع مما ظاهره اجتماع الحكمين في واحد ليس من مسألة الاجتماع، لانه ليس من اجتماع الحكمين في وجود واحد بعنوانين بل هو من اجتماع الحكمين في واحد، و هذا من المسلم امتناعه عند الكل لأن النهي قد ورد عن الصلاة في الحمام و في مواقع التهمة، فيكون من اجتماع الأمر بالصلاة مع النهي عن نفس الصلاة في الحمام، و ليس كاجتماع الصلاة مع الغصب في الافعال الخاصة الصلاتية في الدار المغصوبة، فان الأمر قد تعلق بالصلاة و النهي قد تعلق بالغصب لا بالصلاة، و لكن الغصب و الصلاة اجتمعا في الافعال الصلاتية في الدار المغصوبة، بخلاف الصلاة في الحمام فان متعلق الأمر نفس الصلاة و متعلق النهي نفس الصلاة- ايضا- لا عنوان آخر منطبق على ما انطبقت عليه الصلاة، فلا بد من اجتماع الكل القائلين بالجواز و القائلين بالامتناع على تأويل هذه الاخبار.

(2) كصوم يوم عاشوراء فانه لا بدل له و كالصوم في السفر فانه لا بدل له ايضا.

و الفرق بين ما به مندوحة و ما لا مندوحة فيه في الواحد بعنوان واحد أن اجتماع الأمر و النهي فيما لا مندوحة فيه عام في جميع الافراد و فيما له مندوحة ليس عاما بل في بعض الافراد.

ص: 96

و أما تفصيلا: فقد أجيب عنه بوجوه، يوجب ذكرها بما فيها من النقض و الابرام طول الكلام بما لا يسعه المقام، فالاولى الاقتصار على ما هو التحقيق في حسم مادة الاشكال.

فيقال و على اللّه الاتكال: إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما تعلق به النهي بعنوانه و ذاته، و لا بدل له، كصوم يوم عاشوراء، و النوافل المبتدئة في بعض الاوقات.

ثانيها: ما تعلق به النهي كذلك، و يكون له البدل، كالنهي عن الصلاة في الحمام.

ثالثها: ما تعلق النهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجودا، أو ملازم له خارجا، كالصلاة في مواضع التهمة، بناء على كون النهي عنها لاجل اتحادها مع الكون في مواضعها (1).

أما القسم الاول: فالنهي تنزيها عنه بعد الاجتماع على أنه يقع صحيحا، و مع ذلك يكون تركه أرجح، كما يظهر من مداومة الائمة

______________________________

و قد اتضح مما ذكرنا: من كون الاجتماع الوارد في لسان الشارع هو في الواحد بعنوان واحد انه لا وجه لأن يكون هذا الاجتماع المتسالم على محاليته دليلا على ما هو محل النزاع من الاجتماع في الواحد بعنوانين، فانه مضافا إلى عدم الملازمة بين المحالات انه مع كون الاجتماع في الواحد بعنوان واحد محالا لا ينبغي ان يستدل به على الجواز في الواحد بعنوانين.

نعم لو كان الاجتماع في الواحد بعنوان واحد جائزا لدل على الجواز في الواحد بعنوانين بالاولوية.

(1)

انقسام العبادات المكروهة الى ثلاثة أقسام و توجيه الاجتماع فيها

لا يخفى انه حيث كان ما ورد في لسان الشارع مما اجتمع فيه الأمر و النهي بعنوان واحد على ثلاثة أقسام كان الجواب التفصيلي- لكل واحد من الأقسام- بالكلام في كل قسم على حدة.

ص: 97

عليهم السلام على الترك (1)، إما لاجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض، و إن كان مصلحة الترك أكثر، فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهم في البين، و إلا فيتعين الاهم و إن كان الآخر يقع صحيحا، حيث أنه كان راجحا و موافقا للغرض، كما هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات (2)، و ارجحية

______________________________

(1) القسم الاول هو الذي تعلق به النهي بذاته و بعنوانه الخاص و كان لا بدل له، كالنهي التنزيهي المتعلق بصوم يوم عاشوراء، و حيث انه قام الاجماع على ان صومه يقع صحيحا فلا بد من وقوعه قربيّا فلا محالة يكون مأمورا به، فقد اجتمع فيه الأمر و النهي بعنوان كونه صوم يوم عاشوراء و هو مما لا بدل له.

و قد عرفت تضاد الأحكام فلا يمكن ان يكون يوم عاشوراء راجحا و مندوبا باعتبار الأمر به و مرجوحا و مكروها باعتبار النهي التنزيهي عنه، فان ظاهر الكراهة كونها نهيا ناشئا عن المفسدة غير الملزمة، و لا يعقل ان يكون الشي ء بالفعل ذا مصلحة مرجّحة لفعله على تركه و ذا مفسدة مرجّحة لتركه على فعله.

كما ان الظاهر من مداومة الائمة عليهم السّلام على ترك صوم يوم عاشوراء ان الترك للصوم ارجح من فعل الصوم، و مع قيام الاجماع على صحة الصوم و وقوعه عبادة فلا بد من التأويل.

(2) قد عرفت ان ظاهر النهي التنزيهي انه ناشئ عن مفسدة في الفعل.

و حاصل هذا التأويل الاول الذي اشار اليه انه لا بد من رفع اليد عن هذا الظاهر بالتزام ان رجحان الترك على الفعل لا للمفسدة في الفعل، بل لأجل ان الترك قد انطبق عليه عنوان ذو مصلحة اقوى من مصلحة الفعل، و انما التزم في كون المصلحة في العنوان المنطبق على الترك و لم يلتزم في كون المصلحة في ذات الترك، لانه لو كانت المصلحة الراجحة على مصلحة الفعل في نفس الترك لكان تقيض الترك الذي

ص: 98

الترك من الفعل لا توجب حزازة و منقصة فيه أصلا، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته (1)، و لذا لا يقع صحيحا على الامتناع،

______________________________

هو نفس الفعل مرجوحا، فلا يمكن ان يكون فيه مع ذلك مصلحة راجحة، اذ المرجوحية و الراجحية في واحد من اجتماع النقيضين، فلذا جعل المصلحة في العنوان المنطبق على الترك، فان الترك و ان كان هو المعنون بذلك العنوان ذي المصلحة إلّا ان الفعل ليس نقيضا للترك بما هو معنون بذلك العنوان، بل الفعل نقيض للترك بما هو ترك لا بما هو معنون بعنوان.

و على كل فالفعل يكون ذا مصلحة، و الترك لتعنونه بذلك العنوان يكون ذا مصلحة ايضا، فان كانت المصلحتان متساويتين يقع التخيير بين الفعل و الترك، و اذا كانت مصلحة الترك اقوى فهي اهم من مصلحة الفعل لقوتها، فيكون الحكم الفعلي هو الموافق لمصلحة الترك لأنها اقوى، كما انه كذلك في المقام لمداومة الائمة على الترك و يكون الحكم في طرف الفعل شأنيا لا فعليا، و انما يقع الفعل صحيحا و عبادة باعتبار المصلحة الموجودة في ذاته، و لذا قام الاجماع على صحته و وقوعه عبادة ان لم يكن له حكم فعلي.

و الحاصل: ان الفعل يكون مستحبا و الترك يكون مستحبا، و حيث كان الاستحباب في الترك اقوى لذلك كان الترك اقوى استحبابا من استحباب الفعل، فهما مستحبان متزاحمان قدم الاقوى منهما في الفعلية، و لكنه حيث كان الفعل ايضا مستحبا و ذا مصلحة فلذلك يقع صحيحا و عبادة.

(1) هذا جواب عن سؤال مقدر، و حاصله: انه اذا كان الترك اقوى استحبابا من الفعل فنقيضه و هو الفعل يكون مرجوحا، و مع كونه مرجوحا كيف يمكن ان يقع صحيحا و عبادة مقربة.

و الجواب ما اشار اليه.

ص: 99

.....

______________________________

و حاصله: ان الكراهة تارة تكون لمفسدة في الفعل و هذه هي التي تكون مانعة عن وقوع الفعل صحيحا و عبادة.

و اخرى تكون الكراهة بمعنى ترك المصلحة و هذه لا تكون مانعة، لأن المانع ما اوجب حزازة و نقصانا مترتبا على الفعل، و مطلق ترك الراجح ما لم يكن عن مفسدة لا يوجب حزازة و نقصانا يمنع عن وقوعه عبادة.

و قد ذكر في هامش الكتاب اشكالا آخر(1) و هو انه ربما يقال: ان الكراهة في المقام و ان كانت لا لأجل مفسدة و حزازة و منقصة في الفعل، إلّا انه لا اشكال في كون الفعل حيث كان نقيضا للترك الذي هو اقوى استحبابا يكون منهيا عنه بالنهي التنزيهي و لو لكونه ترك المستحب، و مع تنجز النهي و طلب ترك الفعل كيف يمكن ان يقع الفعل صحيحا و عبادة؟ و لا اقل من انه يكون مثل ضد الواجب بناء على ان الضد مقدمة لترك ضده، فان ضد الواجب الأهم كالصلاة اذا كانت حراما لكونها مقدمة للازالة التي هي الاهم لا يعقل ان تقع صحيحة و عبادة، مع ان النهي عنها ليس لمنقصة و مفسدة في ذات الصلاة بل النهي عنها انما هو لأجل انه بفعل الصلاة يترك الأهم، فالمانع عن وقوعها صحيحة و عبادة هو النهي عنها الذي لم يكن لمنقصة و مفسدة في ذاتها، و أي فرق بين هذا النهي و النهي في المقام سوى ان احدهما تحريمي و هو ضد الواجب، و هنا تنزيهي لأن ترك المستحب الاقوى استحبابا.

و حاصل ما اجاب عنه في هامش الكتاب: انه فرق بين النهي التحريمي و التنزيهي في ان التحريمي حيث كان منعا لا ترخيص فيه فلا يمكن ان يقع ضد الواجب عبادة و مقربا، اذ الممنوع عن وجوده منعا تاما لا ترخيص فيه و لا اذن في فعله، و مع عدم الاذن به اصلا لا يعقل وقوعه عبادة و صحيحا، بخلاف النهي التنزيهي حيث انه مرخص فيه و مأذون في فعله فلا يمنع عن قصد ما فيه من المصلحة و المحبوبية، لفرض

ص: 100


1- 3. ( 1) كفاية الاصول بحاشية المحقق المشكيني( قدس سره): ج 1 ص 256.( حجري).

فإن الحزازة و المنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به، بخلاف المقام، فإنه على ما هو عليه من الرجحان و موافقة الغرض. كما إذا لم يكن تركه راجحا بلا حدوث حزازة فيه أصلا (1).

و إما لاجل ملازمة الترك لعنوان كذلك، من دون انطباقه عليه، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت، إلا في أن الطلب المتعلق بهي حينئذ ليس بحقيقي، بل بالعرض و المجاز، فإنما يكون في الحقيقة متعلقا بما يلازمه من العنوان، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقيقة، كما في سائر المكروهات من غير فرق، إلا أن منشأه فيها حزازة و منقصة في نفس الفعل، و فيه

______________________________

كون النهي عنه لا لمفسدة و انه باق على ما هو عليه من الرجحان الذاتي فلذا صح ان يقع عبادة.

و لا يخفى انه لا بد من الالتزام بعدم فعلية الأمر الاستحبابي في الفعل، لما تقدم من تضاد الأحكام و ان حكمه الاستحبابي شأني، و انما يقع صحيحا للمصلحة و الرجحان الذاتي فيه لا لقصد الأمر الفعلي به.

(1) حاصل ما ذكرنا من الفرق بين الكراهة عن مفسدة و حزازة و بين الكراهة لكونها نقيضا للاقوى استحبابا، و انه في الاولى تكون مانعة عن قصد التقرب لغلبة المفسدة على المصلحة اذ المفروض فعلية الكراهة، و لا يمكن ان يقع الفعل عبادة و صحيحا الا على القول بالجواز و ان تعدد العنوان يكشف عن تعدد المعنون لانه قد فرضنا ان النهي كان لأجل انطباق عنوان، فاذا كان ذلك لأجل المفسدة في الفعل لم يكن مانعا بناء على الجواز.

ص: 101

رجحان في الترك، من دون حزازة في الفعل أصلا، غاية الامر كون الترك أرجح (1).

______________________________

و اما على الامتناع و ان تعدد العنوان لا يجدي فلا بد من عدم وقوع الفعل عبادة، و هذا بخلاف الثانية و هي الكراهة للفعل لكونه نقيضا لما هو اقوى استحبابا فان الفعل باق على ما هو عليه من المصلحة و الرجحان الذاتي، و الى هذا اشار بقوله:

( (بخلاف المقام فانه على ما هو عليه من الرجحان و موافقة الغرض كما اذا لم يكن تركه راجحا)) أي ان الفعل الذي يكون المصلحة في تركه مثل الفعل الذي لا تكون مصلحة في تركه في كون الفعل على ما هو عليه من المصلحة و الرجحان الذاتي.

(1) كان رفع المنافاة في الاول بالتزام كون الترك بنفسه منطبقا لعنوان ذي مصلحة اقوى من المصلحة في نفس الفعل، و في هذا الثاني بالتزام كون الترك ليس بنفسه منطبقا للعنوان ذي المصلحة بل الترك ملازما لما فيه المصلحة الاقوى، فالترك و ما فيه المصلحة متلازمان في هذا الاحتمال، بخلاف الاول فان الترك بنفسه ذو مصلحة لانطباق العنوان عليه بنفسه، و لازم هذا الفرق ان يكون الاستحباب المتعلق بالترك على الاول استحبابا حقيقيا لأن نفس الترك مصلحة هي الداعي إلى الاستحباب، و يكون نقيض هذا الترك المستحب الذي هو الفعل مكروها لأنه نقيض المستحب الحقيقي.

و اما على هذا الاحتمال الثاني فالمستحب حقيقة هو الملازم للترك لا نفس الترك، فيكون الطلب الاستحبابي المتعلق بالترك طلبا بالعرض و المجاز باعتبار ملازمته لما هو المستحب واقعا و ما فيه المصلحة حقيقة، و على هذا يكون الفعل ايضا منهيا عنه تنزيها بالعرض و المجاز، لانه نقيض لما هو المستحب بالعرض و المجاز و ليس نقيضا لما هو المستحب واقعا و حقيقة.

بخلاف الاحتمال الاول فان الفعل حيث كان نقيضا لما هو المستحب الحقيقي يكون مكروها حقيقة لا بالعرض و المجاز، و هو كسائر المكروهات من ناحية كون

ص: 102

نعم يمكن أن يحمل النهي- في كلا القسمين- على الارشاد إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل، أو ملازم لما هو الارجح و أكثر ثوابا لذلك، و عليه يكون النهي على نحو الحقيقة، لا بالعرض و المجاز، فلا تغفل (1).

______________________________

الكراهة فيه حقيقية و ان اختلف عنها بان سائر المكروهات للمفسدة في الفعل و هذه الكراهة ليست للمفسدة و الحزازة في الفعل، بل لأن في الفعل يحصل عدم المستحب الاقوى، و اما في كون الكراهة فيه حقيقية فهو لا يختلف عن ساير المكروهات، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (فيكون كما اذا انطبق عليه من غير تفاوت الا في ان الطلب المتعلق به حينئذ ليس بحقيقي إلى آخر كلامه)).

(1) لا يخفى ان النهي مولوي على كلا الاحتمالين اللذين عبر عنهما المصنف بالقسمين و هو ان النهي عن الفعل باعتبار كون تركه ذا مصلحة أو النهي عن الفعل باعتبار كون الترك ملازما لما فيه المصلحة.

غايته ان النهي على الاول حقيقي و على الثاني بالعرض و المجاز، و قد اشار في قوله نعم انه يمكن ان يكون النهي في كلا القسمين ارشاديا إمّا بقصد الإرشاد إلى الترك الذي هو مستحب بنفسه و انه ارجح من الفعل لقوة مصلحته على مصلحة الفعل، أو بقصد الارشاد إلى الترك لكونه ملازما لما فيه المصلحة التي هي اقوى من مصلحة الفعل، و اذا كان النهي ارشاديا فهو نهي حقيقي ارشادي في كلا القسمين، فان كون النهي حقيقيا تارة و بالعرض و المجاز اخرى انما هو في النهي المولوي لا في الارشادي لانه ارشاد حقيقة على كل حال سواء كان ارشادا إلى المصلحة في نفس الترك أو ارشادا إلى المصلحة في ملازمه و لذا قال: ( (و عليه يكون النهي على نحو الحقيقة لا بالعرض و المجاز)): أي على الارشاد يكون النهي على نحو الحقيقة مطلقا في كلا القسمين و لا يكون بالعرض و المجاز.

ص: 103

و أما القسم الثاني (1): فالنهي فيه يمكن أن يكون لاجل ما ذكر في القسم الاول، طابق النعل بالنعل (2)، كما يمكن أن يكون بسبب حصول

______________________________

(1) و هو ما تعلق النهي به كذلك أي مثل القسم الاول في ان النهي متعلق به بذاته و عنوانه، إلّا ان الفرق بينهما هو انه في القسم الثاني يكون متعلق الأمر الذي تعلق به النهي له بدل كالنهي تنزيها المتعلق بالصلاة في الحمام، فان الصلاة فريضة كانت أو نافلة لها بدل لامكان ايقاعها في غير الحمام من البيت أو المسجد، بخلاف الاول فان صوم يوم عاشوراء المتعلق للنهي لا بدل له.

(2) و حاصله انه يمكن ان يجاب عن النهي المتعلق بالعبادة التي لها بدل بعد قيام الاجماع على وقوعها صحيحة لو وجدت في الحمام، بنحو ما ذكره في القسم الاول من حمل النهي المتعلق بظاهره بها لمفسدة فيها على انه لا لأجل المفسدة، بل لأجل المصلحة المنطبقة على تركها أو على المصلحة في ملازم تركها كما تقدم بيانه.

و توضيح الحال بحيث يخلو عن الاشكال يحتاج إلى بيان امور:

الاول: ان القسم الاول الوارد في لسان الشارع منحصر في ورود الكراهة متعلقة بمتعلق الأمر الندبي دون الوجوبي، فانه لم يرد في لسان الشارع تعلق الكراهة بواجب لا بدل له.

الثاني: ان هذا القسم الثاني الوارد في لسان الشارع له فردان الواجب و المندوب، فان المكروه الصلاة في الحمام سواء كانت واجبة أو مندوبة.

الثالث: قد عرفت في القسم الاول انه يمكن ان يكون النهي مولويا و ارشاديا، و مع كونه مولويا يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين الذي كانت المصلحة في الترك أو في ملازمه اقوى من المصلحة في الفعل و فيها اذا كان الفرد المكروه واجبا لا يأتي هذا لعدم امكان مزاحمة المصلحة الوجوبية بالمصلحة الاستحبابية فضلا عن كونها اقوى. نعم يتم هذا في صلاة النافلة في الحمام مضافا إلى ما عرفت من ان النهي الكراهتي و ان لم يكن عن مفسدة إلّا انه لا يعقل ان يكون فعليا مع كون الأمر

ص: 104

منقصة في الطبيعة المأمور بها، لاجل تشخصها في هذا القسم بمشخص

______________________________

بالفعل ايضا، و انه لا بد من الالتزام بكون الأمر شأنيا لأن النهي الكراهتي مسلم الفعلية فعباديته تقع بقصد رجحانه الذاتي، و في المقام فيما اذا كان الفرد وجوبيا فانه من المسلم فيه ان قصد عباديته بقصد امتثال أمره فلا بد و ان يكون النهي الكراهتي فيه شأنيا.

و الظاهر انه من المفروغ عنه ان النهي الكراهتي فعلي فلا بد في هذا القسم الثاني بنحو يشمل فردية الواجب و المندوب و ان يكون الجواب عنه بنحو الجواب عن القسم الاول: بالتزام مصلحة في الترك أو في ملازم الترك من الالتزام بكون النهي فيه فعليا ارشاديا لا مولويا، بل يقصد الارشاد إلى المصلحة في الترك أو في ملازمه و لذا قال في آخر كلامه في هذا القسم الثاني ( (و لا يخفى ان النهي في هذا القسم لا يصلح إلّا للارشاد بخلاف القسم الاول فانه يكون فيه مولويا)).

و على كل حال فالجواب عن هذا القسم الثاني يمكن ان يكون بالتزام ان النهي الكراهتي فيه للارشاد إلى مصلحة في تركه أو في الملازم لتركه، و لا بد من رفع اليد عن ظهورين في هذا النهي:

الاول كونه لا بداعي المفسدة في الفعل بل بداعي المصلحة في الترك أو في ملازمه و هو خلاف ظاهر النهي الكراهتي.

الثاني انه ارشادي لا مولوي و هو ايضا خلاف الظاهر في الاوامر و النواهي، فان ظاهرها انها مولوية لا ارشادية.

و الحاصل: ان يمكن ان يكون الجواب في هذا القسم كالجواب في القسم الاول و لذا قال (قدس سره): ( (و اما القسم الثاني فالنهي فيه يمكن ان يكون لأجل ما ذكر في القسم الاول طابق النعل بالنعل)).

و لا يخفى ان الاستشهاد بهذا المثل في المقام لا يخلو عن حزازة لعدم مناسبته مثلا للأحكام الشرعية.

ص: 105

غير ملائم لها، كما في الصلاة في الحمام، فإن تشخصها بتشخص وقوعها فيه، لا يناسب كونها معراجا (1)، و إن لم يكن نفس الكون في الحمام بمكروه و لا حزازة فيه أصلا، بل كان راجحا، كما لا يخفى.

______________________________

(1) هذا جواب آخر يختص بالقسم الثاني دون القسم الاول، لأن القسم الاول لا افراد له و الطبيعة فيه منحصرة بالفرد فلا يتأتي فيه هذا الجواب المتوقف على افراد متعددة للطبيعة.

و حاصله: ان الطبيعة المأمور بها لمصلحة ملزمة وجوبية أو مصلحة ندبية يمكن ان يقارنها انواع ثلاثة من المشخصات:

الاول: ان تقترن بمشخص يكون فيه بالنسبة اليها حزازة و منقصة و ان كان هو في حد ذاته لا حزازة فيه و لا منقصة، بل ربما يكون بنفسه مندوبا اليه كالكون في الحمام، فانه بنفسه مما ورد استحبابه لما فيه من ازالة القذارة و النظافة المحبوبة شرعا و لكن وقوع الصلاة فيه لا يلائمها لأنها معراج المؤمن و اهم الواجبات التي كلها تعظيم و تقديس له تبارك من تكبيرتها و قراءتها و ركوعها و سجودها إلى سائر اجزائها مضافا إلى الطهارة المشروطة فيها، و الحمام معرض لرشاش النجاسة بما يوجب استينافها غالبا، فلا يكون الحمام ملائما للصلاة، فايجادها في الحمام يوجب اقترانها بمشخص له حزازة بالنسبة اليها، إلّا ان هذه الحزازة لا توجب خروجها عن حد المصلحة الوجوبية أو الندبية.

الثاني: ان تقترن بما يزيد في كمالها و يلائمها اشد الملاءمة و يناسب معراجيتها للمؤمن، كما لو كان المشخص المقارن لها هو المسجد فان وقوع الصلاة في بيت من بيوت اللّه يناسب معراجية المؤمن اليه- تبارك و تعالى- و كذا وقوعها في سائر المشاهد المشرفة و الأمكنة المقدسة.

الثالث: ان تقترن بمشخص لا يكون فيه حزازة و لا منقصة و لا ملاءمة و مناسبة كوقوع الصلاة في الدار، و لا يخفى ان للصلاة في مثل الدار الخالية عن المنقصة

ص: 106

و ربما يحصل لها لاجل تخصصها بخصوصية شديدة الملاءمة معها مزية فيها كما في الصلاة في المسجد و الامكنة الشريفة (1)، و ذلك لأن الطبيعة

______________________________

و الملاءمة مزية هي مزية للطبيعة بنفسها و وقوعها فيما فيه الحزازة يوجب نقصان مزيتها التي هي للطبيعة المجردة عن منافر أو ملائم، و ان كان لا بد من الالتزام بان هذه الحزازة لا توجب سقوطها عن حد الالزام أو حد الاستحباب، و إلّا لما بقى امرها و لما وقعت عبادة صحيحة مقصودا بها امتثال امرها.

نعم لا بد من الالتزام بان ثواب الصلاة المقترنة بالحزازة اقل من ثواب الصلاة المجردة عن الحزازة و الملاءمة، و ثواب الصلاة المجردة اقل من ثواب الصلاة المقترنة بما يلائمها و يناسبها.

فاذا عرفت هذا فالنهي في هذا القسم يمكن ان يحمل على الارشاد إلى الحزازة التي تقترن بالصلاة في الحمام مما تؤثر على مزيتها التي تكون للطبيعة المجردة و تنقص ثوابها بالنسبة إلى الثواب المقرر لها فيما اذا وقعت مجردة عن هذه الحزازة.

و لعل هذا مراد من قال ان الكراهة في العبادة هي بمعنى انها اقل أي انها اقل ثوابا من الثواب المقرر للطبيعة المجردة.

(1) هذا دفع توهم يمكن ان يتوهم بان الكون في الحمام اذا لم يكن في ذاته منقصة و حزازة كيف يكون موجبا للحزازة و المنقصة في الصلاة؟

و الجواب عنه: انه لا منافاة بين ان يكون الشي ء بذاته لا يؤثر اثرا و لكنه مع اجتماعه بشي ء آخر يكون مؤثرا و هذا مشاهد في كثير من الأشياء، فان السكنجبين مثلا له اثر و هو دفع الصفراء و لكنه لو مزج بالماء البارد يكون رافعا للحمى، و ليس الماء البارد بنفسه رافعا لها و لا السكنجبين الممتزج بالماء الحار رافعا لها.

و ربما يكون مزج الشي ء موجبا لنقصان في تأثيره كما في بعض انواع المسهل فانه لو مزج بالماء الحار يؤثر أثرا شديدا، و لو مزج بالماء البارد يقل تأثيره، و لو مزج بالماء الفاتر يؤثر اثرا متوسطا و ليس للماء بجميع اقسامه اثر في الاسهال.

ص: 107

المأمور بها في حد نفسها، إذا كانت مع تشخص لا يكون معه شدة الملاءمة، و لا عدم الملاءمة لها مقدار من المصلحة و المزيّة، كالصلاة في الدار مثلا، و تزداد تلك المزية فيما كان تشخصها بما له شدة الملاءمة، و تنقص فيما إذا لم تكن له ملاءمة، و لذلك ينقص ثوابها تارة و يزيد أخرى، و يكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيتها فيه إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الافراد، و يكون أكثر ثوابا منه، و ليكن هذا مراد من قال: إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثوابا (1)، و لا يرد عليه بلزوم اتصاف العبادة التي تكون أقل ثوابا من الاخرى بالكراهة، و لزوم اتصاف ما لا مزيد فيه و لا منقصة بالاستحباب، لانه أكثر ثوابا مما فيه المنقصة، لما عرفت من أن المراد من كونه أقل ثوابا، إنما هو بقياسه

______________________________

و الحاصل: انه لا مانع من ان يكون الكون في الحمام بذاته لا حزازة فيه و لكن اقترانه بالصلاة الواقعة يوجب حزازة فيها، و لذا قال (قدس سره): ( (و ان لم يكن نفس الكون في الحمام بمكروه و لا حزازة فيه اصلا)).

(1)

تفسير الكراهة بأقلية الثواب

هذا تعليل لقوله: ( (فالنهي فيه)) أي في هذا القسم الثاني ( (يمكن ان يكون لأجل ما ذكر في القسم الاول كما يمكن ان يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها)): أي ان النهي في هذا القسم يمكن ان يكون ارشاديا إلى المنقصة و الحزازة التي تلحق الصلاة باقترانها بهذا المشخص الموجب لنقصان مزيتها و قلة ثوابها بالنسبة إلى الصلاة المجردة عن مشخص يلائمها و عن مشخص لا يلائمها كالصلاة في الحمام إلى آخر كلامه كما ذكرناه مفصلا.

ص: 108

إلى نفس الطبيعة المتشخصة بما لا يحدث معه مزية لها، و لا منقصة من المشخصات، و كذا كونه أكثر ثوابا (1).

______________________________

(1) حاصل هذا التوهم انه اذا كانت الكراهة هي اقلية الثواب يلزم ان يكون كل عبادة ثوابها اقل من ثواب عبادة أخرى مكروهة، فيكون الصوم- مثلا- مكروها لانه اقل ثوابا من الصلاة، و الحج مكروها لانه اقل ثوابا من الجهاد و هلم جرا.

و يلزم ان يكون ما هو اكثر ثوابا بالنسبة إلى الاقل مستحبا، فتكون الصلاة في الدار مستحبة لأنها اكثر ثوابا من الصلاة في الحمام، بل يلزم ان تكون الصلاة في الدار مكروهة بالنسبة إلى الصلاة في المسجد و مستحبة بالنسبة إلى الصلاة في الحمام، و هذا مما لا يسع احد الالتزام به.

و الجواب عنه: ما اشار اليه بقوله: ( (لما عرفت)) و حاصله: ان الكراهة التي قلنا ان النهي الارشادي يرشد اليها هي نقصان الطبيعة الواحدة بالقياس إلى مشخصاتها، فيقل ثوابها اذا كانت مشخصة بما فيه الحزازة و عدم الملاءمة معها بالنسبة إلى ثواب نفس تلك الطبيعة حيث لا تقترن بمشخص فيه الحزازة و لا الملاءمة، و الاستحباب المنضم إلى هذه الطبيعة هو زيادة ثواب تلك الطبيعة المجردة حيث ينضم اليها مشخص يلائمها.

و اما الطبيعة المجردة بما لها من الثواب المقرر لنفس تلك الطبيعة فلا تكون بمكروهة بكراهة عارضة و لا مستحبة باستحباب طارئ، لأن الكراهة هو النقصان بالقياس إلى تلك الطبيعة المجردة و الاستحباب هو الزيادة على ثواب تلك الطبيعة و ليس كل نقصان أو زيادة هو كراهة أو استحباب، فالمراد باقلية الثواب الذي هو مراد من عبّر عن الكراهة في المقام باقلية الثواب هو الاقلية بالنسبة إلى ما لتلك الطبيعة المجردة و ليس كل أقليّة ثواب كراهة و لا كل زيادة ثواب استحباب.

و بعبارة اخرى: ان النقصان الموجب للكراهة هو النقصان لموجب اقتضى النقصان في العبادة، و ليس النقصان الذي يكون لعدم الموجب له بكراهة، فنقصان

ص: 109

و لا يخفى أن النهي في هذا القسم لا يصح إلا للارشاد، بخلاف القسم الاول، فإنه يكون فيه مولويا، و إن كان حمله على الارشاد بمكان من الامكان (1).

______________________________

الصوم عن الصلاة لا لأجل شي ء اوجب في الصوم نقصانا، بل لأن ما يقتضيه طبيعة الصوم هو هذا المقدار من الثواب، و ليس نقصانه عن حزازة كانت فيه لم تكن تلك الحزازة في طبيعة الصلاة، بل نقصانه لأجل عدم المقتضى فيه لأن يكون مقدار ثوابه كمقدار ثواب الصلاة.

و فرق واضح بين النقصان لعدم المقتضى للزيادة و بين النقصان الذي هو لمقتض اوجب النقصان، و كذلك الاستحباب الطارئ فانه ما كان لأجل موجب اقتضى الزيادة، و ليست مطلق زيادة كمية مقدار العبادة على كمية آخرى لها باستحباب، فلا تكون زيادة ثواب الصلاة على ثواب موجبا لأن يكون لها استحباب زائد على الصوم الذي كميته اقل منها، و لا تكون زيادة كمية الصلاة المجردة على الصلاة المتشخصة بما فيه الحزازة موجبا لكون الصلاة المجردة لها استحباب.

و مما ذكرنا يتبين انه ليس للصلاة مجردة كراهة، إذ نقصان ثوابها بالنسبة إلى الصلاة في المسجد لعدم المقتضى لا لأجل موجب فيها اقتضى فيها النقصان، و ليس لها استحباب بالنسبة إلى الصلاة مع ما فيه الحزازة اذ زيادة ثوابها عليها ليس لأجل مقتض انضم اليها اوجب زيادتها.

(1) قد عرفت ان هذا القسم الثاني يمكن الجواب عنه بمثل ما مرّ في الجواب عن هذا القسم الاول.

و قد ذكرنا فيما مرّ ان تعميمه للفرد الواجب و المستحب لا بد فيه من الالتزام بكون النهي فيه للارشاد.

و يمكن ان يجاب عنه بهذا الجواب المختص به الذي مرّ تفصيله، و لا بد فيه من كون النهي فيه ايضا للارشاد، فالنهي في هذا القسم الثاني على أي حال لا بد من

ص: 110

و أما القسم الثالث فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة المتحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض و المجاز، و كان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان، و يمكن أن يكون على الحقيقة إرشادا إلى غيرها من سائر الأفراد، مما لا يكون متحدا معه أو ملازما له، إذ المفروض التمكن من استيفاء مزية العبادة، بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلا (1).

______________________________

حمله على الارشاد، و لذا قال (قدس سره): ( (ان النهي في هذا القسم لا يصلح إلّا للارشاد بخلاف القسم الاول)) فقد عرفت انه يمكن ان يكون النهي فيه مولويا و يمكن ان يكون ارشاديا و لذا قال: ( (فانه يكون فيه مولويا و ان كان حمله على الارشاد بمكان من الامكان)).

(1) و هو ما تعلق النهي به لا لأجل حزازة و منقصة في ذات العبادة، بل النهي المتعلق في ظاهر لسان الدليل بالعبادة انما هو لأجل انها قد اجتمعت مع المكروه إما بنحو الاتحاد أو بنحو الملازمة، كالصلاة في مواضع التهمة فان الكون في مواضع التهمة بنفسه مكروه سواء وقعت صلاة فيه ام لم تقع.

و هذا هو الفرق بين هذا القسم الثالث و القسم الثاني كمثل الصلاة في الحمام، فان الكون في الحمام بنفسه لا كراهة فيه و لذا كان النهي فيه للارشاد إلى المنقصة و الحزازة التي تلحق ذات العبادة باقترانها بهذا المشخص.

و لا فرق فيه بين القول بالجواز و الامتناع، بخلاف هذا القسم فانه حيث كان نفس الكون في مواضع التهمة مكروها سواء وقعت الصلاة فيه ام لم تقع فحال الكون في هذا الموضع حال الكون في الدار المغصوبة سوى ان ذلك محرم و هذا مكروه، فلذا بنى الكلام في هذا القسم على التفصيل بين المبنيين من الجواز و الامتناع.

و ان الحال فيه على الجواز غير الحال فيه على الامتناع، و توضيحه ببيان امور:

الاول: انه حيث كان ذو الحزازة و المنقصة هو الكون في مواضع التهمة دون نفس الصلاة فلا بد من رفع اليد عن ظاهر النهي بتوجهه إلى نفس الصلاة بناء على الجواز

ص: 111

.....

______________________________

و ان اتحد مع الصلاة وجودا، لأن تعدد العنوان بناء على الجواز كاشف عن تعدد المعنون و لا يسري احدهما إلى الآخر.

الثاني: ان هذا القسم ليس كالقسمين الاولين في ان النهي فيهما يمكن ان يكون لمصلحة في الترك أو ملازمه، بل هو في هذا القسم قطعا لمفسدة و حزازة في نفس الكون في ذلك الموضع.

الثالث: ان اتحاد الكون مع الصلاة ليس فيه منافاة بناء على الجواز، و انما تكون المنافاة فيه بناء على الامتناع، فلذا كان الجواب على الجواز يغاير الجواب على الامتناع، فانه بناء على الجواز بعد رفع اليد عن ظاهر النهي المتعلق بعنوان الصلاة بانه لمفسدة و حزازة فيها، و ان النهي المتعلق بها ليس لمفسدة فيها.

فاما بان يحافظ على ظهوره في المولوية فيكون نهيا مولويا تنزيهيا قد تعلق بعنوان الصلاة بالعرض و المجاز، و ان متعلقه في الحقيقة هو الكون المتحد معها أو الملازم لها، و لا مانع على الجواز من تعلق النهي الحقيقي المولوي بما يتحد مع الصلاة في الوجود أو بما يلازمها، و على هذا فلا بد ان يرفع اليد عن كونه متعلقا حقيقة بنفس الصلاة و ان تعلقه بها لا بد و ان يكون بالعرض و المجاز.

و اما بأن يحافظ على تعلقه حقيقة بعنوان الصلاة فلا بد من رفع اليد عن ظهوره في المولوية، و ان يكون ارشاديا بقصد الارشاد إلى ان هذا الفرد من الصلاة يتحد معه أو يلازمه ما فيه الحزازة و المنقصة دون بقية أفراد الصلاة كالصلاة في غير هذا الموضع من الدار أو المسجد.

و قد اشار المصنف إلى الشق الاول و هو المحافظة على المولوية بقوله: ( (فيمكن ان يكون النهي فيه عن العبادة المتحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض و المجاز إلى آخر الجملة)).

ص: 112

هذا على القول بجواز الاجتماع.

و أما على الامتناع، فكذلك في صورة الملازمة، و أما في صورة الاتحاد و ترجيح جانب الامر- كما هو المفروض، حيث أنه صحة العبادة- فيكون حال النهي فيه حاله في القسم الثاني، فيحمل على ما حمل عليه فيه، طابق النعل بالنعل (1)، حيث إنه بالدقة يرجع إليه، إذا

______________________________

و اشار إلى الشق الثاني و هو المحافظة على كونه متوجها إلى الصلاة حقيقة من دون محافظته على مولويته بقوله: ( (و يمكن ان يكون على الحقيقة ارشادا إلى غيرها من سائر الافراد إلى آخر الجملة)).

(1) يعني ان هذين الحملين في هذا القسم الثالث انما يتمان مطلقا على الاتحاد و على الملازمة بين الصلاة و الكون في مواضع التهمة بناء على الجواز، و اما بناء على الامتناع فيختلف الحال فيهما، فانهما يتمان بناء على الملازمة بين الكون في مواضع التهمة و بين الصلاة.

و اما لزوم اشكال اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم فقد دفعه بما ذكره في هامش الكتاب كما مر ذكره في القسم الاول.

غايته ان النهي المولوي في الكون في مواضع التهمة الملازم مع الصلاة لا بد و ان يكون شأنيا لا فعليا، بخلافه في القسم الاول فان الأمر قد كان هناك شأني لا فعلي، و قد اشار إلى تمامية الاحتمالين المذكورين على الامتناع في صورة الملازمة بقوله:

( (و اما على الامتناع فكذلك في صورة الملازمة)) لانه في صورة الملازمة فالصلاة وجودا لم تتحد مع وجود ما فيه الحزازة و المنقصة، فيمكن ان يكون النهي مولويا متعلقا بالصلاة على سبيل العرض و المجاز، و يمكن ان يكون متعلقا بالصلاة حقيقة على نحو الارشاد إلى الملازم لها.

و اما بناء على الامتناع و الاتحاد وجودا بين الصلاة و الكون في مواضع التهمة فلا بد ان يكون في هذا المقام الذي اتحدت الصلاة مع النهي من ترجيح جانب الأمر

ص: 113

على الامتناع، ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلّا من مخصّصاته و مشخّصاته الّتي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزيّة زيادة و نقيصة بحسب اختلافها في الملاءمة كما عرفت (1).

و قد انقدح بما ذكرناه: أنّه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة بأقلّيّة الثواب في القسم الأوّل مطلقا، و في هذا القسم على القول بالجواز (2).

______________________________

على النهي للحزازة و المنقصة المتحدة معها، لأن المفروض ان الصلاة في هذه المواضع تقع صحيحة مقصودا بها امتثال امرها، فامرها موجود و لم تتغلب عليه هذه الحزازة و المنقصة، و على هذا فلا يعقل المحافظة معه على مولوية النهي و انه يكون بالنسبة إلى الصلاة بالعرض و المجاز، لأن العرض و المجاز لا بد فيه من كون وجود ما فيه الحزازة غير وجود الصلاة، و مع كونهما متحدين في وجود واحد لا معنى للعرض و المجاز، فلا بد من حمل النهي على الارشاد إلى الحزازة و المنقصة التي تتشخص بها الصلاة بنحو ما مر ذكره مفصلا في القسم الثاني، و الى هذا اشار بقوله: ( (و اما في صورة الاتحاد و ترجيح جانب الأمر كما هو المفروض حيث انه صحة العبادة)): أي حيث ان المفروض صحة العبادة بقصد الأمر و هو يحتاج إلى بقاء الأمر ليكون مقصودا ( (فيكون حال النهي فيه)): أي في هذا القسم الثالث الذي فرض اتحاد العبادة مع ما فيه الحزازة و المنقصة ( (حاله)): أي حال النهي ( (في القسم الثاني الى آخر كلامه)).

(1) هذا اشارة إلى كون هذا القسم الثالث بناء على الامتناع و صحة الصلاة كما هو المفروض و اتحادها مع الكون ذي الحزازة يكون هو القسم الثاني بعينه، لأن الكون بناء على الاتحاد يكون من مشخصات الطبيعة الصلاتية فيكون للطبيعة تشخصات متفاوتة و مزيات مختلفة من حيث نقصان الثواب و عدمه.

(2) لا يخفى انه يظهر من عبارته انه لا معنى لتفسير الكراهة في العبادة باقلية الثواب في القسم الاول مطلقا على الجواز و على الامتناع، و في القسم الثاني يصحّ تفسير

ص: 114

.....

______________________________

الكراهة باقلية الثواب مطلقا على الجواز و الامتناع، و في القسم الثالث لا يصح على الجواز و يصح على الامتناع.

و توضيحه: انه قد عرفت ان القسم الاول ما تعلق النهي به في لسان الشارع و لا بدل له كصوم يوم عاشوراء، و انه لا بد من حمل النهي فيه على الطلب لتركه لكون المصلحة الاقوى اما في عنوان منطبق على تركه أو على ما يلازم الترك، فيكون المراد من ظاهر النهي المتعلق بالعبادة هو طلب الترك أو طلب ملازمه.

و قد عرفت ايضا انه اذا كان العنوان منطبقا على نفس الترك يكون طلبه مولويا حقيقيا، و اذا كان العنوان منطبقا على ملازمه يكون الطلب لنفس الترك مولويا بالعرض و المجاز، مع امكان حمل النهي المتعلق بالعبادة على الارشاد إلى الطلب اما لتركها أو لملازم تركها.

و قد عرفت ايضا ان نفس العبادة التي قام الاجماع على صحتها لا منقصة و لا حزازة في ذاتها، و حيث انه لا بدل لها فلا يكون للطبيعة افراد و مشخصات متعددة و متفاوته من ناحية زيادة الثواب و قلته.

فاتضح انه لا معنى لأن يراد من النهي في هذا القسم اقلية الثواب فيه سواء قلنا بالجواز أو قلنا بالامتناع، لأن الخلاف جوازا أو امتناعا انما في النهي المتعلق بعنوان فيه الحزازة و ينطبق على نفس العبادة، فبناء على ان تعدد العنوان يكشف عن تعدد المعنون يقال بالجواز، و بناء على ان تعدد العنوان لا يكشف عن تعدد المعنون يقال بالامتناع.

و قد عرفت اولا: ان المراد من النهي هو استحباب الترك أو ملازمه.

و ثانيا: ان النهي لم يتعلق بعنوان فيه حزازة ينطبق على الفعل العبادي، و لذا قال (قدس سره): ( (انه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة باقلية الثواب في القسم الاول مطلقا)): أي على الجواز و على الامتناع.

ص: 115

.....

______________________________

و اما القسم الثاني و هو الذي تعلق النهي بالعبادة التي لها بدل، و لكن لم يكن العنوان الذي هو السبب في الظاهر لتعلق النهي بالعبادة بنفسه مبغوضا و فيه الحزازة، و هو الكون في الحمام فانه ليس بنفسه فيه منقصة و حزازة بل ربما يكون هو بنفسه محبوبا و مستحبا، نعم الصلاة الواقعة في الحمام هي ذات المنقصة و الحزازة لعدم ملاءمة الكون في الحمام معها.

و بهذا يفترق القسم الثاني عن القسم الثالث، فان الكون في مواضع التهمة بنفسه عنوان ذو منقصة و حزازة سواء وقعت فيه صلاة ام لا.

و قد عرفت ان الجواز و الامتناع انما هو في العنوان الذي هو بنفسه ذو منقصة و حزازة، و يكون منطبقا و متحدا في الوجود مع الفعل العبادي، و لأجل هذا كان القسم الثاني مطلقا بناء على الجواز و الامتناع يصح تفسير الكراهة فيه باقلية الثواب باعتبار مشخصاته المتعددة.

و لا يمكن للقائل بالجواز ان يقول ان الكون المنطبق على الفعل العبادي تختص حزازته به و لا تسري إلى الصلاة- مثلا- لأن الكون في الحمام- كما عرفت- ليس بنفسه ذا منقصة و حزازة و الحزازة و المنقصة انما هي في العبادة المتشخصة به فالكون في الحمام أوجب ان تكون الصلاة ذات منقصة و حزازة، و لذلك كان الحال فيه مطلقا على الجواز و الامتناع يصح تفسير الكراهة فيه باقلية الثواب، و هذا ظاهر المصنف بمقتضى لازم الحصر المستفاد من عبارته.

و اما القسم الثالث فحيث عرفت ان الكون فيه بنفسه ذو منقصة و حزازة، و القائل بالجواز يقول بعدم سراية احد العنوانين إلى الآخر، فالمنقصة و الحزازة التي في نفس الكون في مواضع التهمة لا تسري إلى الصلاة، و الصلاة المتحدة مع هذا الكون تقع خالية من الحزازة و المنقصة بناء على الجواز، فلذا لا معنى لتفسير الكراهة فيه بناء على الجواز باقلية الثواب.

ص: 116

كما انقدح حال اجتماع الوجوب و الاستحباب فيها و أنّ الأمر الاستحبابيّ يكون على نحو الإرشاد إلى أفضل الأفراد مطلقا على نحو الحقيقة، و مولويّا اقتضائيّا كذلك، و فعليّا بالعرض و المجاز فيما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحبّ، أو متّحدة معه على القول بالجواز (1).

______________________________

نعم بناء على الامتناع و ترجيح جانب الأمر حيث ان الاتحاد بناء على الامتناع يوجب السراية إلى العنوان الآخر تكون الصلاة بنفسها ذات منقصة و حزازة ايضا فيجوز تفسير الكراهة فيها باقلية الثواب، و هذا هو الذي يظهر من عبارته (قدس سره) لأن لازم حصر النفي مطلقا في القسم الاول و في القسم الثالث بناء على الجواز ان الاثبات و هو التفسير باقلية الثواب منحصر في القسم الثاني مطلقا و في القسم الثالث بناء على الامتناع.

(1)

اقتضاء اجتماع الوجوب و الاستحباب للتأكد

لا يخفى ان اجتماع الوجوب و الاستحباب قسمان لأن العنوان المستحب المنطبق على الواجب اما ان ينطبق على واجب له بدل أو على واجب لا بدل له.

و الاول كالكون في المسجد فانه مستحب بنفسه و ينطبق على الصلاة التي لها بدل كطبيعة صلاة الفريضة التي لها افراد من الصلاة في الدار و في الحمام و في المسجد.

و اخرى ينطبق العنوان المستحب على الواجب الذي لا بدل له كالصوم المنذور في نصف الشهر و قد انطبق عليه عنوان مستحب، كصوم يوم الجمعة بان كان نصف الشهر يوم الجمعة أو كان من ايام رجب أو شعبان المستحب صوم كل يوم منها.

و اما الأمر بالواجب لكونه افضل افراد الطبيعة فليس من اجتماع الوجوب و الاستحباب، كما لو قلنا- مثلا- ان الكون في المسجد ليس بمستحب بنفسه و ورد في اداء الفريضة فيه ترغيب فان مثل هذا ليس من اجتماع عنوان المستحب و الواجب بل الواجب له افراد بعضها افضل من بعض.

و الحاصل: ان الكلام في اجتماع الاستحباب في قسمين:

ص: 117

.....

______________________________

الاول: اجتماع الاستحباب مع الواجب الذي له بدل و هو الذي تكلم فيه المصنف اولا حيث عقب كلامه فيه بقوله: ( (و لا يخفى انه لا يكاد يأتي القسم الاول هاهنا)) و هو ما لا بدل له.

و على كل فالقسم الاول هو اجتماع الوجوب و الاستحباب في واحد له بدل، كالصلاة في المسجد بناء على ان الكون في المسجد مستحب بنفسه قد انطبق على ما انطبق عليه عنوان الصلاة، و هي كما تكون في المسجد تكون في غيره كالدار، و يمكن حمل الأمر الاستحبابي المنطبق على الصلاة على الارشاد إلى ان الصلاة في المسجد هي افضل افراد هذه الطبيعة سواء قلنا بالجواز أو الامتناع، اذ لا مانع من اجتماع الأمر الفعلي الحقيقي الارشادي مع الأمر الفعلي المولوي الوجوبي، اذ المضادة انما هي بين الاحكام الفعلية المولوية لانها بداعي جعل الداعي، و ليس الأمر الارشادي بداعي جعل الداعي بل بداعي الارشاد و التنبيه على افضلية هذا الفرد، فلا مضادة بينه و بين الحكم المولوي الايجابي، اذ ليس هناك امران بداعي جعل الداعي.

فبناء على الامتناع فالحال واضح اذ الكون في المسجد المتحد مع الصلاة يكون افضل الافراد لاتحاده مع ما يزيد في محبوبيته، فيكون هذا الوجود الواحد من الصلاة احب من بقية افراد طبيعة الصلاة.

و اما بناء على الجواز فهو و ان كان لابتنائه على ان تعدد العنوان يكشف عن تعدد المعنون لا بد و ان لا يكون طبيعة الصلاة متحدة مع العنوان المستحب في مقام التحقق و ان اجتمعا في واحد.

إلّا انه بناء على المشهور من ان التشخص هو بما يقترن مع الطبيعة في مقام تحققها فيكون هذا الكون من مشخصات طبيعة الصلاة و ان لم يتحد معها اتحادا حقيقيا، و لا ريب ان الفرد من الطبيعة المقترن بمشخص يلائمه غير الفرد غير المقترن بذلك.

و منه يتضح: انه حتى لو كان الأمر الاستحبابي منطبقا على ما يلازم الواجب فانه حينئذ و ان كان لا فرق بين القول بالجواز و الامتناع لأن المفروض ان المستحب

ص: 118

.....

______________________________

ملازم للواجب لا منطبقا عليه، إلّا انه لما كان التشخص بما يقترن مع الطبيعة فانه يكون موجبا لاقتران الطبيعة بما يلائمها، فلا مانع من ان يكون الأمر الاستحبابي إرشادا إلى افضل الافراد، و لذا قال (قدس سره): ( (و ان الأمر الاستحبابي يكون على نحو الارشاد إلى افضل الافراد مطلقا)): أي على الجواز و الامتناع ( (على نحو الحقيقة)) لما عرفت من ان الأمر الارشادي الحقيقي لا يضاد الأمر الوجوبي المولوي.

و يمكن ان يحمل على المولوية و لكن يختلف الحال فيه من جهة ان العنوان المستحب تارة يكون منطبقا على ما انطبق عليه عنوان الواجب.

و اخرى يكون منطبقا على ما يلازم العنوان الواجب في مقام التحقق و لا يكون منطبقا على نفس الواجب.

و على الاول فلا بد بناء على الامتناع من كون المولوية اقتضائية لا فعلية اذ لا يعقل اجتماع الحكمين المولويين الفعليين في واحد لانه بناء على الامتناع يكون العنوان الواجب و العنوان المستحب قد اجتمعا في وجود واحد، اذ المفروض ان العنوان المستحب قد انطبق على ما انطبق عليه العنوان الواجب، و تعدد العنوان لا يكشف عن تعدد المعنون، و الشي ء الواحد ليس له إلّا وجود واحد، و الى هذا اشار بقوله: ( (و مولويا اقتضائيا كذلك)): أي على نحو الحقيقة.

و يظهر من قوله بعد ذلك ( (أو متحد معه على القول بالجواز)) ان المولوية الاقتضائية على نحو الحقيقة في فرض الاتحاد، و فرض الاتحاد انما هو بناء على الامتناع و لا بد فيه من الالتزام بالمولوية الاقتضائية، و اما بناء على الجواز فلا اتحاد فلا مانع من الفعلية.

و على الثاني و هو ما كان العنوان المستحب منطبقا على ما يلازم مصداق الواجب فلا مانع من المولوية الفعلية بناء على الجواز و الامتناع، و يكون هذا الأمر الاستحبابي بالنسبة الى الواجب بالعرض و المجاز، اذ الأمر الاستحبابي انما يتعلق حقيقة بما يلازم الواجب لا بنفس الواجب فنسبته إلى الواجب بالعرض و المجاز،

ص: 119

.....

______________________________

و لذا قال (قدس سره): ( (و فعليا بالعرض و المجاز فيما اذا كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحب)).

و قد عرفت انه على رأيه لا مانع من الفعلية المولوية في العنوان الملازم بناء على الامتناع فضلا على الجواز، و يدل عليه قوله: ( (او متحد معه على القول بالجواز)) فان العنوان المنطبق على ما انطبق عليه الواجب و ان اتحد معه ظاهرا إلّا ان تعدد العنوان يكشف عن تعدد المعنون، فهما ليسا بمتحدين و حيث لا يكونان بمتحدين بناء على الجواز فهما من المتلازمين.

و قد عرفت انه لا مانع من الفعلية في مقام التلازم فالحال في المتحد بناء على الجواز هو الحال في المتلازمين بناء على الامتناع، و حيث لا مانع عنده من الفعلية في المتلازمين فلا مانع من الفعلية بناء على الجواز في المتحد، فيكون نسبة الأمر الاستحبابي الى الواجب بالعرض و المجاز لان المستحب واقعا هو غير الواجب و هو ما يلازمه.

لا يقال: انه كيف يمكن الالتزام بالفعلية بالعرض و المجاز في الملازم بناء على الامتناع و في المتحد بناء على الجواز، مع انه لا يعقل اختلاف المتلازمين في الوجود في ناحية الحكم.

فانه يقال: اولا: ان الكلام في مقام الاجتماع من ناحية التضاد و التكليف المحال لا التكليف بالمحال، فالفعلية من ناحية التضاد الحكمي لا مانع فيها في الملازم اذ لم يجتمع الحكمان الفعليان المتضادان في واحد، لا من ناحية عدم امكان اختلاف المتلازمين في الحكم فانه يمنع عن الفعلية من ناحية التكليف بالمحال.

و ثانيا: ان الخطابات الواردة في لسان الشرع بالأمر الاستحبابي متعلقة بنفس الصلاة فهذا الخطاب المتعلق بالصلاة لا مانع من كونه مولويا فعليا بالعرض و المجاز بالنسبة الى الصلاة، و لا يلزم ان يكون مولويا فعليا ايضا في الملازم لها، فهو بالنسبة إلى الصلاة فعلي بالعرض و المجاز و بالنسبة إلى الملازم مولوي اقتضائي.

ص: 120

و لا يخفى أنّه لا يكاد يأتي القسم الأوّل هاهنا، فإنّ انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الّذي لا بدل له إنّما يؤكّد ايجابه، لا أنّه يوجب استحبابه أصلا، و لو بالعرض و المجاز إلا على القول بالجواز، و كذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان فإنّه لو لم يؤكّد الإيجاب لما يصحّح الاستحباب إلّا اقتضائيّا بالعرض و المجاز، فتفطّن (1).

______________________________

الّا ان يقال بالتلازم ما بين ما بالعرض و ما بالذات حتى في الاقتضائية و الفعلية.

قوله: ( (بالعرض و المجاز)). لا يخفى ان ظاهر العبارة ان قوله بالعرض و المجاز من متممات الاستحباب المولوي الاقتضائي، و هو ينافي ما مر فعلا، فلا بد و ان يكون مراده انه بالعرض و المجاز بالنسبة الى الواجب، و قد عرفت انه يمكن ان يكون فعليا بالنسبة كما مر منه التصريح بانه بالنسبة الى الواجب فعلي بالعرض و المجاز فيما كان ملاك الاستحباب هو المصداق الملازم للواجب.

(1) القسم الذي لا بدل له اذا اجتمع معه العنوان الاستحبابي.

فاما ان يكون منطبقا عليه بنحو الاتحاد او يكون مصداقه ملازما له فان كان العنوان الراجح الاستحبابي منطبقا على نفس الواجب الذي لا بدل له، فعلى الامتناع لا يعقل ان يكون الأمر الاستحبابي باقيا على ما هو عليه من كونه امرا استحبابيا مباينا للأمر الوجوبي، لانه بعد اتحادهما مصداقا اتحادا حقيقيا و قد جمعهما وجود واحد حقيقي يلزمه ان يكون ذلك الوجود الواحد بماله من حدود مصداقا للواجب، فلا بد و ان يندك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي و يكون مؤكدا له و لا يبقى امرا استحبابيا في قبال الأمر الوجوبي، و الى هذا اشار بقوله:

( (فان انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد ايجابه إلّا انه يوجب استحبابه اصلا)) و اذا لم يبق الأمر الاستحبابي بحاله فلا يتأتى فيه ما قلناه في القسم السابق: من امكان كونه للارشاد الى افضل الافراد، اذا المفروض انه

ص: 121

و منها: إنّ أهل العرف يعدّون من اتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرّم، مطيعا و عاصيا من وجهين، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب و نهاه عن الكون في مكان خاصّ- كما مثّل به الحاجبيّ و العضديّ- فلو خاطه في ذاك المكان عدّ مطيعا لأمر الخياطة، و عاصيا للنهي عن الكون في ذلك المكان (1).

______________________________

لا بدل لهذا الواجب و ليس هو ذا افراد، و لا يعقل ان يكون مولويا اقتضائيا لانه بعد اندكاكه في الأمر الوجوبي لا بقاء له حتى يكون امرا مولويا اقتضائيا.

و منه اتضح: انه لا يعقل ان يكون فعليا بالعرض و المجاز، اذ بعد فناء ما بالذات لا يعقل بقاء ما بالعرض و لذا قال (قدس سره): ( (و لو بالعرض و المجاز)).

نعم بناء على الجواز حيث لا يلازم الانطباق الاتحاد و اذا لم يتحد مصداق الأمر الاستحبابي مع مصداق الأمر الوجوبي لا معنى للتأكيد لان معنى التأكيد ان يكون الأمران امرا واحدا مؤكدا يدعو الى مصداق واحد، و مع التعدد في المصداق لا يعقل ان تتحد الدعوة و تتأكد، فيبقى الأمر الاستحبابي على مولويته الاقتضائية و على فعليته بالعرض و المجاز و لذا قال (قدس سره): ( (الا على القول بالجواز)).

و اما اذا كان العنوان الراجح منطبقا على ما يلازم المصداق الوجوبي فلا يكون مؤكدا للأمر الوجوبي كما عرفت، و لكنه لا يعقل ان يكون مولويا فعليا لعدم امكان اختلاف المتلازمين في الوجود في ناحية الحكم فلا بد و ان يكون مولويا اقتضائيا بالنسبة إلى مصداقه الملازم للمصداق الوجوبي، و يكون بالنسبة الى المصداق الوجوبي بالعرض و المجاز و لذا قال (قدس سره): ( (و كذا فيما اذا لازم مثل هذا العنوان)): أي ان الحال في الملازم على الامتناع كالحال في المتحد على الجواز ( (فانه لو لم يؤكد الايجاب)) و قد عرفت انه لا يؤكّد ( (لما يصحح الاستحباب الا اقتضائيا)).

(1) ملخص هذا الاستدلال ان كيفية الاطاعة من وظائف الشارع و المرجع فيها هو العرف، و نحن نرى العرف لا يرون مانعا في مقام الامتثال لأمر المولى اذا اجتمع مع

ص: 122

و فيه: مضافا إلى المناقشة في المثال بأنّه ليس من باب الاجتماع، ضرورة أنّ الكون المنهيّ عنه غير متّحد مع الخياطة وجودا أصلا، كما لا يخفى- المنع إلّا عن صدق أحدهما: إما الإطاعة بمعنى الامتثال فيما غلب جانب الأمر، أو العصيان فيما غلب جانب النهي، لما عرفت من البرهان على الامتناع.

نعم لا بأس بصدق الإطاعة بمعنى حصول الغرض و العصيان في التوصّليّات.

و أما في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها إلّا فيما صدر من المكلّف فعلا غير محرم و غير مبغوض عليه، كما تقدّم (1).

______________________________

ما نهى عنه على نحو ان يكون السبب لاجتماعهما لم يكن من الشارع، كما لو امر المولى عبده بالخياطة و نهاه عن الكون في مكان خاص بان قال له خط هذا الثوب، و نهاه عن ايجاد الكون في دار زيد فخاط العبد الثوب في دار زيد، فان العرف يراه انه قد اطاع امر الخياطة و عصى النهي عن الكون في الدار، و قد عرفت ان العرف هو المرجع في كيفية الاطاعة و العصيان.

(1) قد اجاب عنه (قدس سره) بجوابين:

الاول: ما اشار اليه بقوله: ( (مضافا)) و حاصله: ان محل الكلام في باب الاجتماع جوازا و امتناعا هو اجتماع متعلق الأمر و النهي في شي ء واحد له وجود واحد كاجتماع الصلاة و التصرف في الدار المغصوبة بالحركة او السكون، فان الافعال الصلاتية من القيام و الركوع و السجود بنفسها مصداق للتصرف في الدار.

و اما فيما اذا كان مصداق النهي شيئا غير مصداق الأمر وجودا بان كان لكل واحد منهما وجود غير وجود الآخر و هما موجودان مجتمعان لا عنوانان مجتمعان في وجود واحد فليس هذا من مسألة باب الاجتماع، و المثال المذكور من هذا القبيل فان

ص: 123

.....

______________________________

للخياطة وجودا غير وجود الكون في الدار و ليس نفس الخياطة هي مصداق للكون في الدار.

و بعبارة اوضح: ان النهي عن الكون في الدار ان كان المراد منه هو التحيز و جعل الدار حيّزا و مكانا له و هو مقولة المكان فالمنهي عنه هو ايجاد مقولة المكان في دار زيد، فمتعلق النهي على هذا غير متعلق الأمر لان الخياطة في الدار ليست هي الهيئة المقولية المكانية في الدار، و لذا ان العرف يرونه مطيعا في الخياطة و عاصيا في الهيئة، و ليس عندهم مانع من اجتماع موجودين كان كل واحد منهما مصداقا لعنوان غير العنوان الآخر.

و اما اذا كان المراد بالنهي عن الكون في الدار هو النهي عن التصرف الشامل للحركة و السكون في الدار.

فان كان المأمور به في الخياطة هو نفس الفعل من تحريك آلة الخياطة و وصل القماش بعضه ببعض فتكون من مسألة باب الاجتماع في نفس المأمور به، لان المأمور به ينطبق على نفس الحركة و المنهي عنه ايضا عنوان ينطبق على نفس الحركة.

و اذا كان المأمور به هو الهيئة العارضة بسبب الحركة على المخيط فالحركة تكون مقدمة للمأمور به و يكون الاجتماع في مقدمة الواجب لا في نفسه.

و على كل حال فالعرف لا يرى تحقق الاطاعة و العصيان في المثال المذكور، بل هو موكول الى ما ينتج عن الرأي في مسألة باب الاجتماع، لان نفس الخياطة حركة و تصرف في الدار المنهي عن الحركة فيها، و الحال فيها كحال الصلاة في الدار المغصوبة لو كان امر الخياطة امرا عباديا، و اذا كان توصليا فيسقط الأمر بحصول الغرض بناء على الامتناع، و الى هذا اشار بقوله: ( (ضرورة ان الكون المنهي عنه)) و هو الهيئة المقولية المكانية ( (غير متحد مع الخياطة وجودا اصلا كما لا يخفى)).

الجواب الثاني: ما اشار اليه بقوله: ( (المنع الا عن صدق احدهما ... الى آخره)).

ص: 124

بقي الكلام في حال التفصيل من بعض الأعلام، و القول بالجواز عقلا و الامتناع عرفا.

______________________________

و حاصله: انه مع فرض اجتماع الأمر و النهي في وجود واحد نمنع من ان العرف يرونه مطيعا و عاصيا، بل لا بد من التفصيل بان المراد من الاطاعة:

تارة: حصول الامتثال و ايجاد المأمور به بما هو مصداق لما تعلق به الأمر.

و اخرى: يكون المراد من الاطاعة حصول الغرض و سقوط الأمر لتحقق الغرض الداعي الى الأمر و ان لم يحصل الامتثال بما هو امتثال للأمر.

فان اريد من الاطاعة حصول الامتثال و كون المأمور به قد حصل بما هو مأمور به و متعلق للأمر فانا نمنع صدق الاطاعة و العصيان على ما اجتمع فيه عنوان الأمر و عنوان النهي سواء في العباديات و التوصليات.

و ان كان المراد من الاطاعة حصول الغرض و سقوط الأمر فنقول بها في التوصليات دون العباديات، لأن حصول الغرض في التوصليات لا يتوقف على قصد امتثال الأمر بل يحصل و لو بالفرد المحرم، و اما في العباديات فلتوقف حصول الغرض فيها على قصد امتثال الأمر فلا تحصل الاطاعة ايضا لعدم الأمر، هذا اذا قلنا في مقام الاجتماع بتغليب جانب النهي، و اما اذا قلنا بتغليب جانب الأمر فتحصل الاطاعة بمعنى قصد امتثال الامر إلّا انه لا يحصل العصيان.

و الحاصل: انه في العباديات ان غلب جانب النهي فيحصل العصيان دون الاطاعة، و ان غلب جانب الامر فتحصل الاطاعة و لا عصيان، فلا تصدق الاطاعة و العصيان عند العرف في الاتيان بهذا المجمع.

و اما في التوصليات فالاطاعة بمعنى اتيان المأمور به هو مأمور به لا تحصل ان قلنا بتغليب جانب النهي، نعم تحصل الاطاعة بمعنى حصول الغرض الذي يسقط به الأمر.

ص: 125

و فيه: إنّه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلّا طريق العقل، فلا معنى لهذا التفصيل إلّا ما أشرنا إليه من النظر المسامحيّ للغير المبتني على التدقيق و التحقيق. و أنت خبير بعدم العبرة به، بعد الاطّلاع على خلافه بالنظر الدقيق.

و قد عرفت فيما تقدّم: أنّ النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الأمر و النهي، بل في الأعمّ، فلا مجال لأن يتوهّم أنّ العرف هو المحكّم في تعيين المداليل، و لعلّه كان بين مدلوليهما حسب تعيينه تناف لا يجتمعان في واحد و لو بعنوانين و إن كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب و الحرمة في واحد بوجهين، فتدبّر (1).

______________________________

(1) يقول هذا المفصّل بانه يجوز اجتماع الأمر و النهي عند العقل و يمنع اجتماعهما عند العرف، و قد اشار المصنف الى مدركين لهذا التفصيل:

الاول: ان يكون السبب في هذا التفصيل هو ان العقل يرى ان المجمع ليس واحدا فلذا يرى جواز الاجتماع، و العرف يرى ان المجمع واحد فيرى الامتناع.

و الجواب عنه: ان العرف ليس له- بما هو عرف- رأي في هذا بل العرف يتبع في ذلك حكم العقل، فالعرف اذا رجع إلى العقل فيما يحكم به العقل هو المتبع عند العرف، فاذا كان العقل الذي ينظر الحال بنحو التدقيق و التحقيق يرى ان المجمع ليس واحدا، و العرف يراه واحدا لانه لا ينظر كما ينظر العقل بل نظره مبتن على التسامح و عدم التدقيق فلذا يراه واحدا، و لكن حيث ان العرف لا معوّل على ما يراه في هذا المقام فلا بد من ان يتبع العقل في حكمه و رأيه.

و بعبارة اخرى: ان العرف انما يتبع في مداليل الالفاظ حيث وضعت للتفاهم، فاذا كان العرف يفهم منها شيئا يكون هو المتبع.

و اما في مصداق ما هو متعلق للأمر و النهي و انه في الخارج هل هو واحد أو متعدد؟ فلا وجه لاتباع العرف في نظره المبني على التسامح، و لا بد في اتباع رأي

ص: 126

.....

______________________________

العقل في ذلك بل على العرف ان يتبع طريق العقل في ذلك، و لذا قال (قدس سره):

( (و فيه انه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز و الامتناع الا طريق العقل)).

و قد اشار الى ان الوجه و المدرك لهذا التفصيل من الجواز عقلا و الامتناع عرفا هو النظر الدقي عند العقل و النظر المسامحي عند العرف بقوله: ( (فلا معنى لهذا التفصيل الّا ما اشرنا اليه ... الى آخر الجملة)).

و قد اشار الى برهان ان العرف في امثال هذا لا طريق له و ان المتبع هو العقل، فاذا اطلعنا على رأي العقل و انه يحكم بخلاف العرف فلا عبرة بالنظر العرفي بقوله:

( (و انت خبير ... الى آخر الجملة)).

المدرك الثاني لهذا التفصيل: انه قد توهم هذا المفصّل حيث كان عنوان المسألة عنوان اجتماع الأمر و النهي و الغالب في الأمر و النهي هو الدليل اللفظي و الصيغة الدالة عليهما، و يرى هذا المفصّل ان العقل حيث يرى ان العنوان المحرم هو غير العنوان الواجب فهما اثنان و طبيعتان و كل طبيعة تباين الطبيعة الأخرى فيرى الجواز، و لكن الدلالة اللفظية ربما تكون لها دلالة التزامية ناشئة من الملازمات العادية، و اللفظ الدال على عنوان الأمر بالمطابقة يدل بالالتزام على عدم اجتماعه مع العنوان المنهي عنه، و ان كان غيره عنوانا و حقيقة اذا كان مجتمعا معه في الخارج و العرف هو المرجع في الدلالات اللفظية، فلذا قال بالتفصيل و ان العقل يرى الجواز و العرف يرى الامتناع.

و الجواب عنه ما مر مفصلا في الأمر الرابع من ان المسألة عقلية و النزاع فيها عقلي لا في الدلالة اللفظية.

و الكلام في ان العنوان المحرم من أي جهة استفيد حكمه التحريمي هل يجوز ان يجتمع مع الواجب المستفاد من أي دليل كاف فيما اذا اجتمعا في شي ء واحد خارجا ام لا يجوز؟ و لا ربط لهذا النزاع بالدلالات اللفظية.

ص: 127

و ينبغي التنبيه على امور:

الأوّل: إن الاضطرار إلى ارتكاب الحرام و إن كان يوجب ارتفاع حرمته، و العقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه- لو كان- مؤثّرا له، كما إذا لم يكن بحرام بلا كلام إلّا أنّه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار بأن يختار ما يؤدّي إليه لا محالة، فإنّ الخطاب بالزجر عنه حينئذ و إن كان ساقطا إلّا أنّه حيث يصدر عنه مبغوضا عليه و عصيانا لذاك الخطاب و مستحقا عليه العقاب لا يصلح لأن يتعلّق بها الإيجاب (1)، و هذا في الجملة ممّا لا شبهة

______________________________

فاذا تم هذا تعرف انه لا وجه لهذا التفصيل لان المسألة ليست لفظية حتى يكون العرف هو المتبع في الدلالات اللفظية، و قد اشار الى هذا بقوله: ( (فلا مجال لان يتوهم ان العرف ... الى آخر الجملة)).

و قوله (قدس سره): ( (و لعله كان بين مدلوليهما ... الى آخره))، هذا لبيان وجه دعوى الامتناع عرفا عند هذا المفصّل، هذا مضافا الى منع هذه الملازمة العادية اللفظية من رأس او منع كون لزومها بينا بالمعنى الاخص الذي لا بد منه في الدلالة الالتزامية.

(1)

و ينبغي التنبيه على امور:

مناط الاضطرار الرافع للحرمة
اشارة

لا يخفى ان الاضطرار الى ارتكاب الحرام على قسمين:

القسم الاول: ان يكون لا بسوء الاختيار كما لو خدع شخص- مثلا- فادخل دارا أو بعد دخوله فيها اختيارا جاهلا اضطره من في الدار إلى ان يشرب الخمر، و في مثل هذا لا إشكال في ارتفاع العقوبة عنه، و اذا كان الفعل الذي اضطره اليه فيه ملاك الأمر سواء كان امرا استحبابيا أو وجوبيا فانه لا مانع من فعلية ذلك الأمر و تأثيره و ترتب الاثر عليه و لو كان عباديا، كما لو كان الاضطرار إلى الارتماس في الماء للصائم في شهر رمضان و كان جنبا لاحتلام في نهار رمضان، فانه حينئذ يؤثر الأمر و يصح الغسل من ذلك الصائم المضطر الى الارتماس في الماء سواء كان الأمر

ص: 128

.....

______________________________

بالغسل مستحبا او واجبا، و يقع هذا الارتماس من المضطر اليه ليس بحرام و فعليا عباديا فيما اذا نوى الغسل في ذلك الارتماس.

و لا يخفى ان النهي عن الارتماس او شرب الخمر انما يسقط حين حصول الاضطرار و ان امتد زمان طويل بين اول زمان الاضطرار و بين زمان الارتكاب، فالخطاب بالنهي عن ارتكاب ذلك الفعل يسقط بمجرد حصول الاضطرار.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (ان الاضطرار الى ارتكاب الحرام و ان كان يوجب ارتفاع حرمته و العقوبة عليه)) المراد من هذا الاضطرار هو الاضطرار لا بسوء الاختيار كما نبّه عليه في تتمة هذه الجملة بقوله: ( (إلّا انه اذا لم يكن الاضطرار اليه بسوء الاختيار)).

و قد اشار الى ان الفعل المضطر اليه لا بسوء الاختيار كما ترتفع عنه العقوبة يؤثر الملاك الموجود فيه و يترتب علة اثره و لو كان عباديا بقوله: ( (مع بقاء ملاك وجوبه لو كان)) هذه لو وصلية، و معنى كلامه انه يرتفع عنه الخطاب بالحرمة و يبقى ملاك الوجوب فيه لو كان فيه ملاك الوجوب ( (مؤثرا له)): أي مؤثرا للوجوب ( (كما اذا لم يكن)) ذلك الفعل ( (بحرام بلا كلام)).

و لا يخفى ان (مؤثرا) في هذه الجملة يقع حالا من ملاك وجوبه.

القسم الثاني: ان يكون الاضطرار بسوء الاختيار كما لو علم- مثلا- بان في هذه الدار من يضطره إلى شرب الخمر لو دخل اليها، فيدخل الدار باختياره و حين دخوله يضطره من فيها إلى شرب الخمر، فهذا الداخل باختياره بمجرد حصول الاضطرار يسقط عنه النهي عن شرب الخمر اذ لا معنى لبقاء التكليف مع الاضطرار، إلّا انه حيث كان الدخول باختياره مع علمه بانه اذا دخل يكون مضطرا إلى الشرب يقع منه مبغوضا و معاقبا عليه، كما لو شرب الخمر باختياره من دون ان يضطر اليه.

و لا يخفى ان هذا الفعل الذي يكون قد اضطر اليه بسوء اختياره لا يؤثر فيه ملاك الوجوب لو كان فيه ملاك الوجوب، كما لو دخل الدار باختياره مع علمه بانه

ص: 129

فيه و لا ارتياب (1).

و إنّما الإشكال فيما إذا كان ما اضطرّ إليه بسوء اختياره ممّا ينحصر به التخلّص عن محذور الحرام- كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسّطها بالاختيار- في كونه منهيّا عنه أو مأمورا به، مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه، فيه أقوال. هذا على الامتناع.

______________________________

يضطر فيها الى الارتماس في نهار رمضان، فان هذا الارتماس لا يؤثر فيه ملاك الوجوب لانه يقع منه مبغوضا و مبعّدا فلا يصح للعبادية و المقربيّة،

حكم الاضطرار بسوء الاختيار مع الانحصار

و الى هذا اشار بقوله: ( (بان يختار ما يؤدي اليه لا محالة)) و معناه انه اذا كان الاضطرار بسوء الاختيار كما عرفت بان يدخل الدار- مثلا- مع علمه بانه اذا دخلها يضطر فيها لشرب الخمر فهو باختياره قد فعل ما يؤدي الى الاضطرار، و هذا هو مراده من قوله بان يختار ما يؤدي اليه لا محالة: أي بان يفعل باختياره ما يؤدي الى الاضطرار، و قد اشار الى ان الخطاب بالزجر يسقط بمجرد الاضطرار بقوله: ( (فان الخطاب بالزجر عنه حينئذ)): أي حين الاضطرار ( (و ان كان ساقطا)) و قد اشار الى ان هذا الفعل يقع منه مبغوضا و معاقبا عليه كما لو شرب الخمر باختياره و من غير اضطرار اليه، و حيث يقع منه مبغوضا و معاقبا عليه لا يؤثر فيه ملاك الوجوب لو كان ملاكه كالارتماس في نهار رمضان بقوله: ( (الّا انه حيث يصدر عنه مبغوضا عليه و عصيانا لذاك الخطاب و مستحقا عليه العقاب لا يصلح لان يتعلق به الايجاب)).

(1) لا يخفى ان هذا القسم الثاني على قسمين لان الفعل المضطر اليه بسوء الاختيار.

تارة لا يكون مقدمة لواجب بعد الاضطرار كما عرفت من مثال شرب الخمر و الارتماس.

و اخرى يكون مقدمة منحصرة لواجب بعد الاضطرار بسوء الاختيار.

و لا خلاف في القسم الاول من هذا القسم الثاني، و في القسم الثاني منه وقع الخلاف و لذا قال: ( (و هذا في الجملة مما لا شبهة فيه و لا ارتياب)).

ص: 130

و أما على القول بالجواز، فعن أبي هاشم: أنه مأمور به و منهيّ عنه، و اختاره الفاضل القمّي ناسبا له إلى أكثر المتأخّرين و ظاهر الفقهاء (1).

______________________________

(1) و قد وقع الخلاف في هذا القسم من القسم الثاني و هو ما كان مقدمة لواجب تكون فعلية ذلك الواجب بعد الاضطرار بسوء الاختيار، مثل الخروج عن الدار المغصوبة بعد دخولها بسوء الاختيار، فانه بعد الدخول بسوء الاختيار يجب عليه التخلص من هذا الحرام و هو التصرف في الدار المغصوبة بالبقاء فيها، فان الداخل في الدار قد عصى بالتصرف فيها بالدخول و البقاء فيها بعد الدخول ايضا تصرف فيها، و يتوقف التخلص من هذا البقاء على الخروج كمقدمة للتخلص و هو الذي يشير اليه اولا في ان قلت الاولى.

او ان التخلص عن هذا الحرام الذي هو العنوان الواجب مصداقه نفس الخروج فالخروج يكون بنفسه واجبا لا انه مقدمة للواجب، و هو الذي يظهر من ان قلت الثانية.

و على كل فالاقوال التي اشار اليها المصنف في هذا القسم اربعة:

الاول: انه يقع منهيا عنه و مبغوضا منه، و عليه فلا يصلح لان يؤثر فيه ملاك الوجوب او الاستحباب لو كان فيه كما لو صلى في حال الخروج، و هو مختاره.

الثاني: انه يقع مأمورا به مع اجراء حكم المعصية عليه للنهي السابق.

الثالث: انه يقع مأمورا به و غير منهي عنه و النهي السابق عن التصرف في المغصوب لا يشمله.

و لا يخفى ان هذه الاقوال انما هي على الامتناع.

و اما على الجواز فقد اختار ابو هاشم و المحقق القمي انه يقع مأمورا به و منهيا عنه، و هذا هو القول الرابع.

و قد اشار الى القول الاول بقوله: ( (في كونه منهيا عنه)). و الى الثاني بقوله:

( (او مأمورا به مع جريان حكم المعصية عليه)). و الى القول الثالث بقوله: ( (او

ص: 131

و الحق أنّه منهيّ عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه، و عصيان له بسوء الاختيار، و لا يكاد يكون مأمورا به- كما إذا لم يكن هناك توقف عليه أو بلا انحصار به- و ذلك ضرورة أنّه حيث كان قادرا على ترك الحرام رأسا لا يكون عقلا معذورا في مخالفته فيما اضطرّ إلى ارتكابه بسوء اختياره، و يكون معاقبا عليه- كما إذا كان ذلك بلا توقّف عليه أو مع عدم الانحصار به- و لا يكاد يجدي توقّف انحصار التخلّص عن الحرام به، لكونه بسوء الاختيار (1).

______________________________

بدونه)): أي انه يقع وراءه من دون اجراء حكم المعصية عليه، و يصرّح صاحب هذا القول بان النهي السابق لا يشمله.

و قد اشار الى أن هذه الاقوال الثلاثة هي على الامتناع بقوله: ( (هذا على الامتناع)).

و قد اشار الى القول الرابع بقوله: ( (و اما على القول بالجواز عن ابي هاشم ...

الى آخر الجملة)).

(1) و حاصل ما اختاره ان الخروج يقع منه محرما و مبغوضا و ان كان النهي عنه المنجّز عليه قبل الدخول قد سقط بمجرد حصول الاضطرار، لوضوح انه مع لزوم وقوع النهي عنه لأجل الاضطرار بسوء الاختيار لا معنى لبقاء النهي، اذ الأمر و النهي انما هما لداعي جعل الداعي و انما يصح ان يكونا داعيين في حال الاختيار و ان المكلف يمكنه ان يفعل و ان لا يفعل، و الداخل في الدار المغصوبة بسوء اختياره مضطر الى ارتكاب الخروج منها فلا معنى لبقاء النهي السابق عن التصرف الخروجي بعد الاضطرار الى الخروج، فالنهي عن التصرف الخروجي كان موجها الى المكلف قبل دخوله و بعد دخوله بسوء اختياره يسقط هذا النهي المتعلق بالتصرف الخروجي، و لا مانع من توجه النهي عن التصرف بالخروج الى المكلف قبل الدخول، لان الشرط

ص: 132

.....

______________________________

في توجه التكاليف هو القدرة على امتثالها، و المكلف يقدر على امتثال هذا النهي المتعلق بالتصرف الخروجي قبل الدخول و ذلك بترك الدخول.

و الفرق بين التصرف بالدخول و التصرف بالخروج هو ان الاول مقدور بلا واسطة و هو التصرف بالدخول بان يترك الدخول، و الثاني و هو التصرف بالخروج مقدور بالواسطة و هو ترك الدخول فانه بترك الدخول يكون قد ترك التصرف بالخروج ايضا، فترك التصرف بالخروج يكون مقدورا عليه بواسطة القدرة على ترك الدخول.

و قد عرفت مرارا ان المقدور بالواسطة كالمقدور بلا واسطة في صحة التكليف به و تنجزه عليه، و حيث يقع مبغوضا منه و محرما لا يعقل ان يقع منه مأمورا به و عباديا منه فيما كان فيه ملاك ذلك، و يكون حال الخروج كحال الدخول فكما لا تصح الصلاة منه في حال الدخول كذلك لا تصح منه في حال الخروج، و لا ينفع في رفع هذه الحرمة المنجزة سابقا الساقطة بعد الدخول كون الخروج بعد الدخول يكون مما يتوقف عليه التخلص، او لانه ينحصر به التخلص عن البقاء المحرّم، و سيأتي توضيح هذا و ان انحصار التخلص به لا يجدي، لانه وقع ذلك بسوء اختياره، و التخلص عن المحرم أي الترك المحرم ليس بمنحصر ابتداء في الخروج، لانه قبل الدخول هو متمكن من ترك التصرف في الدار بجميع انحائها من التصرف بالدخول و بالبقاء و بالخروج بان يكون باقيا في خارج هذه الدار المغصوبة، و انما جعل انحصار ترك التصرف بالدار منحصرا بالخروج هو سوء اختيار المكلف.

و قد اشار الى ان هذا الخروج يقع منهيا عنه بالنهي السابق و ان النهي يسقط بمجرد الدخول لأجل الاضطرار بقوله: ( (انه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار)).

و اشار الى انه لا يقع مصداقا للمأمور به لو كان ملاك ذلك بقوله: ( (و لا يكاد يكون مأمورا به)).

ص: 133

.....

______________________________

و اشار الى ان حال الخروج كغيره من انحاء التصرف بالمغصوب الذي لا يتوقف عليه التخلص او لا ينحصر به بقوله: ( (كما اذا لم يكن هناك توقف عليه او بلا انحصار به)).

و توضيحه: ان المحرم تارة لا يكون مقدمة لواجب.

و اخرى يكون مقدمة للواجب و لكنها غير منحصرة كالدابة المغصوبة مع وجود الدابة المغصوبة.

و ثالثة يكون المحرم مقدمة منحصرة لواجب و لكن الانحصار يكون بسوء الاختيار، كما لو اتلف الدابة غير المغصوبة باختياره فالانحصار في الدابة المغصوبة كان بسوء اختياره، و هذه المقدمات الثلاث كلها تقع محرمة.

نعم لو كان الانحصار لا بسوء الاختيار و كان الواجب اهم من ارتكاب هذا الحرام فانه حينئذ يكون مأمورا به و غير منهي عنه إلّا انه خارج عن الفرض.

و قد اشار الى ان النهي السابق المتعلق بالتصرف الخروجي منجز عليه قبل الدخول للقدرة عليه و لو بالواسطة بقوله: ( (و ذلك ضرورة انه حيث كان قادرا على الترك الحرام ... الى آخر الجملة)).

و قد اشار الى ان توقف انحصار التخلص بالخروج لا يجدي في رفع حرمته لكونه بسوء اختياره بقوله: ( (و لا يكاد يجدي توقف انحصار التخلص عن الحرام به لكونه بسوء الاختيار)).

و لا يخفى انه للمصنف هنا كلام في الهامش 4] محصله:

ان التخلص عن الحرام لا توقف له على الخروج لان الخروج مقدمة للكون في خارج الدار، و الكون خارج الدار ملازم للتخلص عن الحرام فان التخلص عن الحرام هو التخلص عن الكون في الدار الذي هو الحرام فالتخلص عنه هو ترك

ص: 134

إن قلت: كيف لا يجديه، و مقدّمة الواجب واجبة (1)؟

______________________________

الكون في الدار و الكون في الدار، و الكون في خارج الدار ضدان، و من الواضح ملازمة عدم احد الضدين لوجود الضد الآخر، فالكون خارج الدار الذي هو الضد للكون في الدار يلازمه ترك الكون في الدار الذي هو التخلص عن الحرام و الخروج مقدمة للكون في خارج الدار و ليس مقدمة لترك الكون في الدار و من الواضح ان مقدمة احد الضدين ليست مقدمة لعدم الضد الآخر، فالتخلص عن الحرام لا توقف له على الخروج و ليس الخروج مقدمة له فضلا عن ان يكون مقدمة منحصرة له.

(1) هذا هو القول الثالث من الأقوال المتقدمة في عبارته و بعد هذا القول يتعرض للقول الثاني، و من بعده للقول الرابع.

و قد عرفت ان مختاره القول الاول و قد استدل في تقريرات الشيخ الأنصاري طاب ثراه لهذا القول بوجهين:

الاول: ما ذكره بقوله: ( (ان قلت))، و حاصله: ان الخروج مأمور به و ليس بمنهي عنه، اما انه ليس بمنهي عنه فقد ذكر الدليل عليه في الوجه الثاني، و اما انه مأمور به فلان الخروج و ان كان تصرفا في المغصوب إلّا انه مقدمة لترك البقاء في المغصوب، و البقاء في المغصوب حرمته اشد و اكثر من الخروج عن المغصوب، و ترك المحرم الاشد واجب اهم من حرمة الخروج، و تنحصر مقدمة هذا الواجب الاهم الذي هو ترك البقاء بالخروج، و اذا انحصرت مقدمة الواجب الاهم بالحرام غير الاهم فلا بد و ان لا يكون حراما و يقع مأمورا به بالأمر الغيري المقدمي لأن المقدمة الواجب واجبة، فترك البقاء الذي هو الواجب الاهم تنحصر مقدمته بالخروج فيجب الخروج مقدمة لواجب اهم.

هذا حاصل الوجه الاول المذكور في التقريرات دليلا على كون الخروج مأمورا به.

ص: 135

قلت: إنّما تجب المقدّمة لو لم تكن محرّمة، و لذا لا يترشّح الوجوب من الواجب إلّا على ما هو المباح من المقدّمات دون المحرّمة مع اشتراكهما في المقدّميّة.

و إطلاق الوجوب بحيث ربما يترشّح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدّمة بها إنّما هو فيما إذا كان الواجب أهمّ من ترك المقدّمة المحرّمة، و المفروض هاهنا و إن كان ذلك إلّا أنّه كان بسوء الاختيار و معه لا يتغيّر عمّا هو عليه من الحرمة و المبغوضيّة، و إلّا لكانت الحرمة معلّقة على إرادة المكلّف و اختياره لغيره، و عدم حرمته مع اختياره له، و هو كما ترى مع أنّه خلاف الفرض و أنّ الاضطرار يكون بسوء الاختيار (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان هذا الجواب مبني على تسليم كون الخروج مقدمة للتخلص عن الحرام و هو ترك البقاء.

و اما بناء على ما حققه في الهامش فالخروج لا مقدمية فيه اصلا.

و حاصل هذا الجواب: ان مقدمة الواجب اما مباحة او محرمة و لا اشكال في وجوب المقدمة المباحة و لكن الخروج ليس مقدمة مباحة، و اما المقدمة المحرمة فلا اشكال في حرمتها حيث لا انحصار للواجب فيها.

و اما المقدمة المنحصر فيها توقف الوجوب فتارة تكون حرمتها اهم من وجوب الواجب و هذه ايضا لا اشكال في حرمتها.

و اخرى يكون الوجوب اهم، و هذه المقدمة المحرمة ترتفع عنها الحرمة و يسري اليها الوجوب الغيري من الوجوب النفسي، و لكن ايضا لهذه المقدمة المحرمة المنحصر بها وجود الواجب الاهم لوجوبها شرط آخر مضافا إلى الانحصار و هو كون الانحصار بها لا بسوء اختيار المكلف، فان الانحصار اذا كان بسوء اختيار المكلف ايضا تكون باقية على حرمتها.

ص: 136

.....

______________________________

و الدليل على اشتراط هذا الشرط فيها هو انه لو كان الانحصار فيها بسوء الاختيار موجبا لارتفاع حرمتها للزم ان تكون حرمتها معلقة على ارادة المكلف، و تعليق الحرمة فيها على ارادة المكلف واضح الفساد.

اما لزوم ذلك فلان هذه المقدمة المحرمة غير المنحصر بها وجود الواجب الاهم اما ان تكون حرمتها مطلقة من حيث صيرورتها منحصرة بسوء اختيار المكلف ام لا بان يكون النهي عنها المخاطب به المكلف كان مطلقا بان يقول المولى لعبده هذه غير المنحصر بها من طبعه هي حرام سواء جعلتها منحصرة بسوء اختيارك ام لم تجعلها.

و اما ان تكون حرمتها غير معلقة بل مطلقة على ان لا يجعلها منحصرة و لو بسوء اختياره.

فان كانت حرمتها من قبيل الاول أي مطلقة و غير معلقة فلازمه عدم صيرورتها واجبة لو كان الانحصار بسوء الاختيار.

و ان كانت حرمتها من قبيل الثاني بان كانت معلقة على جعلها و لو بسوء اختياره منحصرة فمرجعه الى ان حرمة هذه المقدمة معلقة على ارادة المكلف و اختياره في جعلها منحصرة، و هذا لا يمكن الالتزام به و هو كون الحرمة لشي ء معلقة على ارادة المكلف و اختياره، يعني ان حرمة هذه المقدمة منوطة بارادة المكلف ان شاء ان يبقيها على حرمتها لا يفعل ما يوجب الانحصار بها، و ان شاء ان ترتفع حرمتها جعل الواجب منحصرا بها و هذا واضح الفساد.

و المصنف سلّم كون الخروج مقدمة للتخلص، و سلّم كون الواجب المتوقف عليها اهم من حرمتها، و سلّم الانحصار بها، و لم يسلّم ان الانحصار و لو بسوء الاختيار موجب لارتفاع الحرمة، و المصنف قد اشار الى هذه الجملة بقوله:

( (و المفروض هاهنا و ان كان ذلك إلّا انه كان بسوء الاختيار و معه لا يتغير عما هو عليه من الحرمة)).

ص: 137

.....

______________________________

و قد اشار الى الدليل على ذلك و هو عدم معقولية كون الانحصار لسوء الاختيار موجبا لرفع الحرمة بقوله: ( (و الّا لكانت الحرمة معلقة)) أي لو كان الانحصار لسوء الاختيار موجبا لارتفاع حرمة الخروج لكانت حرمة الخروج معلقة على ما اذا اراد المكلف عدم الخروج بان يريد ترك الدخول و لا يريد الدخول فانه عند ارادة الدخول لا يكون مريدا للخروج بل مريدا لعدم التصرف الخروجي فمرجع الضمير في لغيره هو الخروج و لذا قال: ( (و الّا لكانت الحرمة معلقة على ارادة المكلف و اختياره لغيره)) و تكون عدم حرمة الخروج معلقة على اختياره للخروج و لذا قال: ( (و عدم حرمته مع اختياره له)) أي و عدم حرمة الخروج مع اختياره للخروج فضمير له ايضا راجع الى الخروج ( (و هو كما ترى)) لعدم معقولية ان يكون حرمة الشي ء معلقة على ارادة عدم ذلك الشي ء و جوازه معلقا على ارادته لان النهي المعلق على عدم الارادة للشي ء و الجواز المعلق على الارادة للشي ء لازمه رجوع هذا النهي الى الاباحة فان مرجعه انه اذا اراد الترك فليترك و اذا اراد الفعل فليفعل لانه منهي عنه عند عدم ارادته له و غير منهي عنه عند ارادته له.

قوله (قدس سره): ( (مع انه خلاف الفرض الخ)) حاصله: ان مفروض المسألة انه اضطر الى ما هو المحرم بسوء اختياره و لازمه ان يكون الاضطرار و لو لسوء الاختيار رافعا حرمة هذا المحرّم و اذا كان الحرمة معلقة على عدم ارادته له و عدم الحرمة على ارادته له فحين ارادته له لا تكون حرمة و اذا لم تكن حرمة فلا يكون الاضطرار رافعا للحرمة اذ لا حرمة حين ارادة الخروج فليس الاضطرار اليه قد رفع حرمته بل ارادة المكلف له تكون رافعة لحرمته دون الاضطرار اليه و لو لسوء الاختيار و هذا مراده من قوله: انه خلاف الفرض و ان الاضطرار يكون لسوء الاختيار.

ص: 138

إن قلت: إنّ التصرّف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول و البقاء حرام بلا إشكال و لا كلام، و أمّا التصرّف بالخروج الّذي يترتّب عليه رفع الظلم، و يتوقّف عليه التخلّص عن التصرّف الحرام، فهو ليس بحرام في حال من الحالات، بل حاله حال مثل شرب الخمر المتوقّف عليه النجاة من الهلاك في الاتّصاف بالوجوب في جميع الأوقات.

و منه ظهر المنع عن كون جميع انحاء التصرّف في أرض الغير مثلا حراما قبل الدخول، و أنّه يتمكّن من ترك الجميع حتّى الخروج، و ذلك لأنّه لو لم يدخل لما كان متمكّنا من الخروج و تركه، و ترك الخروج بترك الدخول رأسا ليس في الحقيقة إلّا ترك الدخول. فمن لم يشرب الخمر، لعدم وقوعه في المهلكة الّتي يعالجها به مثلا، لم يصدق عليه إلّا أنّه لم يقع في المهلكة، لا أنّه ما شرب الخمر فيها إلّا على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع كما لا يخفى.

و بالجملة لا يكون الخروج- بملاحظة كونه مصداقا للتخلّص عن الحرام أو سببا له- إلّا مطلوبا، و يستحيل أن يتّصف بغير المحبوبيّة، و يحكم عليه بغير المطلوبيّة (1).

______________________________

(1)

كلام التقريرات و جواب المصنف عنه

هذا هو الوجه الثاني الذي يظهر من التقريرات في كون الخروج مأمورا به، و يختلف هذا الوجه عن الوجه الاول انه قد كان الوجه الاول مبنيا على كون الخروج حتى لو كان منهيا عنه بالنهي السابق قبل الدخول و لكنه بعد الدخول يكون مأمورا به، لتوقف الواجب الاهم عليه و ان وجوبه غيري مقدمي.

و اما هذا الوجه فمبناه على كون الخروج ليس بمنهي عنه لا قبل الدخول و لا بعد الدخول، و ان وجوبه بعد الدخول يمكن ان يكون غيريا، لانه مقدمة يتوقف عليها التخلص عن الحرام، و يمكن ان يكون نفسيا لكونه بنفسه مصداقا لعنوان التخلص عن الحرام.

ص: 139

.....

______________________________

و توضيحه: ان التصرف بالدار المغصوبة على انحاء ثلاثة:

تصرف بالدخول فيها، و تصرف بالبقاء فيها و تصرف بالخروج عنها و لا اشكال في حرمة التصرف بالدخول و بالبقاء و النهي عنهما.

و اما التصرف بالخروج عنها فليس بحرام و ليس بمنهي عنه في حال من الاحوال اصلا لا قبل الدخول و لا بعد الدخول.

اما بعد الدخول فواضح لان الخروج يكون مأمورا به إما لانه مقدمة للتخلص عن البقاء الزائد الذي هو اهم، و اما لكونه بنفسه مصداقا للتخلص بان نقول ان عنوان التخلص عن الحرام واجب بنفسه لكونه من العناوين الحسنة الممدوح عليها عقلا و شرعا، اما عقلا فلانه دفع للضرر الذي يحصل بالبقاء المحرّم، و اما شرعا فلوضوح وجوب التخلص عن الحرام و التجنب عن ارتكابها فهو من العناوين الواجبة، و الذي يحصل به خارجا التخلص و التجنب عن البقاء الزائد هو الخروج عن الدار المغصوبة.

و اما انه ليس بمنهي عنه بالنهي السابق قبل الدخول، فلأن النهي عن الخارج عن محل الابتلاء ليس بفعلي لقبح توجه النهي فعلا عن الخارج عن محل الابتلاء.

و بعبارة اخرى: ان النهي انما يحسن و يتوجه بالفعل الى المكلف حيث يكون موضوعه و متعلقه في معرض الابتلاء، و حيث ان الخروج ليس بمقدور عليه قبل الدخول فلا وجه لان يكون منهيا عنه قبل الدخول، و الذي هو في معرض الابتلاء هو التصرف بالدخول و البقاء فيها.

و اما الخروج فحيث لا قدرة عليه قبل الدخول فلا موضوع له في تلك الحال و هو حال ما قبل الدخول، فلا يصح عنه إلّا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع و هو قبيح، لانه يقبح من المولى ان يخاطب عبده و يقول له لا تقتل ابن زيد حيث لا يكون لزيد ابن فعلا. و الخروج عن الدار المغصوبة قبل الدخول حاله كذلك، لانه حيث لا دخول لا موضوع للخروج حتى يصح النهي عنه، و اذا لم يكن النهي عن الخروج فعليا قبل

ص: 140

.....

______________________________

الدخول لا يكون شأنيا ايضا لانه ما لا فعلية له لا شأنية له، فان النهي انما هو بداعي جعل الداعي، فاذا كان متعلقه في حال الابتلاء به يكون واجبا ففي حال عدم الابتلاء به لا معنى لفعلية النهي عنه، فلا يكون النهي عنه شأنيا لان النهي الشأني الاقتضائي انما يكون حيث يمكن ان يبلغ درجة الفعلية و يكون فعليا في وقت من الاوقات، و هذا النهي لا يكون فعليا اصلا لما عرفت انه لا معنى لفعليته قبل الابتلاء به و هو زمان قبل الدخول، و بعد الابتلاء به يكون الخروج مأمورا به لا منهيا عنه، فلا يكون الخروج بمنهي عنه اصلا لا شأنا و لا فعلا في حال من الاحوال، و حال التصرف الخروجي الغصبي حال شرب الخمر الذي يعالج به الداء المهلك المتوقف مباشرته عليه.

فان شرب الخمر على نحوين: شرب لا يكون به دفع المهلكة، و شرب يعالج به المهلكة و تدفع به.

و الاول منهي عنه بالنهي الفعلي بلا اشكال.

و اما الثاني و هو الشرب الذي يعالج به المهلكة فلا معنى للنهي عنه بعنوان انه يعالج به المهلكة قبل الابتلاء بالمهلكة، لان النهي عنه بهذا العنوان قبل الابتلاء بالمهلكة قبيح لانه نهي من باب السالبة بانتفاء الموضوع، و بعد الابتلاء بالمهلكة يكون واجبا لتوقف دفع المهلكة عليه، و ان ترك شرب الخمر قبل الابتلاء بالمهلكة يصدق عليه انه ترك شرب الخمر و لا يصدق عليه انه ترك شرب الخمر في المهلكة حتى يصح الخطاب به بهذا العنوان قبل الابتلاء بالمهلكة، و انما يصدق انه لم يقع في المهلكة لا انه ترك شرب الخمر في المهلكة و الخروج مثله فانه قبل الدخول انما يصدق انه ترك الدخول و لا يصدق انه ترك الخروج حتى يصح الخطاب به قبل الدخول، و بعد الدخول يكون واجبا لتوقف التخلص عن الحرام عليه لانه مقدمة له، او لانه بنفسه مصداق للتخلص، و لذا قال (قدس سره): ( (و بالجملة لا يكون الخروج بملاحظة كونه مصداقا للتخلص عن الحرام او سببا الا مطلوبا ... الى آخر الجملة)).

ص: 141

قلت: هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلّص مأمورا به- و هو موافق لما أفاده شيخنا العلامة ( (أعلى اللّه مقامه))، على ما في تقريرات بعض الأجلّة- لكنّه لا يخفى أنّ ما به التخلّص عن فعل الحرام أو ترك الواجب إنّما يكون حسنا عقلا و مطلوبا شرعا بالفعل- و إن كان قبيحا ذاتا- إذا لم يتمكّن المكلّف من التخلّص بدونه، و لم يقع بسوء اختياره، إمّا في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام، و إمّا في الإقدام على ما هو قبيح و حرام، لو لا أنّ به التخلّص بلا كلام كما هو المفروض في المقام، ضرورة تمكّنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره (1).

______________________________

(1) قد عرفت ان مبنى هذا الوجه الثاني على امرين:

الاول: ان التخلص عن ترك البقاء الزائد الذي هو اهم من الخروج اما يتوقف على الخروج او ان مصداق التخلص هو الخروج بنفسه.

و الثاني: ان الخروج قبل الدخول ليس بمنهي عنه لأن النهي عنه لا يكون إلّا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع و لا يصح توجه النهي بنحو السالبة بانتفاء الموضوع و بعد الدخول يكون الخروج واجبا و مأمورا به، فمتى يكون الخروج محرما منهيا عنه؟ بل هو غير منهي عنه في أي حال من الاحوال.

و الجواب عن الاول: ان التخلص عن فعل الحرام كالتخلص عن البقاء المحرم او التخلص عن ترك الواجب كالتخلص عن ترك الحج الواجب- انما يكون صحيحا بارتكاب المحرم الذي يتوقف عليه التخلص بشرطين:

الاول: ان لا يتمكن من التخلص بدون ارتكاب المحرم أي بان ينحصر التخلص بارتكابه.

الثاني: ان لا يكون بسوء اختياره قد اوقع نفسه في الاضطرار الى ارتكاب ذلك المحرم.

ص: 142

.....

______________________________

و قد اشار الى هذين الشرطين بقوله: ( (اذا لم يتمكن المكلف من التخلص بدونه و لم يقع بسوء اختياره)).

و اما اذا كان التخلص عن فعل الحرام او ترك الواجب غير منحصر في الفرد المحرم، فارتكاب الفرد المحرم لا يوجب سقوط حرمته لانه احد الفردين للتخلص، كمن كان عنده دابتان مغصوبة و حلال فان التخلص عن ترك الحج لا ينحصر بالفرد المغصوب مع وجود الدابة المحللة، فاذا ركب الدابة المغصوبة فلا تسقط حرمتها بكونها وقعت مقدمة للحج و بها حصل التخلص عن ترك الحج الواجب.

و مثله التخلص عن ترك البقاء في الدار المغصوبة قبل الدخول، فانه يتمكن من التخلص عن البقاء في الدار المغصوبة بترك الدخول، و الخروج و ان كان يحصل به التخلص عن البقاء إلّا انه قبل الدخول لا ينحصر التخلص به لامكان ترك البقاء بترك الدخول.

و كذلك اذا كان التخلص منحصرا في الفرد المحرم إلّا انه كان الانحصار في الفرد المحرم بسوء اختيار المكلف، فانه ايضا يقع منه مبغوضا و معاقبا عليه كمن أتلف الدابة المحللة او دخل في الدار المغصوبة، فان فعل الحج في الاول، و البقاء في المغصوب في الثاني، و ان انحصرا بركوب الدابة المغصوبة و بالخروج و التصرف في الدار المغصوبة في حال الخروج إلّا ان هذا الانحصار وقع بسوء اختياره.

نعم لو انحصر التخلص عن فعل الحرام- مثلا- بالفرد المحرم و لم يكن الانحصار بسوء اختياره، كما لو وقع في الدار المغصوبة من غير اختياره، أو ادخله احد في الدار المغصوبة قسرا عليه، يكون حينئذ الخروج الذي ينحصر به التخلص عن ترك البقاء مباحا و غير معاقب عليه و تصح الصلاة منه اذا وقعت في حال الخروج، اما لو دخل باختياره للدخول فان الخروج و ان انحصر به التخلص إلّا انه يقع منه مبغوضا و معاقبا عليه، فلا تصح الصلاة منه لو وقعت في حال الخروج، و حال هذا الخروج الواقع انحصار التخلص به بسوء اختياره حال نفس ارتكاب المحرم أو ترك الواجب

ص: 143

.....

______________________________

اذا فعل المكلف بسوء اختياره ما يوجب ارتكابهما و اقتحامهما، كمن دخل دارا و علم بانه متى دخل يكتّف و يفتح فمه و يدخلون الخمر في حلقه بحيث يشربها قسرا عليه، او انه اذا دخل يكتفونه بحيث لا يستطيع ان يصلي، فان شربه للخمر و تركه للصلاة و ان كان قسرا عليه إلّا انه يقع منه مبغوضا و معاقبا عليه، لانه علم انه متى دخل يحصل منه المبغوض و دخوله كان بسوء اختياره و لا يرفع المبغوضيّة و العقاب عنه كونه فعل المحرم أو ترك الواجب مضطرا اليه و مقهورا عليه، و الى هذا اشار المصنف بقوله: ( (و لم يقع بسوء اختياره اما في الاقتحام في ترك الواجب او فعل الحرام)).

و قد اشار الى ان المحرم الذي ينحصر التخلص عن فعل المحرم الاهم به بسوء الاختيار مثل الاول في وقوعه مبغوضا و معاقبا عليه، كالخروج الذي يتوقف التخلص عن البقاء المحرم عليه اذا فعل الدخول بسوء اختياره بقوله: ( (و اما في الاقدام بما هو قبيح و حرام لو لا به التخلص بلا كلام)) فان الخروج لا شبهة في كونه تصرفا في المغصوب و هو محرم قطعا.

لو فرضنا انه لا يتوقف عليه التخلص عن البقاء و لما انحصر به التخلص توهم ان هذا الانحصار يوجب وقوعه غير معاقب عليه لكونه اما مقدمة للتخلص او لكونه مصداقا له، و قد عرفت انه اذا كان التخلص منحصرا به و لكنه كان الانحصار به بسوء اختياره حاله حال الذي يجبر على شرب الخمر بعد علمه بانه متى دخل يحصل له باختياره شرب الخمر بالقسر من غير فرق اصلا، لانه قد اوقع نفسه بسوء اختياره بما اوجب انحصار التخلص عن البقاء في الدار المغصوبة بالخروج منها، و لو لم يدخل لتمكن من التخلص عن البقاء في الدار المغصوبة بترك الدخول و لا يكون تخلصه عن البقاء منحصرا في الخروج و لذا قال (قدس سره): ( (كما هو المفروض في المقام ضرورة تمكنه منه)): أي تمكنه من التخلص عن البقاء بترك الدخول ( (قبل اقتحامه فيه)): أي في الدخول ( (بسوء اختياره)).

ص: 144

و بالجملة كان قبل ذلك متمكّنا من التصرّف خروجا، كما يتمكّن منه دخولا، غاية الأمر يتمكّن منه بلا واسطة و منه بالواسطة، و مجرّد عدم التمكّن منه إلّا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدورا (1)، كما هو الحال في

______________________________

(1) هذا شروع في الجواب عن الأمر الثاني و هو كون الخروج ليس بمنهي عنه قبل الدخول.

و توضيحه: ان المدار و المناط في كون النهي بنحو السالبة بانتفاء الموضوع و انه خارج عن محل الابتلاء هو صدق كونه قادرا على الترك او ليس بقادر، فان كان يصدق عليه انه قادر لا يكون النهي عنه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع سواء كان قادرا على الترك بلا واسطة او مع الواسطة، و اذا لم يصدق عليه انه قادر على الترك يكون النهي عنه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، مثل النهي عن شرب الخمر الذي في الصين- مثلا- بالنسبة إلى من في العراق، فانه يصدق على من في العراق انه فعلا غير قادر على شرب الخمر في الصين، فيكون توجه النهي و الزجر عن شرب الخمر التي في الصين بالنسبة إلى من في العراق قبيحا لانه من السالبة بانتفاء الموضوع، لانه خارج عن محل الابتلاء و لا قدرة له على شربه حتى يصح الخطاب بالنهي و الزجر عنه.

و اما المقدور عليه بالواسطة فعلا فليس بخارج عن محل الابتلاء و لا يكون توجه النهي اليه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع لمجرد كونه مقدورا بالواسطة، و الخروج قبل الدخول كذلك فانه قبل الدخول مقدور عليه فعلا بواسطة الدخول فلا يكون توجه النهي عن الخروج قبل الدخول من الخارج عن محل الابتلاء و ان النهي عنه من السالبة بانتفاء الموضوع، و حاله حال الخمر الموجودة في السوق بالنسبة الى من هو فعلا في بيته فانه في حال كونه في بيته لا يتمكن من شرب الخمر التي في السوق، و لكنه يتمكن من شربها بطي المسافة من البيت إلى السوق و يصدق عليه انه قادر عليها فعلا و ليست خارجة عن محل الابتلاء.

ص: 145

البقاء، فكما يكون تركه مطلوبا في جميع الأوقات، فكذلك الخروج، مع أنّه مثله في الفرعيّة على الدخول، فكما لا تكون الفرعيّة مانعة عن مطلوبيّته قبله و بعده، كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيّته، و إن كان العقل يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقلّ المحذورين و أخفّ القبيحين (1).

______________________________

و من الواضح ان من كان في خارج الدار يتمكن فعلا من التصرف الخروجي بان يدخل الدار، فهو قادر على الخروج فعلا لكنه بالواسطة لا كمثل الدخول لأنه قادر عليه بلا واسطة، و المقدور بالواسطة كالمقدور بلا واسطة في صحة توجه النهي و العقاب على الفعل المنهي عنه، و هذا هو مراد المصنف من قوله: ( (كان قبل ذلك)): أي قبل الدخول ( (متمكنا من التصرف خروجا كما يتمكن منه)): أي من التصرف ( (دخولا)): أي انه قبل الدخول كما يصدق عليه انه قادر على ترك الدخول كذلك يصدق عليه انه قادر على ترك الخروج.

ثم اشار الى ان الفرق بينهما هو كون القدرة على ترك الدخول بلا واسطة و على ترك الخروج مع الواسطة بقوله: ( (غاية الأمر يتمكن منه)): أي من ترك الدخول ( (بلا واسطة و منه)): أي و من ترك الخروج ( (بالواسطة)).

ثم اشار الى ان مجرد كون احدهما بلا واسطة و الآخر مع الواسطة لا يوجب تفاوتا في صدق القدرة عليهما، و كون المقدور مع الواسطة خارجا عن محل الابتلاء و النهي عنه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع بقوله: ( (و مجرد عدم التمكن منه)): أي من الخروج ( (الا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدورا)).

(1) لا يخفى ان ما مر من المصنف كان جوابا حليا، و قد شرع في الجواب نقضا و قد نقض عليه بنقضين:

الاول: ما اشار اليه بقوله كما هو الحال في البقاء، و حاصله:

انه قد اعترف في التقريرات ان البقاء في الدار المغصوبة منهي عنه قبل الدخول في الدار المغصوبة، مع ان البقاء مثل الخروج في كونه مقدورا عليه بالواسطة، و اذا كان

ص: 146

و من هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا و تخلّصا عن المهلكة، و أنّه إنّما يكون مطلوبا على كلّ حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، و إلّا فهو على ما هو عليه من الحرمة، و إن كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهمّ و أولى بالرعاية من تركه، لكون الغرض فيه أعظم، من ترك الاقتحام فيما يؤدّي إلى هلاك النفس، أو شرب الخمر، لئلا يقع في أشدّ

______________________________

ترك الخروج لا يصدق قبل الدخول إلّا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع و الذي يصدق لا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع هو ترك الدخول فترك البقاء قبل الدخول كذلك، فان البقاء مثل الخروج في كونه متفرعا على الدخول و انه مقدور عليه بالواسطة و لذا قال: ( (فكما يكون تركه)): أي ترك البقاء ( (مطلوبا في جميع الاوقات فكذلك الخروج مع انه مثله)): أي ان الخروج مثل البقاء ( (في الفرعية على الدخول فكما لا تكون الفرعية)) بالنسبة الى البقاء ( (مانعة عن مطلوبيته)): أي عن مطلوبية ترك البقاء ( (قبله)): أي قبل الدخول ( (و بعده)): أي و بعد الدخول.

و سيأتي منه أنه لا مانع من مطلوبية ترك البقاء بعد الدخول و ان كان متوقفا على الخروج المحرم و لو قلنا بسقوط الخطاب، و لكنا نقول ببقاء مبغوضيته و العقاب عليه.

و على كل فاذا كانت الفرعية غير مانعة عن طلب ترك البقاء و مبغوضية البقاء في جميع الاحوال ( (كذلك لن تكن)) الفرعية ( (مانعة عن مطلوبيته)): أي عن مطلوبية ترك الخروج في جميع الاحوال، غايته انه قبل الدخول خطابا و بعد الدخول مبغوضة عقابا.

نعم هنا شي ء و هو انه حيث كان البقاء الزائد اشد حرمة من الخروج لقصر زمانه فالخروج يكون اقل محذورا من البقاء الزائد، فالعقل يرشد و يحكم بلزوم فعل الخروج ارشادا الى اخف القبيحين و اقل المحذورين، و الى هذا اشار بقوله: ( (و ان كان العقل يحكم بلزومه)): أي بلزوم الخروج ( (ارشادا الى اختيار اقل المحذورين و اخف القبيحين)).

ص: 147

المحذورين منهما، فيصدق أنّه تركهما، و لو بتركه ما لو فعله لادّى لا محالة إلى أحدهما (1)، كسائر الأفعال التوليديّة، حيث يكون العمد

______________________________

(1) حيث ذكر في التقريرات هذا المثال مستشهدا به لاستدلاله.

و حاصل استشهاده به ان شرب الخمر منهي عنه و شرب الخمر لمعالجة المهلكة قبل الوقوع في المهلكة لا نهي فيه لانه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع و بعد الوقوع في المهلكة يكون واجبا.

و الجواب عنه: ان شرب الخمر لدفع المهلكة و العلاج به على نحوين:

الاول: ان يكون وقوعه في المهلكة لا بسوء اختياره و شربه لدفع المهلكة التي تكون لا بسوء الاختيار و ليس بمنهي عنه في حال من الأحوال.

الثاني: شرب الخمر لدفع المهلكة التي يكون الوقوع فيها بسوء اختياره، بان علم انه ان اكل هذا الشي ء مثلا يصبه داء يتوقف علاجه على شرب الخمر، فأكل ذلك الشي ء مع علمه بانه يتوقف النجاة من دائه على شرب الخمر، فإن شرب مثل هذا الخمر التي يعالج بها الداء الذي يفعله بسوء اختياره منهي عنه قبل تناول ذلك الشي ء الموجب له، و ليس النهي عنه قبل تناول ذلك الشي ء من النهي بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

و بعيد جدا ان يلتزم احد بعدم العقاب على شرب الخمر التي علم انه يضطر الى شربها عند ايقاعه نفسه باختياره فيما يتوقف معالجته على شربها، لوضوح ان ترك شرب مثل هذه الخمر مقدور له بالقدرة على ترك ذلك الشي ء، و المقدور بالواسطة كالمقدور بلا واسطة في صحة العقاب عليه و المبغوضية له، و ليس هو من الخارج عن القدرة الذي يكون النهي عنه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع كشرب الخمر التي في الصين مثلا، فان الملاك في السالبة بانتفاء الموضوع عدم كون المكلف قادرا على الفعل و الترك بالفعل.

ص: 148

.....

______________________________

و من الواضح ان المكلف قادر على شرب هذا الخمر التي يعالج بها الداء المنحصر علاجه بها بان يتناول ذلك الشي ء المسبب للداء المتوقف على شربها، و قادر على تركها بترك تناول ذلك الشي ء، و اذا كان قادرا بالفعل على الفعل و الترك صح تكليفه و توجه الخطاب اليه بالفعل و ليس خطابه من السالبة بانتفاء الموضوع.

نعم الواقع في المهلكة لا بسوء اختياره يجوز له شرب الخمر المنحصر دفع تلك المهلكة به و لكنه خارج عن الفرض، و حال شرب الخمر التي يوقع نفسه باختياره في المهلكة المتوقف دفعها عليه حال الخروج للداخل الى الدار المغصوبة بسوء اختياره.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 3 ؛ ص149

قد عرفت ايضا ان العقل بعد الدخول يرشده الى ارتكاب الخروج لكونه اخف القبيحين، و كذلك من أوقع نفسه بسوء اختياره في استعمال ما يتوقف علاجه على شرب الخمر، فانه بعد علمه بذلك و استعماله بسوء اختياره لما فيه المهلكة يرشده العقل الى شرب الخمر من باب انه اخف القبيحين، لان هلاك النفس اشد محذورا من شرب الخمر، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (و من هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا و تخلصا عن المهلكة)) في انه انما يكون مطلوبا على كل حال حيث لا يوقع نفسه باختياره في المهلكة و هو الذي اشار اليه بقوله: ( (و انه انما يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن الاضطرار اليه بسوء الاختيار)).

و اما النحو الثاني: و هو ما كان منهيا عنه و هو شرب الخمر التي اوقع المكلف نفسه باختياره فيما يتوقف علاجه به فهو باق على حرمته، و اليه اشار بقوله: ( (و إلّا فهو على ما هو عليه من الحرمة)).

و قد اشار الى انه بعد وقوعه في المهلكة باختياره يرشده العقل الى استعمال الخمر لكونه اقل القبيحين بقوله: ( (و ان كان العقل يلزمه ارشادا الى ما هو اهم و اولى بالرعاية)) و هو حفظ النفس عن الهلاك فانه اولى ( (من تركه)): أي اولى من ترك شرب الخمر.

ص: 149


1- 5. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

إليها بالعمد إلى اسبابها، و اختيار تركها بعدم العمد إلى الأسباب، و هذا يكفي في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج، و إن كان لازما عقلا للفرار عمّا هو أكثر عقوبة (1).

______________________________

و قد اشار الى ان النهي ليس بنحو السالبة بانتفاء الموضوع للمكلف قبل تناوله ما ينحصر علاجه بشرب الخمر أو يهلك باستعماله له بقوله: ( (فمن ترك الاقتحام فيما يؤدي الى هلاك النفس او شرب الخمر)) بان يترك تناول ذلك الشي ء الموجب اما للهلكة التي هي اشد المحذورين او لشرب الخمر الذي هو اقل المحذورين فيرشده العقل الى شرب الخمر ( (لئلا يقع في اشد المحذورين منهما)) فمثل هذا و هو الذي يترك الاقتحام فيما يؤدي الى احد هذين المحذورين ( (يصدق)) هذا جواب لقوله فمن ترك الاقتحام، و معناه ان التارك للاقتحام فيما يؤدي اليهما يصدق في حقه ( (انه تركهما و لو بتركه ما لو فعله لادى لا محالة الى احدهما)) فانه قبل اقتحامه يقدر على ترك الوقوع فيما يوجب له احد المحذورين، و حيث يكون قادرا على ذلك فلا مانع من توجه الخطاب اليه و لا يكون خطابه به بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

و قد عرفت انه من البعيد جدا الالتزام بعدم عقاب مثل هذا المكلف العالم بان ما يتناوله يسبب له احد المحذورين فيتناوله بسوء اختياره، فيمكن ان يكون ما استشهد به نقضا عليه ايضا لا مؤيدا لاستدلاله.

(1)

معنى الفعل التوليدي

هذا هو النقض الثاني، و حاصله: انه لو كان النهي و العقاب مختصا بالمقدور بلا واسطة لما صح النهي عن الفعل التوليدي، لانه غير مقدور بلا واسطة و انما هو من المقدور بالواسطة، و لما صح العقاب عليه مع ان صحة النهي عنه و العقاب عليه من الواضح جدا، و الفعل التوليدي هو المقدور عليه بالقدرة على سببه و لا يكون من الافعال المباشرية، فالعمد اليه و قصده بالعمد و القصد الى سببه، فمن القى شخصا في بئر يهلك من وقع فيها يكون الهلاك مسببا عن الوقوع فيها المسبب ذلك الوقوع من الالقاء فيها، فنفس الهلاك يستند الى الالقاء و الالقاء يستند الى فاعله، فالقصد

ص: 150

و لو سلّم عدم الصدق إلا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، فهو غير ضائر بعد تمكّنه من الترك- و لو على نحو هذه السالبة- و من الفعل بواسطة تمكّنه ممّا هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة، فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة، أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر و يتخلّص بالخروج، أو يختار ترك الدخول و الوقوع فيهما، لئلا يحتاج إلى التخلّص و العلاج (1).

______________________________

و العمد الى الالقاء الموجب للهلاك قصد و عمد الى الهلاك لكنه مع الواسطة لا بلا واسطة هذا، حاصل النقض.

و في قول المصنف كسائر الافعال التوليدية اشعار بكون الخروج و شرب الخمر لدفع المهلكة من الافعال التوليدية مع انهما ليسا منها بل هما من الافعال المباشرية، فان الخروج و الشرب يقومان بنفس الفاعل و لكنه يمكن ان لا يكون مراده كون الخروج و الشرب من التوليديات، بل مراده من لفظ سائر هو كل الافعال التوليدية أي ان جميع الافعال التوليدية من المقدور بالواسطة.

فان المقدور بالواسطة على نحوين: تارة يكون مباشريا كالشرب و الخروج.

و اخرى يكون توليديا كالهلاك المسبب عن الالقاء.

و غرضه ان الافعال التوليدية باجمعها و الخروج و الشرب يشتركان في انهما يمكن تركهما بترك اسبابهما، و يدل على هذا قوله في آخر الجملة: ( (و ان كان لازما عقلا)) و لو كان عنده من التوليديات لقال لازما وقوعا.

(1) قد عرفت ان الخطاب في مثل ترك الخروج بترك الدخول و ترك شرب الخمر بترك تناول ما يتوقف دفع مهلكته بشرب الخمر ليس من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، و لو سلمنا ان الخطاب فيه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع فصرف كون الخطاب بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ليس مانعا عن توجه الخطاب، بل المانع عن توجه الخطاب عدم القدرة.

ص: 151

فإن قلت: كيف يقع مثل الخروج و الشرب ممنوعا عنه شرعا و معاقبا عليه عقلا مع بقاء ما يتوقّف عليه على وجوبه، و سقوط الوجوب مع امتناع المقدّمة المنحصرة، و لو كان بسوء الاختيار، و العقل قد استقلّ بانّ الممنوع شرعا كالممتنع عادة أو عقلا (1).

______________________________

و من الواضح ان ترك شرب الخمر للعلاج و ترك الخروج مقدور بترك تناول ما يتوقف دفع مهلكته على الخمر و ترك الدخول الموجب لعدم الابتلاء بالبقاء المتوقف تركه على ترك الخروج، و المقدورية و عدم المقدورية هي السبب في توجه التكاليف لا عنوان كون الخطاب بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، و انما يقال ان التكليف غير متوجه لكونه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع لاعتقاد التلازم بين عدم المقدورية و السالبة بانتفاء الموضوع، لا أن عنوان السالبة بانتفاء الموضوع هي التي يدور مدارها توجه الخطاب، و المقدورية ثابتة بالوجدان فلا يضرنا لو سلمنا ان الخطاب بنحو السالبة بانتفاء الموضوع و لذا قال (قدس سره): ( (و لو سلّم عدم الصدق إلّا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع فهو غير ضائر بعد تمكنه من الترك و لو على نحو هذه السالبة و من الفعل بواسطة تمكنه مما هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة)) فانه من الواضح انه يتمكن ان يتناول ما يتوقف علاجه على شرب الخمر و يتمكن من الدخول للدار المتوقف ترك البقاء فيها على الخروج و يتمكن ايضا ان يترك ما يتوقف علاجه على الخمر و ان يترك الدخول لان لا يبتلي بالخروج المتوقف عليه ترك البقاء.

و بعبارة اخرى: انه يستطيع ان يجعل نفسه محتاجا الى التخلص و العلاج و يستطيع ان لا يجعل نفسه محتاجا الى التخلص و العلاج، و القدرة هي المناط في صحة توجه الخطاب لا عنوان السالبة بانتفاء الموضوع.

(1) حاصله انه قد مرّ من المصنف التصريح بان الامر بترك البقاء باق على وجوبه بعد الدخول بقوله: ( (فكما لا تكون الفرعية مانعة عن مطلوبيته)): أي مطلوبية ترك البقاء ( (قبله و بعده)): أي قبل الدخول و بعد الدخول و الأمر بحفظ النفس و دفع

ص: 152

.....

______________________________

المهلكة عنها كذلك، فالأمر بها باق قبل تناول ما يدفع مهلكته بالخمر و بعد تناول ما يدفع مهلكته بالخمر، و هو و ان لم يصرّح بالثاني إلّا انه حيث كان حفظ النفس عن المهلكة مثل ترك البقاء و شرب الخمر للعلاج مثل الخروج فلا بد و ان يكون الأمر بوجوب حفظ النفس ايضا باقيا بعد تناول ما يتوقف علاجه على شرب الخمر، و حيث التزم بان الأمر بهما باق بعد الدخول و بعد التناول توجه عليه ان قلت: و حاصله:

ان الممنوع عنه شرعا كالممتنع عقلا في عدم صحة توجه الخطاب بشي ء يتوقف عليهما، فكما لا يصح توجه الخطاب لمن القى نفسه من شاهق بعد القائه نفسه و لو بسوء اختياره بانه يجب عليك فعلا دفع هذه المهلكة، كذلك لا يجوز توجه الخطاب لمن اتلف الدابة المحللة ببقاء الأمر بالحج المتوقف على استعمال الدابة المغصوبة، مع بقاء حرمة استعمال الدابة المغصوبة على حاله.

بل لا بد عند الانحصار و لو بسوء الاختيار اما من سقوط الخطاب بالوجوب عن الواجب المتوقف وجوده على المحرم مع بقاء حرمته و مبغوضيته، و اما من سقوط الحرمة و المبغوضية عن المحرم الذي يتوقف عليه وجود ذلك الواجب، فالالتزام ببقاء التكليف بترك البقاء بعد الدخول و بقاء الأمر بحفظ النفس المتوقف على شرب الخمر بعد تناول ما يتوقف علاجه على شرب الخمر مخالف لما هو المسلم من ان الممنوع شرعا كالممتنع عقلا و ان كان الانحصار بسوء الاختيار.

و قد اشار الى امتناع التكليف مع الامتناع عقلا و انه لا بد من سقوط التكليف في تلك الحال بقوله: ( (و وضوح سقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة و لو كان بسوء الاختيار)).

و الى ان الممنوع شرعا مثل الممتنع عقلا بقوله: ( (و العقل قد استقل بان الممنوع شرعا كالممتنع عادة او عقلا)).

و الاول كبقاء التكليف بالكون على السطح مع اتلاف السلم و لو بسوء الاختيار.

ص: 153

قلت: أوّلا إنما كان الممنوع كالممتنع، إذا لم يحكم العقل بلزومه إرشادا إلى ما هو أقلّ المحذورين، و قد عرفت لزومه بحكمه، فإنّه مع لزوم الإتيان بالمقدّمة عقلا لا بأس في بقاء ذي المقدّمة على وجوبه، فإنّه حينئذ ليس من التكليف بالممتنع، كما إذا كانت المقدّمة ممتنعة (1).

______________________________

و الثاني كالأمر بالوصول الى محل يتوقف على طي المسافة بالأمر بالوصول مشروطا بعدم طيّ المسافة لاستحالة الطفرة عقلا، كأن يقول المولى لعبده ان اتلفت الدابة المحللة فيجب عليك الوصول الى مناسك الحج من دون قطع المسافة، و مثل هذين هو بقاء الخطاب بالحج مع بقاء حرمة استعمال الدابة المغصوبة على حاله و لو كان الانحصار بالدابة المغصوبة بسوء اختيار المكلف بان اتلف الدابة المحللة بسوء اختياره.

(1) توضيح هذا الجواب الاول ان المنع عن المقدمة شرعا المتوقف عليها وجود الواجب على نحوين:

فانه تارة لا يكون العقل ملزما باتيان المقدمة المحرمة كما في الاضطرار لا بسوء الاختيار، فان العقل لا يلزم باتيان المقدمة من باب اقل المحذورين، و الأمر في بقاء المقدمة على حرمتها و ارتفاع حرمتها منوط بالشارع، فانه ان كان الواجب المتوقف عليها اهم منها فلا بد من رفع حرمتها، و ان كانت حرمتها اهم فلا بد من ارتفاع وجوب الواجب المتوقف عليها.

و اخرى: كما في المقام و هو ما كان الاضطرار بسوء الاختيار فانه حيث كان للمقدمة فردان فرد ليس فيه ابتلاء بالمحرم و هو الترك بترك الدخول، و الترك بترك ما يتوقف دفع المهلكة فيه على شرب الخمر و كان النهي عنها منجزا، فاتلاف الفرد المحلل بسوء الاختيار يوجب الوقوع في احد المحذورين، و العقل يحكم بلزوم اقل المحذورين، فمع حكم العقل بلزوم اتيان هذا الفرد المحرم و هو الخروج و شرب الخمر للعلاج لا مانع من بقاء الواجب المتوقف على هذه المقدمة و هو وجوب ترك البقاء في

ص: 154

و ثانيا لو سلّم، فالساقط إنّما هو الخطاب فعلا بالبعث و الإيجاب لا لزوم إتيانه عقلا، خروجا عن عهدة ما تنجّز عليه سابقا، ضرورة أنّه لو لم يأت به لوقع في المحذور الأشدّ و نقض الغرض الأهمّ، حيث أنّه الآن كما كان عليه من الملاك و المحبوبيّة، بلا حدوث قصور أو طروّ فتور فيه أصلا، و إنّما كان سقوط الخطاب لأجل المانع، و إلزام العقل به

______________________________

الدار المغصوبة و وجوب حفظ النفس عن المهلكة، و لا يكون هذا من مورد كون الممنوع عنه شرعا كالممتنع عقلا، و الى هذا اشار بقوله: ( (فانه مع لزوم الاتيان بالمقدمة عقلا لا بأس في بقاء ذي المقدمة على وجوبه ... الى آخر كلامه)).

و لا يخفى ان هذا خلاف ما ظهر منه سابقا من كون النهي عن الخروج يسقط بمجرد الدخول و لكنه يبقى على ما هو عليه من المبغوضية و العقاب عليه، هذا اولا.

و ثانيا: انه ليس الاشكال في بقاء الواجب المتوقف على هذه المقدمة المحرمة على وجوبه من ناحية انه مع كونه واجبا لا بد و ان تكون مقدمته واجبة، و مع حرمتها لا يعقل ان تكون واجبة حتى يكون الجواب بانه في المقام لا تكون واجبة شرعا و يكتفي بامر العقل بلزوم اتيانها لأنها اخف المحذورين.

بل الاشكال هو انه مع بقاء الامر بالواجب على حاله و انحصار توقفه بالمقدمة المعاقب عليها يلزم منه اما التكليف بغير المقدور عليه شرعا لو بقى الأمر به على حاله مع العقاب على مقدمته المنحصرة، و اما ارتفاع حرمة المقدمة و هو خلاف المفروض، و اما سقوط الأمر بالواجب و هو ايضا خلاف ما قلتم من بقاء الأمر بترك البقاء بعد الدخول، لأن الغرض فيه اهم و لذلك فالاولى هو الجواب الثاني و هو قوله: ( (و ثانيا لو سلم فالساقط الخ)).

ص: 155

لذلك إرشادا كاف لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه و الإيجاب له فعلا، فتدبّر جيّدا (1).

و قد ظهر ممّا حقّقناه فساد القول بكونه مأمورا به، مع إجراء حكم

______________________________

(1) و حاصله ان الأمر بالواجب ايضا يسقط بعد الدخول كما سقط النهي عن الخروج بعد الدخول، و يبقى الحال دائرا بين المحذورين فيلزم العقل باتيان اخف المحذورين و اقل القبيحين، و هو فعل المقدمة المبغوضة الساقط الخطاب بها بعد الانحصار بسوء الاختيار لئلا يبتلى بمخالفة المحذور الاشد، و هو مخالفة الواجب الساقط الأمر به ايضا مع بقاء مخالفته على ما هي عليها من المبغوضية و العقاب، و بقاء فعله على ما هو عليه من المحبوبية و انه اهم من محذور مبغوضية مقدمته، و لذا يحكم العقل باتيان هذه المقدمة المبغوضة لانه اقل المحذورين و اخف القبيحين.

و قد اشار الى سقوط الخطاب الشرعي و بقاء الأمر العقلي بقوله: ( (فالساقط انما هو الخطاب فعلا بالبعث و الايجاب لا لزوم اتيانه عقلا)) فان الأمر العقلي بلزوم ترك البقاء و اتيان الخروج لم يسقط فيحكم العقل بذلك ( (خروجا عن عهده ما تنجز عليه سابقا)) و هو الخطاب الشرعي بترك البقاء قبل ان يدخل الدار ( (ضرورة انه لو لم يأت به)): أي بالخروج ( (لوقع في المحذور الاشد و)) لوقع في ( (نقض الغرض الاهم حيث انه الآن)): أي ترك البقاء الساقط الخطاب به بعد الدخول هو باق ( (كما كان عليه من الملاك و المحبوبية)) بعد الدخول و ان سقط الخطاب به ( (و انما كان سقوط الخطاب)) به بعد الدخول ( (لأجل المانع)) من بقاء الأمر به مع مبغوضية مقدمته و العقاب عليها ( (و الزام العقل به لذلك)): أي بالمحافظة على عدم مخالفة ترك البقاء ( (ارشادا)) الى انه اهم من اتيان المخالفة بالخروج ( (كاف)) عن الخطاب و الأمر الشرعي به ( (لا حاجة معه)): أي مع الالزام العقلي ( (الى بقاء الخطاب بالبعث اليه)): أي الى ترك البقاء ( (و الايجاب له)).

ص: 156

المعصية عليه نظرا إلى النهي السابق (1)، مع ما فيه من لزوم اتّصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب و الحرمة (2)، و لا يرتفع غائلته باختلاف

______________________________

(1) قد عرفت ان ما نسب الى الشيخ في التقريرات من كون الخروج مأمورا به و ليس بمنهي عنه قبل الدخول هو القول الثالث في عبارة المصنف المشيرة الى نقل الاقوال و لما فرغ منه شرع في ذكر القول الثاني في عبارته.

و الجواب عنه: و هو ان الخروج يقع مأمورا به بعد الدخول و يجري عليه حكم المعصية و العقاب أي يعاقب عليه لأجل النهي السابق عنه و هو ما قبل الدخول، و ان كان بعد الدخول يسقط النهي السابق و يأمر به المولى لتوقف التخلص عن البقاء عليه، فهو مع كونه مأمورا به بعد الدخول يعاقب عليه لأجل النهي السابق عنه المقدور امتثاله بترك الدخول.

و قد ظهر من الكلام مع التقريرات ان الخروج باق على ما هو عليه من المبغوضية و ان سقط عنه خطاب النهي بالدخول، و انه لا يعقل الأمر به لكونه مقدمة للواجب الذي هو ترك البقاء لعدم الأمر بعد الدخول بترك البقاء ايضا، مضافا الى ما عرفت في الهامش: من كون الخروج ليس مقدمة للتخلص و ليس هو ايضا مصداقا للتخلص الواجب كما مرّ مفصلا، و لذا قال (قدس سره): ( (و قد ظهر مما حققناه فساد القول بكونه مأمورا به)) و اما اجراء حكم المعصية عليه نظرا الى النهي السابق فهذا صحيح و هو المختار له (قدس سره).

(2) هذا ايراد آخر على هذا القول، و حاصله:

انه مع التزام هذا القائل بكون الخروج منهيا عنه قبل الدخول و مأمورا به بعد الدخول يلزمه ان يكون الخروج الذي ليس له الّا زمان واحد مأمورا به و منهيا عنه.

و بعبارة اوضح: ان الخروج عنوان لفعل ظرف زمان تحققه بعد الدخول و ليس له إلّا هذا الزمان فالنهي المتعلق به قبل الدخول هو نهي عن ايجاد الخروج في ظرف زمانه المختص به، فاذا كان هذا الفعل الذي ليس لتحققه زمان الا هذا الزمان

ص: 157

زمان التحريم و الإيجاب، قبل الدخول و بعده- كما في الفصول- مع اتّحاد زمان الفعل المتعلّق لهما، و إنّما المفيد اختلاف زمانه و لو مع اتّحاد زمانهما، و هذا أوضح من أن يخفى (1)، كيف و لازمه وقوع الخروج بعد

______________________________

مأمورا به بعد الدخول كان هذا التزاما بان الشي ء الواحد بعنوانه الخاص في زمان واحدا مأمورا به و منهيا عنه، و هذا لا يلتزم به حتى القائل بالجواز لانه من اجتماع الحكمين المتضادين في واحد بعنوان واحد له زمان واحد.

نعم لو كان للخروج زمانان لأمكن ان يكون منهيا عنه باحد الزمانين و مأمورا به بالزمان الآخر، لكنه من الواضح انه ليس للخروج إلّا زمان واحد و هو الزمان الذي له بعد الدخول، فهو قبل الدخول منهي عنه في هذا الزمان و بعد الدخول مأمور به في هذا الزمان.

(1) حاصله: ان صاحب الفصول دفع هذا الايراد بكون الخروج متعلقا للنهي و الأمر في زمانين لا في زمان واحد، فانه متعلق للنهي قبل الدخول و يكون متعلقا للأمر بعد الدخول، و من الواضح ان زمان النهي غير زمان الأمر.

و الجواب عنه: ان المفيد في رفع تضاد الحكمين المتعلقين بواحد اختلاف زمان ذلك الواحد الذي وقع متعلقا للحكمين، لا اختلاف زمان الحكمين مع وحدة زمان المتعلق لهما، فانه ان كان للمتعلق زمان واحد فالنهي المتعلق به متعلق بطلب تركه في ذلك الزمان و الأمر المتعلق به متعلق بطلب وجوده في ذلك الزمان، فيقع التضاد بينهما في طلب تركه و طلب وجوده في زمان واحد، و قد عرفت انه ليس للخروج إلّا زمان واحد.

نعم الحكمان بانفسهما أي طلب الترك و هو النهي و طلب الوجود و هو الأمر قد وقعا في زمانين لان النهي زمانه قبل الدخول و الأمر زمانه بعد الدخول، لكن المتعلق لهما و هو الخروج ليس له الّا زمان واحد، و النافع في رفع التضاد بين الحكمين المتعلقين بواحد هو اختلاف زمان ذلك الواحد الذي وقع متعلقا لهما لا اختلاف

ص: 158

الدخول عصيانا للنهي السابق، و إطاعة للأمر اللاحق فعلا، و مبغوضا و محبوبا كذلك بعنوان واحد (1)، و هذا مما لا يرضى به القائل بالجواز، فضلا عن القائل بالامتناع (2).

______________________________

زمان نفس الحكمين، فان الغالب في الحكمين الصادرين من شخص واحد هو اختلاف الزمان فيهما اذا كانا صادرين منه بتوسط انشائهما باللفظ لتدرج اللفظ في مقام الوجود، فالزمان الذي يقع فيه انشاء النهي غير الزمان الذي يقع فيه انشاء الأمر.

و الحاصل: ان المفيد في رفع التضاد بين الحكمين المتعلقين بواحد هو اختلاف زمان ذلك الواحد و ان اتحد زمان الحكمين، كما لو امر بانشاء الأمر باللفظ و نهى بانشائه بالاشارة في زمان انشاء الأمر، و لكن كان متعلق الأمر- مثلا- اكرام زيد اليوم و النهي قد تعلق بالمنع عن اكرامه في غد، و لذا قال (قدس سره): ( (انما المفيد اختلاف زمانه)):

أي زمان المتعلق ( (و لو مع اتحاد زمانهما)) أي زمان الحكمين.

(1) حاصله انه لو كان اختلاف زمان نفس الحكمين نافعا في رفع التضاد مع اتحاد زمان المتعلق لهما لجاز ان يكون الخروج المنحصر زمانه بكونه بعد الدخول مبغوضا و محبوبا: أي لازم ذلك ان يكون الخروج بما هو خروج له وجود واحد واقع في زمان واحد مبغوضا وجوده في ذلك الزمان و محبوبا وجوده في ذلك الزمان، لانه باعتبار تعلق النهي السابق به يكون مبغوضا وجوده في زمانه، و باعتبار تعلق الأمر به بعد الدخول يكون وجوده محبوبا ايضا في نفس ذلك الزمان، و المفروض انه ليس له إلّا عنوان واحد و هو كونه خروجا عن الدار المغصوبة.

(2) فان القائل بالجواز انما يرى الجواز لتعدد العنوان المتعلق للأمر و النهي لا لتعدد زمان الأمر و النهي مع وحدة العنوان المتعلق لهما و اتحاد زمانه.

ص: 159

كما لا يجدي في رفع هذه الغائلة كون النهي مطلقا و على كلّ حال و كون الأمر مشروطا بالدخول، ضرورة منافاة حرمة شي ء كذلك مع وجوبه في بعض الاحوال (1).

و أما القول بكونه مأمورا به و منهيّا عنه، ففيه- مضافا إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع فيما إذا كان بعنوانين، فضلا عمّا إذا كان بعنوان واحد كما في المقام، حيث كان الخروج بعنوانه سببا للتخلّص، و كان بغير إذن المالك، و ليس التخلص إلّا منتزعا عن ترك الحرام المسبّب عن الخروج، لا عنوانا له- أنّ الاجتماع هاهنا لو سلّم أنّه لا يكون بمحال، لتعدّد العنوان، و كونه مجديا في رفع غائلة التضادّ، كان محالا، لأجل كونه طلب المحال، حيث لا مندوحة هنا، و ذلك لضرورة عدم صحّة

______________________________

(1) حاصله: انه مع وحدة المتعلق و وحدة زمانه لا يعقل ان يكون متعلقا للأمر و النهي مع اختلاف زمانهما فان تعدد زمانهما لا يرفع غائلة اجتماع الحكمين المتضادين، و كما ان اختلاف زمانهما لا يرفع الغائلة كذلك اختلاف المتعلق من حيث الاطلاق و التقييد ايضا لا يرفع الغائلة: بان يلتزم بان متعلق النهي هو الخروج مطلقا و في أي حال قبل الدخول و بعد الدخول، و متعلق الأمر هو الخروج المشروط بكونه بعد الدخول أي المتقيد بكونه بعد الدخول، فان الخروج المتعلق للنهي المطلق الشامل لتركه قبل الدخول و لو بترك الدخول و لتركه بعد الدخول لا يعقل ان يجتمع هذا النهي المطلق مع فرض بقاء الاطلاق فيه بحاله مع الأمر بالخروج بعد الدخول، لوضوح وقوع التضاد و المنافاة بين النهي المتعلق بشي ء واحد في جميع احواله، و بين الأمر بذلك الواحد في بعض احواله، فان ذلك البعض يكون مجمعا للأمر و النهي المفروض تعلقهما بواحد بعنوان واحد و الى هذا اشار بقوله: ( (ضرورة منافاة حرمة شي ء كذلك)): أي حرمة مطلقة شاملة لجميع احواله ( (مع وجوبه)): أي مع وجوب ذلك الواحد ( (في بعض الاحوال)).

ص: 160

تعلّق الطلب و البعث حقيقة بما هو واجب أو ممتنع و لو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار (1).

______________________________

(1)

مختار المحقق القمي و ردّه

هذا هو القول الرابع في هذا المقام و حاصله:

ان الخروج يقع منهيا عنه لكونه تصرفا في ملك الغير بغير اذنه، و يقع مأمورا به لانطباق عنوان التخلص عليه و هو احد موارد اجتماع الأمر و النهي، فالقائل بجواز اجتماعهما يقول به في المقام.

و قد اورد عليه المصنف بايرادات ثلاثة اشار اليها في المتن:

الاول: ما اشار اليه بقوله ( (ففيه مضافا الى ما عرفت)). و حاصله: ان هذا يتم بناء على القول بالجواز و اما على القول بالامتناع فلا يتم.

الثاني: ما اشار اليه بقوله: ( (فضلا عما اذا كان)). و حاصله ان القول بالجواز انما يصح فيما اذا كان المتعلق للأمر عنوانا غير العنوان المتعلق للنهي، و يجتمع هذان العنوانان في وجود واحد، فيكون ذلك الواحد اثنين للحيثيتين التقييديتين كالحركة في الدار المتقيدة بحيثية كونها صلاة و المتقيدة بحيثية كونها غصبا، لا ما اذا كان احد العنوانين فقط حيثية تعليلية كما في المقام، فان التصرف الغصبي و ان كان حيثية تقييدية لكون عنوان الخروج منهيا عنه لعنوان الغصب، الّا ان التخلص حيثية تعليلية للأمر لما عرفت في مقدمة الواجب ان الواجب ذات ما هو مقدمة لا عنوان المقدمية، فعنوان المقدمة حيثية تعليلية لأن تكون ذات ما هو مقدمة واجبة فيكون ذات الخروج مأمورا به لكونه مقدمة للتخلص عن البقاء، فيكون المقام كاجتماع الأمر و النهي في واحد بعنوان واحد و هذا مراده من قوله: ( (فضلا عما اذا كان بعنوان واحد كما في المقام حيث كان الخروج بعنوانه)): أي بعنوان كونه خروجا ( (سببا للتخلص)) و قد عرفت ان المقدمة حيثية تعليلية ( (و كان)) الخروج بعنوان كونه خروجا تصرفا ( (بغير اذن المالك)).

ص: 161

.....

______________________________

و لا ينبغي ان يتوهم احد ان التخلص بنفسه عنوان واجب و مصداقه نفس الخروج و ليس الخروج مأمورا به لكونه مقدمة، فانك قد عرفت بطلان هذا التوهم لان التخلص الذي هو الواجب هو ترك الحرام أي ترك التصرف في الغصب، و ترك التصرف في الغصب هو عنوان منتزع عن الكون في خارج الدار المغصوبة، و الخروج غاية ما يمكن ان يتوهم فيه انه سبب لهذا التخلص، فاذا كان واجبا فوجوبه لكونه مقدمة و سببا للواجب النفسي لا انه بنفسه مصداق للواجب، النفسي و لذا قال (قدس سره): ( (و ليس التخلص الّا منتزعا عن ترك الحرام المسبب عن الخروج لا عنوانا له)): أي انه ليس التخلص عنوانا لنفس الخروج.

فاتضح مما ذكره: ان الخروج يقع مأمورا به لحيثية تعليلية فيكون كاجتماع الأمر و النهي في واحد بعنوان واحد.

الثالث: ما اشار اليه بقوله: ( (ان الاجتماع ... الخ)). و حاصله:

انه لو سلمنا ان المورد من باب اجتماع العنوانين التقييديين على مورد واحد كاجتماع عنوان الصلاة و الغصب في الكون في الدار، و ان الخروج قد اجتمع فيه عنوان المقدميّة و الغصبيّة، لكنه مع ذلك لا يكون من مسألة باب الاجتماع الموجبة لان يكون النزاع فيها ذا ثمرة، فان مسألة باب الاجتماع و ان قلنا فيما مر انه لا دخالة لقيد المندوحة فيما هو المهم في النزاع من التضاد بين الحكمين الموجب لكونها من التكليف المحال بناء على الامتناع.

فانه بناء على الجواز و ان لم يكن اجتماع الحكمين من اجتماع المتضادين الموجب للتكليف المحال، لكنه انما يجوز اجتماع الأمر و النهي في واحد بعنوانين بحيث يكون كلا الحكمين فعليين، و خطاب كل واحد منهما من الخطاب الفعلي المنجز حيث تكون المندوحة، لانه حيث لا مندوحة يكون اجتماعهما موجبا للتكليف بالمحال، لانه من الضروري اشتراط القدرة في امتثال التكاليف بحيث يكون التكليفان خطابين فعليين.

ص: 162

.....

______________________________

و من الواضح انه مع اجتماع الأمر و النهي في واحد حيث لا مندوحة على امتثال الأمر في فرد غير الفرد المبتلى بالنهي لا قدرة للمكلف على امتثالهما، فيكون اجتماع الخطابين امرا و نهيا في واحد لا مندوحة فيه موجبا للتكليف بالمحال، اذ لا قدرة للمكلف على امتثالهما، و ان لم يكن اجتماعهما بناء على الجواز من التكليف المحال لعدم التضاد بين الحكمين، لأن تعدد العنوان يقتضي تعدد المعنون فلا يكون اجتماعهما مما يوجب اجتماع الضدين و هو التكليف المحال إلّا انه يوجب تكليف العبد بما لا قدرة على امتثاله و هو التكليف بالمحال.

و لا يخفى انه لا يفرق في التكليف بالمحال من ناحية اشتراط فعلية التكاليف بالقدرة كون ذلك بسوء الاختيار او لا بسوء الاختيار، فانه لا يصح الخطاب من المولى حيث لا قدرة للمكلف على الامتثال، و ان كان السبب في عدم قدرته هو سوء اختياره.

و انما الفرق بينهما في صحة العقاب حيث يكون رفع القدرة بسوء اختياره و عدم صحة العقاب فيما كان ارتفاع القدرة لا بسوء اختياره.

و اما من ناحية عدم فعلية التكليف و سقوطه حيث لا قدرة فلا فرق بينهما اصلا، اذ الأمر و النهي بداعي جعل الداعي و مع ضرورة تحقق الشي ء لا وجه للأمر به و النهي عنه.

و الحاصل: ان اجتماعهما بناء على الجواز لا يوجب اجتماع الضدين لان تعدد العنوان يكشف عن تعدد المعنون، فيكون هذا الواحد الذي هو مورد اجتماعهما اثنين في الخارج لا واحدا، لكن حيث لا مندوحة فيه يوجب ان يكون من اجتماع تكليفين لا قدرة على امتثالهما و هذا مما لا يجوز على مذهب العدلية، و هذا هو مراده بقوله: ( (ان الاجتماع هاهنا لو سلم انه لا يكون بمحال)): أي ليس من التكليف المحال و ليس من اجتماع الضدين ( (لتعدد العنوان و كونه مجديا)): أي كون تعدد العنوان لكشفه عن تعدد المعنون مجديا ( (في رفع غائلة التضاد)) بين الحكمين المجتمعين في ذلك المورد الواحد إلّا انه ( (كان)) اجتماعهما ( (محالا لأجل كونه طلب

ص: 163

و ما قيل: ( (أن الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار)) (1) إنما هو في قبال استدلال الأشاعرة للقول بأن الأفعال غير اختيارية، بقضية ( (أن الشي ء ما لم يجب لم يوجد)) (2).

______________________________

المحال)): أي يكون من التكليف بالمحال ( (حيث لا مندوحة هنا)) لأن الخروج الذي هو المنهي عنه للغصب قد انحصرت به المقدمية للتخلص و لا فرد للمقدمية غيره بعد الدخول، فاذا امر به للمقدمية كان قد اجتمع الأمر و النهي فيما لا مندوحة فيه.

ثم اشار (قدس سره) الى ان اشتراط فعلية الخطاب بالقدرة لا يرتبط بسوء الاختيار و عدم سوء الاختيار، و انه لا بد من سقوط الخطاب حيث لا قدرة و ان كان السبب في ارتفاع القدرة سوء الاختيار بقوله: ( (و ذلك لضرورة عدم صحة تعلق الطلب ...

الى آخر كلامه)).

(1) و حاصله انه لا ينبغي ان يتوهم احد ان ارتفاع القدرة اذا كان بسوء الاختيار لا يوجب سقوط الخطاب، لان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

و توضيح هذا التوهم: انه لا اشكال في كون القدرة شرطا في فعلية التكاليف ابتداء، و لكن اذا كان ارتفاعها بسوء اختيار المكلف و هو الذي جعل هذا الامتثال ممتنعا بواسطة سوء اختياره فهو بنفسه رفع القدرة على الامتثال و جعل المورد المقدور غير مقدور، فان مثل هذا لا يوجب سقوط الخطاب لان جعل الشي ء ممتنعا بالاختيار لا ينافي الاختيار الذي هو شرط في الخطاب ابتداء، و لذا اشتهر عن العدلية ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

(2) هذا جواب ما قيل، و ايضاح الجواب عن هذا التوهم:

ان هنا ضرورتين ضرورة سابقة و ضرورة لا حقة.

و توضيح ذلك: ان الممكن لا يمكن ان يوجد إلّا اذا كان وجوده ضروري التحقق أي انه ما لم يكن وجوده لازما و ضروريا من ناحية علته لا يعقل ان يوجد، لأنه ما لم تتم علته لا يخرج من كتم العدم الى حيز الوجود، و مع تمام علته يجب ان يوجد

ص: 164

.....

______________________________

و إلّا لتخلف المعلول عن علته التامة، و اذا لم تتم علته يكون ممتنعا و لا يعقل ان يوجد و إلّا لجاز ان يوجد من غير علة، و لذا قالوا: ان الممكن ما لم يجب لم يوجد، و هذا الوجوب لا ينافي امكانه بالنسبة الى ذاته، و انه من قبل ذاته مسلوب الضرورة عن الطرفين و يجب من ناحية تمام علته، و الوجوب الآتي له من ناحية العلة لا ينافي عدم ضرورته و عدم وجوبه من ناحية ذاته.

و لا يخفى ان فعل الفاعل المختار من جملة اجزاء علته ارادة الفاعل له، فما لم تتم ارادة الفاعل له التي هي الجزء الاخير من العلة للفعل الممكن لا يوجد الفعل في الخارج و يكون وجوده ممتنعا، فبفعل الفاعل بارادته يكون وجود الفعل واجبا و بعدم ارادته له يكون وجود الفعل ممتنعا.

و الاشاعرة القائلون بالجبر المنكرون لاختيارية الافعال يقولون ان الممكن دائما اما واجب او ممتنع، لانه اذا تمت علته كان واجبا و ان لم تتم كان ممتنعا فكيف يكون الاختيار شرطا في الافعال و التكاليف؟ فان الفاعل اذا اراد الفعل صار الفعل واجبا لتمام علته و ان لم يرده صار ممتنعا، و مع وجوبه أو امتناعه لا يكون اختياريا فلا معنى لاشتراط الاختيار في التكليف.

و يجيب العدلية عن هذا الاشكال بان الوجوب الآتي للفعل الممكن من ناحية الارادة، و الامتناع الآتي للفعل من ناحية عدم الارادة لا ينافي اشتراط التكاليف بالاختيار، بل يؤكد اختيارية الفعل و ان الفاعل ان شاء فعل و ان لم يشأ لم يفعل، و ليس الاختيار الذي هو شرط للتكاليف إلّا كون الفاعل يستطيع ان يفعل بان يريد الفعل و يستطيع ان لا يفعل بان لا يريد الفعل، و هذا الوجوب و الامتناع الآتي من قبل الارادة و عدم الارادة لا ينافي الارادة و كونها شرطا في التكاليف، بل يؤكد الاختيارية في الفعل، فان الفاعل الذي يستطيع ان يجعل الفعل واجب التحقق بارادته له و يستطيع ان يجعله ممتنع التحقق بعدم ارادته له مما يدل و يؤكد ان امر تحقق ذلك الفعل و عدم تحققه منوطة بقدرته و اشاءته، فاختياره للفعل هو الذي يجعل

ص: 165

.....

______________________________

الفعل واجبا و عدم اختياره له هو الذي يجعله ممتنعا، فهذا الوجوب و الامتناع لا ينافي اختيارية الفاعل للفعل، بل هما مؤكدان لاختياريته، و لذلك قالوا: ان الامتناع و الايجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار.

و اتضح مما ذكرنا: ان مورد هذه القاعدة هو الوجوب و الامتناع الآتي للشي ء من ناحية علته.

فهذه القاعدة المسلمة عند العدلية موردها هي ضرورة المعلول بشرط العلة و هي المسماة بالضرورة السابقة لانه يقال وجب فوجد.

و هناك ضرورة اخرى و هي الضرورة اللاحقة و هي الضرورة بشرط المحمول اللاحقة للموجود و المعدوم، فان الممكن الموجود بشرط كونه موجودا ضروري الوجود و الممكن المعدوم بشرط كونه معدوما ضروري العدم، فانه من الواضح ان الموجود بما هو موجود ثبوت الوجود له ضروري، و المعدوم بما هو معدوم ثبوت العدم له ضروري، و هذه الضرورة تسمى الضرورة اللاحقة و الضرورة بشرط المحمول.

و قضية سقوط الخطاب بالأمر او بالنهي مع ضرورة تحقق الفعل المأمور به او المنهي عنه مربوط بهذه الضرورة الثانية التي هي الضرورة بشرط المحمول، لوضوح انه مع كون الفعل ضروري التحقق لا معنى للأمر به أو للنهي عنه، و لذلك يسقط الخطاب بالاضطرار و ان كان الاضطرار بسوء الاختيار، إذ طلب ما لا بد من حصوله لا معنى لجعل الداعي لحصوله و هو كطلب الحاصل و كذلك النهي عنه ايضا لا معنى له، اذ مع الاضطرار و لزوم تحققه لا معنى لجعل الداعي لعدم تحققه.

فاتضح مما ذكرنا: ان قولهم ان الايجاب و الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، ليس معناه ان من رفع قدرته و اختياره باختياره يجوز خطابه و تكليفه بالفعل و ان كان لا اختيار له بالفعل و مضطرا لأن الفعل ذلك الفعل، بل مرادهم ان كون الفعل

ص: 166

فانقدح بذلك فساد الاستدلال لهذا القول: بأن الأمر بالتخلص و النهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما و لا موجب للتقييد عقلا، لعدم استحالة كون الخروج واجبا و حراما باعتبارين مختلفين، إذ منشأ الاستحالة إما لزوم اجتماع الضدين و هو غير لازم، مع تعدد الجهة، و إما لزوم التكليف بما لا يطاق و هو ليس بمحال إذا كان مسببا عن سوء الاختيار (1)، و ذلك لما عرفت من ثبوت الموجب للتقييد عقلا و لو كانا

______________________________

واجبا أو ممتنعا باختياره لا ينافي كون ذلك الفعل اختياريا و ان الاختيار من شرائط التكاليف.

(1) استدل القائل بالقول الرابع- و هو كون الخروج منهيا عنه و مأمورا به- ان دليل الغصب المنطبق على الخروج لكونه تصرفا بغير اذن المالك، و دليل المقدمية المنطبق عليه ايضا لكونه يتوقف عليه التخلص الواجب يجب اعمالهما، و لا يمنع من اعمالهما معا لكونهما منطبقين على واحد لا مندوحة فيه، لان المانع من ذلك اما اجتماع الضدين لتضاد الاحكام او التكليف بما لا يطاق لعدم المندوحة و كلاهما ليسا بمانعين.

اما اجتماع الحكمين في واحد فلا يمنع لانهما بعنوانين، فان النهي بعنوان الغصب و الأمر بعنوان المقدمية، و تعدد العنوان كاشف عن تعدد المعنون، فهذا الواحد اثنان عند التحقيق و ليس بواحد.

و اما التكليف بما لا يطاق فلا يمنع ايضا لان السبب في هذا التكليف الذي لا يطاق هو سوء اختيار المكلف، و حيث كان اجتماعهما الموجب للتكليف بما لا يطاق في المقام هو سوء اختياره فلا تقع تبعة هذا الاجتماع على الشارع، و انما تقع تبعته على المكلف لانه هو السبب و بسوء اختياره جمع بينهما، و لذا لو كان الاضطرار لا بسوء الاختيار لما وقع الخروج الا مأمورا به فقط.

ص: 167

بعنوانين، و أن اجتماع الضدين لازم و لو مع تعدد الجهة، مع عدم تعددها هاهنا، و التكليف بما لا يطاق محال على كل حال. نعم لو كان بسوء الاختيار لا يسقط العقاب بسقوط التكليف بالتحريم أو الإيجاب (1).

______________________________

فدليل الغصب و دليل المقدمية دليلان و كل دليلين وردا من الشارع يجب العمل بهما معا، إلّا ان يمنع من العمل بهما مانع يوجب تقييد احدهما بالآخر، و قد عرفت انه لا مانع من العمل بهما معا فيقع الخروج مأمورا به و منهيا عنه.

(1) هذا هو وجه فساد هذا الاستدلال و قد مر تفصيله، فاشار إلى ذلك اجمالا و قد اشار اولا إلى ان هذين الدليلين يجب تقييدهما و لا يجوز اعمالهما معا حتى لو قلنا بجواز الاجتماع، لأن المورد لا مندوحة فيه بقوله: ( (لما عرفت من ثبوت الموجب للتقييد عقلا و لو كان بعنوانين)) لعدم المندوحة، و اشار الى وجه فساده.

و ثانيا لان البرهان قد قام على الامتناع و ان تعدد العنوان غير كاشف عن تعدد المعنون و ان الواحد بعنوانين كالواحد بعنوان واحد، مضافا الى ان الغصب و المقدمية لم يجتمعا في الخروج بعنوانين، بل بعنوان واحد لان الحيثية فيها تعليلية لا تقييدية بقوله: ( (و ان اجتماع الضدين لازم و لو مع تعدد الجهة)) و الى الاضافة بقوله: ( (مع عدم تعددها هاهنا)).

و قد اشار ثالثا الى ان سوء الاختيار لا يمنع عن قبح التكليف و الخطاب بما لا يطاق، و لا بد من سقوط التكليف عند الاضطرار سواء كان بسوء الاختيار او لا بسوء الاختيار.

و انما الفرق بينهما في صحة العقاب لا في صحة الخطاب، فانه مع الاضطرار بسوء الاختيار يصح العقاب و ان سقط الخطاب بالتكليف عند الاضطرار، و اذا كان الاضطرار لا بسوء الاختيار يسقط الخطاب و يسقط العقاب معا بقوله: ( (و التكليف بما لا يطاق محال على كل حال نعم لو كان بسوء الاختيار لا يسقط العقاب بسقوط التكليف)): أي مع الاضطرار بسوء الاختيار لا يصاحب سقوط التكليف سقوط

ص: 168

ثم لا يخفى أنه لا إشكال في صحة الصلاة مطلقا في الدار المغصوبة، على القول بالاجتماع. و أما على القول بالامتناع، فكذلك مع الاضطرار إلى الغصب لا بسوء الاختيار أو معه و لكنها وقعت في حال الخروج، على القول بكونه مأمورا به بدون إجراء حكم المعصية عليه، أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت (1).

______________________________

العقاب، فان المضطر الى ترك الواجب او فعل الحرام بسوء اختياره يسقط خطابه و لا يسقط العقاب عنه.

(1)

ثمرة المسألة

لا يخفى انه كان الكلام في الخروج من حيث كونه منهيا عنه للغصب او مأمورا به لانه مقدمة للتخلص الواجب.

و في قوله: ثم لا يخفى يريد ان يستعرض حكم الصلاة الواقعة في حال الخروج.

و حاصله: انه بناء على جواز اجتماع الأمر و النهي بعنوانين لا مانع من صحة الصلاة في حال الخروج، لانه اذا كانت الصلاة الواقعة في حال الدخول و البقاء صحيحة بناء على جواز الاجتماع فلا يعقل ان يكون الخروج اشد منهما ان لم يكن اخف حالا منها، لوجود ملاك المقدمية فيه و لو للملازم للواجب، و لذا قال (قدس سره): ( (لا اشكال في صحة الصلاة مطلقا)): أي دخولا و بقاء و خروجا سواء كان بسوء الاختيار او لا بسوء الاختيار.

و اما بناء على الامتناع، فان كان كونه في الدار المغصوبة وقع منه بالاضطرار بان قسر على ذلك فلا اشكال في صحة صلاته دخولا و بقاء و خروجا لان المانع من صحة الصلاة هو النهي، و مع الاضطرار لا بسوء الاختيار يسقط النهي و لا يكون التصرف في ملك الغير بغير إذنه مبغوضا من المكلف، حيث كان تصرفه لا بسوء اختياره بل بالقسر و الاضطرار، و اذا لم يكن الكون في الدار مبغوضا فلا مانع من تأثير ملاك الأمر بالصلاة في تلك الحال لما مر مفصلا ان المتزاحمين اذا سقط احدهما عن التأثير لا مانع من تأثير الآخر، و لذا قال (قدس سره): ( (و اما على القول بالامتناع

ص: 169

أما الصلاة في سعة الوقت فالصحة و عدمها مبنيان على عدم اقتضاء الأمر بالشي ء للنهي عن الضد و اقتضائه فإن الصلاة في الدار المغصوبة و إن كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة، إلا أنه لا شبهة في أن الصلاة في غيرها تضادها، بناء على أنه لا يبقي مجال مع إحداهما للاخرى، مع كونها أهم منها، لخلوها من المنقصة الناشئة من قبل اتحادها مع الغصب، لكنه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه،

______________________________

فكذلك)): أي تصح مطلقا دخولا و بقاء و خروجا ( (مع الاضطرار الى الغصب لا بسوء الاختيار)) و اما بناء على الامتناع و قد دخل الدار بسوء اختياره، فلا اشكال في عدم صحة الصلاة في حال الدخول و البقاء لمبغوضية الدخول و البقاء، و المبغوض لا يصلح ان يكون مقربا و قد مر تفصيل ذلك فيما تقدم.

و اما الصلاة الواقعة في حال الخروج فبناء على كون الخروج- و ان كان الدخول بسوء الاختيار- يقع مأمورا به، لكونه مقدمة للتخلص او مصداقا له كما عن التقريرات و لا نهي فيه لا قبل الدخول و لا بعد الدخول، فلا مانع من صحة الصلاة الواقعة فيه، و لذا قال (قدس سره): ( (أو معه)): أي أو مع سوء الاختيار في التصرف بالدار المغصوبة دخولا ( (و لكنها)): أي ان الصلاة لم تقع في حال الدخول و البقاء ( (و لكنها وقعت في حال الخروج)) فانها تقع صحيحة بناء ( (على القول بكونه)):

أي الخروج و لو كان الدخول بسوء الاختيار يقع ( (مأمورا به بدون اجراء حكم المعصية عليه)) و يمكن ايضا مع القول بالامتناع تقع الصلاة حال الخروج صحيحة اذا كان ملاك الأمر غالبا على ملاك النهي، و لا اشكال في تحققه في ضيق الوقت و لذلك قام الاجماع على وقوع الصلاة صحيحة في حال الخروج عند ضيق الوقت عن ادائها الا في تلك الحال و ان كان الدخول بسوء الاختيار، و الى هذا اشار بقوله: ( (أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت)).

ص: 170

فالصلاة في الغصب اختيارا في سعة الوقت صحيحة، و إن لم تكن مأمورا بها (1).

______________________________

(1) أي الصلاة في حال الخروج في سعة الوقت، و تقريب مرامه (قدس سره):

ان من قيام الاجماع على صحة الصلاة في ضيق الوقت في حال الخروج يستكشف منه ان ملاك الأمر الصلاتي في حال الخروج غالب على ملاك النهي الغصبي في حال الخروج، و لا خصوصية لضيق الوقت، بان نقول انه اذا كان النهي عن الخروج قبل الدخول متوجها في حال ما قبل الدخول و لذلك لا يمكن ان يكون مأمورا به لكونه مصداقا للتخلص او مقدمة له لمبغوضيته، و لا فرق بين هذا الأمر و الأمر الصلاتي في ضيق الوقت لان المبغوض لا يعقل ان يكون مقربا، فقيام الاجتماع على الصحة في حال الخروج عند الضيق يكشف ان ملاك الأمر الصلاتي غالب على ملاك النهي الغصبي فيما اذا وقعت الصلاة في حال الخروج، و لا خصوصية لضيق الوقت لان الخروج لو كان منهيا عنه قبل الدخول فلا يجعله ضيق الوقت مأمورا به، اذ لا يعقل ان يختلف حال الخروج بالنهي عنه قبل الدخول و الأمر به بعد الدخول، لما عرفت من انه ما ليس له إلّا زمان واحد لا يعقل ان يكون منهيا عنه في وقت و مأمورا به في وقت آخر، فلا بد و ان لا يكون الخروج منهيا عنه قبل الدخول الكاشف عنه قيام الاجماع على صحة الصلاة عند ضيق الوقت، و بعد انكشاف غلبة ملاك الأمر على ملاك النهي فلا مانع من القول بصحة الصلاة في حال سعة الوقت ايضا و ما يتوهم ان يكون مانعا هو ان يقال: بان الصلاة لاتحادها مع الغصب فهي مبتلية بالحزازة و المنقصة و الصلاة في خارج الدار المغصوبة غير مبتلية بهذه المنقصة.

و لا اشكال ان الصلاة المبتلية بالمنقصة غير الصلاة غير المبتلية بالمنقصة، و مع استيفاء الصلاة المبتلية بالحزازة الغصبية لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة الصلاتية غير المبتلية بالغصب، فيقع التضاد بين الفرد الصلاتي الواقع في الغصب و الفرد الصلاتي غير الواقع مع الغصب.

ص: 171

.....

______________________________

و لا شبهة ايضا ان الفرد غير المبتلى بالغصب اهم من الفرد المبتلى بالحزازة الغصبية فيتوجه الأمر الى الاهم و يختص به، و حيث ان الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده الخاص فالصلاة في حال الخروج في سعة الوقت تكون منهيا عنها، و مع النهي عنها لا يعقل ان تكون مقربة و اذا لم تصلح للمقربية لا يعقل وقوعها صحيحة.

و قد عرفت- فيما مر- ان الأمر بالشي ء لا يقتضي النهي عن ضده الخاص، فلا وجه لهذا المانع.

نعم هي لأجل ملازمتها لترك الاهم لا تكون مأمورا بها و لكنها باقية على ما هي عليه من الملاك و المحبوبية، فتقع صحيحة بقصد ملاكها و محبوبيتها كما مر ذلك مفصلا.

و حيث بنى المصنف على كاشفية الاجماع عن غلبة ملاك الأمر الصلاتي حال الخروج على ملاك الغصب و انه لا خصوصية لضيق الوقت في ذلك و كان هذا عنده (قدس سره) مفروغا عنه- جعل صحة الصلاة في حال الخروج في سعة الوقت و عدم صحتها مبنيا على عدم اقتضاء الأمر بالشي ء للنهي عن ضده و اقتضائه للنهي عنه، فلذا قال (قدس سره): ( (اما الصلاة فيها)): أي في حال الخروج ( (في سعة الوقت فالصحة و عدمها مبنيان على عدم اقتضاء الأمر بالشي ء للنهي عن الضد و اقتضائه)) و قد اشار الى استكشاف ان المصلحة الصلاتية غالبة على المفسدة الغصبية بقوله:

( (فان الصلاة في الدار المغصوبة)) في حال الخروج ( (و ان كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة)).

و قد اشار الى وقوع التضاد بين الفرد الصلاتي المبتلى بالغصب و الفرد الصلاتي غير المبتلى بالغصب، لانه مع استيفاء الفرد المبتلى بالغصب لا يبقى محال لاستيفاء الفرد غير المبتلى بالغصب، و وضوح ان الفرد غير المبتلى بالغصب اهم من الفرد المبتلي بالغصب بقوله: ( (إلّا انه لا شبهة في ان الصلاة في غيرها تضادها بناء على انه

ص: 172

الأمر الثاني: قد مر في بعض المقدمات أنه لا تعارض بين مثل خطاب ( (صل)) و خطاب ( (لا تغصب)) على الامتناع، تعارض الدليلين (1) بما

______________________________

لا يبقى مجال مع احدهما للأخرى مع كونها اهم منها لخلوها من المنقصة الناشئة من قبل اتحادها مع الغصب)).

و قد اشار الى انه مع القول بعدم اقتضاء الأمر بالشي ء للنهي عن ضده لا بد من القول بصحة الصلاة حال الخروج في سعة الوقت ايضا، و لكنها لا بقصد امرها بل بقصد ملاكها و محبوبيتها بقوله: ( (لكنه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه فالصلاة في سعة الوقت صحيحة و ان لم تكن مأمورا بها)).

هذا غاية ما يمكن في تقريب مختار المصنف في صحة الصلاة في حال الخروج في سعة الوقت ايضا، و لكنه يمكن ان يقال ان الاجماع على الصحة في حال الضيق لا يكشف عن غلبة ملاك الأمر الصلاتي على ملاك الغصب مطلقا و لو في حال السعة، بل ما يستكشف منه هو كون مصلحة الصلاة مقدمة على مفسدة الغصب حيث تفوت الصلاة رأسا، و انما تفوت الصلاة رأسا في ضيق الوقت لا في السعة.

نعم لازم ذلك انه عند الضيق يسقط النهي عن الخروج قبل الدخول فلا يكون الخروج قبل الدخول منهيا عنه قبل الدخول عند ضيق الوقت، هذا مضافا الى ان الصلاة اذا كانت مصلحتها غالبة على مفسدة الخروج لا يكون الفرد المبتلى بالغصب ضدا للفرد غير المبتلى بالغصب، لانه مع غلبة المصلحة الصلاتية على مفسدة الغصب لا تكون المصلحة الصلاتية ذا حزازة و منقصة و اللّه العالم.

(1)

صغروية الدليلين لكبرى التعارض أو التزاحم
اشارة

لا يخفى ان هذا يشتمل على مطالب ثلاثة:

الأول: ان مسألة باب الاجتماع ابتداء من باب التزاحم لا من باب التعارض و بيان الفرق بين البابين و قد مر هذا مفصلا في الأمر التاسع من الأمور التي ذكرها مقدمة للدخول في مسألة باب الاجتماع، و يتكفل بيان هذا المطلب هنا قوله: ( (قد مر في بعض المقدمات)) الى حد قوله ( (لا يخفى ان ترجيح)).

ص: 173

هما دليلان حاكيان، كي يقدم الأقوى منهما دلالة أو سندا، بل إنما هو من باب تزاحم المؤثرين و المقتضيين، فيقدم الغالب منهما و إن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه. هذا فيما إذا احرز الغالب منهما، و إلا كان بين الخطابين تعارض فيقدم الأقوى منهما دلالة أو سندا و بطريق الإن يحرز به أن مدلوله أقوى مقتضيا. هذا لو كان كل من الخطابين متكفلا لحكم فعلي، و إلا فلا بد من الأخذ بالمتكفل لذلك منهما لو كان، و إلا فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الاصول العملية (1).

______________________________

و الثاني: من المطالب بيان ان تخصيص الاضعف بالاقوى في باب التزاحم لا يوجب رفع اليد عن الاضعف رأسا، كما هو كذلك في باب التعارض فانه يوجب سقوط المرجوح رأسا.

نعم في باب التزاحم يتقدم الاقوى و لكن اذا حصل ما يمنع عن العمل به كعذر النسيان و الجهل لا مانع من العمل بالاضعف و يؤثر كما لو كان هذا الاضعف لا مزاحم له، و يتكفل هذا المطلب الثاني قوله: ( (ثم لا يخفى)) الى قوله ( (و قد ذكروا لترجيح النهي وجوها)) و قد مر ايضا مفصلا في الأمر العاشر.

و المطلب الثالث: ذكر الوجوه النوعية التي ذكروها لترجيح مقتضي النهي على مقتضي الأمر في هذه المسألة، يستعرضها بقوله ( (منها)).

فكان ينبغي التعرض في هذا الأمر للمطلب الثالث فقط لبناء هذا الكتاب على الاختصار. و على كل فلا بد لشرح بعض عباراته لمزيد الايضاح.

(1)

تقريرات الشيخ الاعظم و المناقشة فيه

لا يخفى ان القدر المشترك بين باب التعارض و باب التزاحم هو عدم امكان اجتماع الحكمين الفعليين فيهما.

و يفترق باب التعارض عن باب التزاحم:

ص: 174

.....

______________________________

اولا: بعدم احراز المقتضي للحكمين في باب التعارض سواء احرز كذب احدهما ام لم يحرز، و باحراز المقتضي لكل من الحكمين في باب التزاحم.

و يتفرع على هذا ان التصادم في باب التزاحم يقع بين مقتضى الحكمين لغرض احرازهما في هذا الباب، فالتعارض في الحقيقة بينهما يبتدئ في المقتضيين لا في دليلي الحكمين بما هما دالان على الحكمين المتنافيين، و التصادم في باب التعارض يقع بين دليلي الحكمين ابتداء لعدم احراز المقتضيين في باب التعارض فتعارض باب التزاحم تعارض المقتضيين، و تعارض باب التعارض تعارض الدليلين الحاكيين عن الحكمين بما هما دليلان حاكيان عن حكمين متنافيين، فتعارض باب التزاحم ليس كتعارض باب التعارض، و لذا قال (قدس سره): ( (انه لا تعارض بين مثل خطاب صل و خطاب لا تغصب على الامتناع)) لوضوح انه على الجواز لا تعارض بينهما اصلا، لانه انما يحصل التعارض بين المقتضيين حيث يتزاحمان، و على الجواز لا تزاحم بينهما و لا مانع من تأثير كل منها، و لكن بناء على الامتناع لا يكون التعارض بين المقتضيين المتزاحمين ك ( (تعارض الدليلين بما هما دليلان حاكيان)).

و يفترق ثانيا باب التعارض عن باب التزاحم بان غلبة احد الدليلين على الآخر في باب التعارض باقوائية الدلالة و السند لانه مورد التعارض بينهما، و في باب التزاحم باقوائية المقتضى فيقدم الاقوى مقتضيا و ان كان اضعف دلالة أو سندا و لا ينظر إلى الدلالة و السند اولا.

نعم لو تساويا في ناحية المقتضي بحسب ما يدركه العقل او العرف او لم يهتد العقل او العرف الى معرفة ما هو الاقوى منهما فحينئذ ينظر الى الدلالة و السند، و يكون قوة الدلالة او السند في احدهما كاشفا إنيا عن قوة المقتضي في احدهما و إلّا فلما ذا صار الشارع بصدد ان يجعل الحكم في احدهما اظهر من الآخر دلالة او يجعله في سند اقوى من الآخر، فيحرز بطريق الإن المدلول الاقوى مقتضيا من مقتضى المدلول الآخر هذا حيث يكون المتزاحمان متكفلين للحكمين الفعليين.

ص: 175

ثم لا يخفى أن ترجيح أحد الدليلين و تخصيص الآخر به في المسألة لا يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأسا كما هو قضية التقييد و التخصيص في غيرها مما لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين، بل قضيته ليس إلا خروجه فيما كان الحكم الذي هو مفاد الآخر فعليا، و ذلك لثبوت المقتضي في كل واحد من الحكمين فيها. فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثرا لها لاضطرار أو جهل أو نسيان كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثرا لها فعلا، كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى، أو لم يكن واحد من الدليلين دالا على الفعلية أصلا.

فانقدح بذلك فساد الإشكال في صحة الصلاة في صورة الجهل أو النسيان و نحوهما فيما إذا قدم خطاب ( (لا تغصب))، كما هو الحال فيما

______________________________

و اما اذا كان احدهما متكفلا للحكم الفعلي و الآخر متكفلا للحكم الاقتضائي، فيؤخذ بالحكم الفعلي دون الحكم الاقتضائي.

و اما اذا تساويا في قوة المقتضي في كليهما او لم يحرز الاقوى منهما و تساويا في الدلالة و السند فلا بد من الرجوع الى الاصول العملية.

و الى ما قلنا اشار بقوله: ( (كي يقدم الاقوى منهما دلالة او سندا)) كما هو القاعدة في باب التعارض ( (بل انما هو من باب تزاحم المؤثرين)) لان مبدأ التعارض- اولا- في المتزاحمين هو التزاحم بين المقتضيين المؤثرين.

قوله: ( (و ان كان الدليل على مقتضى الآخر اقوى)) دلالة أو سندا ( (من دليل مقتضاه)): أي من دليل مقتضى الآخر.

قوله: ( (و إلّا كان بين الخطابين تعارض)): أي بعد ان يتساويا في المقتضي او لم يحرز ما هو الاقوى مقتضيا يعامل معهما- ثانيا- معاملة باب التعارض في الاخذ باقواهما دلالة او سندا.

قوله: ( (و إلّا فلا محيص)): أي و ان لم يحرز الغالب منهما في قوة مقتضيه.

ص: 176

إذا كان الخطابان من أول الأمر متعارضين، و لم يكونا من باب الاجتماع أصلا، و ذلك لثبوت المقتضي في هذا الباب، كما إذا لم يقع بينهما تعارض و لم يكونا متكفلين للحكم الفعلي. فيكون وزان التخصيص في مورد الاجتماع وزان التخصيص العقلي الناشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين و تأثيره فعلا، المختص بما إذا لم يمنع عن تأثيره مانع المقتضي، لصحة مورد الاجتماع مع الأمر، أو بدونه فيما كان هناك مانع عن تأثير المقتضي للنهي له أو عن فعليته، كما مر تفصيله.

و كيف كان، فلا بد في ترجيح أحد الحكمين من مرجح، و قد ذكروا لترجيح النهي وجوها (1):

______________________________

(1)

ترجيح النهي على الامر بوجوه

هذا هو المطلب الثاني في هذا الامر، و هو ان الترجيح في باب التزاحم لاحد الحكمين على الآخر لقوة مقتضية لا يوجب رفع اليد رأسا عن مقتضى الحكم الآخر و تأثيره، فيما اذا لم يؤثر مقتضى الحكم الاقوى لعذر من جهل او نسيان، بخلاف الترجيح في باب التعارض، فانه مع ترجيح احد المتعارضين على الآخر و تخصيص الاضعف بالاقوى يسقط الاضعف رأسا و لا يرجع حيا في مورد الجهل او النسيان، مثلا المتزاحمان كالغصب و الصلاة يؤثر مقتضى الصلاة فيما لو نسى المكلف او جهل بالغصبية، و المتعارضان كالظهر و الجمعة لا يؤثر مقتضى الجمعة لو نسي المكلف او جهل و أتى بالجمعة فيما اذا رجحنا أدلة الظهر على الجمعة، و لذا قال (قدس سره):

( (ان ترجيح احد الدليلين و تخصيص الآخر به في المسألة)) أي في باب التزاحم ( (لا يوجب خروج مورد الاجتماع ... الى آخر الجملة)).

قوله: ( (في غيرها مما لا يحرز فيه المقتضى)): أي في غير مسألة باب التزاحم و هو باب التعارض الذي لم يحرز فيه المقتضى لكل واحد من الحكمين.

ص: 177

.....

______________________________

قوله: ( (بل قضيته ليس إلّا خروجه)): أي بل قضية باب التزاحم ليس إلّا خروج المرجوح فيما اذا كان الحكم الآخر الراجح فعليا منجزا، و اذا لم يكن الحكم الراجح فعليا لعذر فلا مانع من تأثير مقتضى الحكم المرجوح.

قوله: ( (كما اذا لم يكن دليل الحرمة اقوى)): أي فيما اذا حصل العذر عن فعلية دليل الحرمة الذي هو الاقوى يكون حال هذا الدليل الاقوى حاله فيما اذا كان هو الاضعف و كان دليل الصلاة اقوى او حاله فيما اذا كانا متساويين و حصل المانع عن فعلية تأثير مقتضى الحرمة او حاله فيما اذا كان حكم دليل الحرمة اقتضائيا و حكم دليل الصلاة فعليا.

قوله: ( (كما هو الحال فيما اذا كان الخطابان من اول الأمر متعارضين و لم يكونا من باب الاجتماع)) كما في الظهر و الجمعة مثلا، فانه مع ترجيح احدهما يسقط الآخر و لا يؤثر في مورد العذر من الجهل أو النسيان، بخلاف الغصب و الصلاة مثلا.

قوله: ( (و ذلك لثبوت المقتضى في هذا الباب)): أي السبب في هذا الفرق بين باب التزاحم و باب التعارض هو ثبوت المقتضى لكل من الحكمين في هذا الباب الذي هو باب التزاحم دون باب التعارض فانه فيما اذا لم يحرز المقتضى لكل من الحكمين سواء احرز كذب احدهما او لم يحرز.

قوله: ( (كما اذا لم يقع بينهما تعارض و لم يكونا متكفلين للحكم الفعلي)): أي ان هذا المقتضى المغلوب في باب التزاحم فيما اذا حصل مانع عن فعلية المقتضى الغالب في مقام التأثير يكون هذا المغلوب مؤثرا، كما اذا لم يزاحمه المقتضى الاقوى منه او كان المقتضى الاقوى متكفلا لحكم اقتضائي.

قوله: ( (مع الأمر او بدونه)) قد مر وجوه في الأمر العاشر لتصحيح قصد الأمر في مورد الاجتماع للمقتضى الاضعف فيما اذا حصل من تأثير الاقوى، بعضها لقصد الأمر و اتيانه بقصد امتثال امره، و بعضها لاتيانه بقصد الملاك و المحبوبية فراجع.

ص: 178

منها: إنه أقوى دلالة، لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد، بخلاف الأمر (1).

و قد اورد عليه بأن ذلك فيه من جهة إطلاق متعلقه بقرينة الحكمة، كدلالة الأمر على الاجتزاء بأي فرد كان (2).

______________________________

(1) لا يخفى ان هذا المرجح من المرجحات الدلالية، و هي انما تكون فيما لم يحرز قوة المقتضي.

و على كل فحاصل هذا المرجح: ان النهي المتعلق بعنوان اذا اجتمع مع العنوان المتعلق به الأمر في مورد واحد- بناء على الامتناع- فالنهي يترجح على الأمر، لأن النهي المتعلق بالماهية لا بشرط يدل على استيعاب النهي لجميع افراد هذه الماهية، بخلاف الأمر المتعلق بالماهية لا بشرط فانه يكتفى في امتثاله بفرد من افراد الماهية، فالنهي يدل على انتفاء جميع افراد ماهية المتعلق، و لا دلالة للأمر كذلك، و انما لازم الامر الاكتفاء بفرد من افرادها.

و بعبارة اخرى: ان النهي يدل على ان امتثاله يتوقف على ترك جميع الافراد و كل فرد لا يخلو عن مخالفة لو عصى النهي، بخلاف الأمر فانه حيث يدل على ان امتثاله يكون بفرد من افراد الطبيعة، فلو ترك هذا الفرد المجتمع مع النهي لا يكون فيه مخالفة للأمر، فلذلك يكون النهي الدال على الاستيعاب و انتفاء جميع الافراد اقوى من الأمر الدال على ان امتثاله و اطاعته لا يتوقف على جميع الافراد بل يحصل بفرد من افراده، و ليكن ذلك الفرد غير المجتمع مع النهي، فلذلك كان النهي اقوى من الأمر، و هذا مراده من قوله: ( (انه اقوى)) أي النهي اقوى ( (دلالة لاستلزامه انتفاء جميع الافراد بخلاف الأمر)).

(2) حاصل هذا الايراد على هذا المرجح هو ان المرجح الدلالي انما يكون مرجحا لما دل عليه حيث تكون دلالته دلالة لفظية، اما اذا كانت دلالته بواسطة الاطلاق و مقدمات الحكمة فلا يكون مرجحا.

ص: 179

و قد أورد عليه بأنه لو كان العموم المستفاد من النهي بالإطلاق بمقدمات الحكمة و غير مستند إلى دلالته عليه بالالتزام، لكان استعمال مثل ( (لا تغصب)) في بعض أفراد الغصب حقيقة. و هذا واضح الفساد، فتكون دلالته على العموم من جهة أن وقوع الطبيعة في حيز النفي أو النهي، يقتضي عقلا سريان الحكم إلى جميع الأفراد، ضرورة عدم الانتهاء عنها أو انتفائها، إلا بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه (1).

______________________________

و بعبارة اخرى: ان الدال على الاستيعاب لو كان هو لفظ النهي المتعلق بالماهية لا بشرط لكان مرجحا للنهي على الأمر، لان الأمر لا يدل إلّا على طلب متعلق بالماهية لا بشرط، إلّا ان الدال على الاستيعاب في النهي هو الاطلاق فان النهي مثل الأمر في الدلالة المستفادة من اللفظ، لان النهي يدل على طلب ترك الطبيعة و الأمر يدل على طلب وجودها، و مقدمات الحكمة تقتضي في النهي حيث انه تعلق بالماهية انتفاء جميع افرادها كما انها تقتضي في الأمر الاجزاء باي فرد من افراد هذه الماهية، و اذا كانت الدلالة على الاستيعاب في النهي و على الاجتزاء بفرد من الافراد في الأمر بمقدمات الحكمة لا تكون مرتبطة بالدلالة اللفظية فلا يكون النهي في مقام الدلالة اقوى من الأمر، و هذا مراده من قوله: ( (بان ذلك فيه)): أي ان الاستيعاب في النهي ( (من جهة اطلاق متعلقه)) و ان الطبيعة المتعلقة انما تنتفي بانتفاء جميع الافراد انما هو ( (بقرينة الحكمة)) و حاله في مقام افاده الاستيعاب كحال الأمر فدلالته ( (كدلالة الأمر على الاجتزاء باي فرد كان)) فانها ايضا بمقدمات الحكمة.

(1) هذا ايراد على هذا الجواب و حاصله:

ان الاستيعاب المستفاد من النهي ليس بمقدمات الحكمة، بل بدلالة اللفظ عليه دلالة التزامية، و يشتمل هذا الايراد على نقض و حل.

اما النقض، فهو ان الفرق بين الدلالة بمقدمات الحكمة و الدلالة اللفظية: ان الاستيعاب اذا كان مستفادا من مقدمات الحكمة فحيث ان اللفظ لم يدل عليه فلو

ص: 180

قلت: دلالتهما على العموم و الاستيعاب ظاهرا مما لا ينكر، لكنه من الواضح أن العموم المستفاد منهما كذلك، إنما هو بحسب ما يراد من متعلقهما، فيختلف سعة و ضيقا، فلا يكاد يدل على استيعاب جميع الأفراد، إلا إذا اريد منه الطبيعة مطلقة و بلا قيد، و لا يكاد يستظهر ذلك مع عدم دلالته عليه بالخصوص إلا بالاطلاق و قرينة الحكمة، بحيث لو لم يكن هناك قرينتها بأن يكون الإطلاق في غير مقام البيان لم يكد

______________________________

اريد من اللفظ بعض افراد هذه الماهية التي دل على الاستيعاب فيها الاطلاق و مقدمات الحكمة لم يكن استعمال اللفظ الموضوع لهذه الماهية اللابشرط في بعض افرادها مجازا، فانه اذا اريد من اللفظ الموضوع للماهية لا بشرط بعض مصاديقها لم يكن من استعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما انه لو اريد من هذا اللفظ الموضوع لهذه الماهية لا بشرط الشمول و الاستيعاب بمقدمات الحكمة لم يكن ايضا مجازا، و الحال انه لو اريد من الماهية المتعلق بها النهي كلا تغصب- مثلا- بعض افراد الغصب كان الاستعمال مجازا، فلا بد و ان يكون الاستيعاب مدلولا للفظ حتى يكون استعماله في غير الاستيعاب استعمالا له في غير ما وضع له.

و اما الحل فهو ان اللفظ موضوع للماهية لا بشرط، فاذا تعلق النهي بهذه الماهية، فالعقل يدرك بالفعل ان هذه الماهية لا يتحقق انتفاؤها إلّا بانتفاء جميع افرادها و لا يتحقق الانتهاء عنها إلّا بالانتهاء عن جميع افرادها، و حيث ان هذه الملازمة من اللزوم البين بالمعنى الاخص فيكون اللفظ دالا على هذا المعنى بالالتزام، و قد اشار إلى النقض بقوله: ( (لكان استعمال مثل لا تغصب إلى آخر الجملة)).

و اشار الى الحل بقوله: ( (فتكون دلالته على العموم ... الى آخر الجملة)).

و قوله (قدس سره): ( (يقتضي عقلا سريان الحكم)) ليس مراده ان دلالته عقلية محضة و انها غير مربوطة باللفظ، بل مراده ان العقل حيث يدرك هذا السريان بنحو الملازمة البينة بالمعنى الاخص فتكون الدلالة لفظية التزامية.

ص: 181

يستفاد استيعاب أفراد الطبيعة. و ذلك لا ينافي دلالتهما على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلق، إذ الفرض عدم الدلالة على أنه المقيد أو المطلق (1).

______________________________

(1) أي دلالة النهي و النفي على العموم لا تنكر و لكنها لا تنافي الاحتياج الى الاطلاق و مقدمات الحكمة.

و توضيحه: ان الدال على الاستيعاب: تارة يكون اللفظ الموضوع لان يدل على العموم مثل لفظ كل.

و ثانية: يكون الدال على العموم هو العقل كما في النكرة الواقعة في حيز النفي او النهي، فان العقل يحكم بان انتفاء هذه الطبيعة و ان كان اللفظ موضوعا فيها للماهية لا بشرط إلّا ان انتفاءها و الانتهاء عنها لا يكون إلّا بالانتهاء عن جميع افراد هذه الطبيعة و ان كان اللفظ موضوعا للماهية لا بشرط، ضرورة انه لا تعدم الطبيعة إلّا بانعدام جميع افرادها.

و ثالثة: يكون الدال على العموم هو الاطلاق و مقدمات الحكمة كما في أحل اللّه البيع و اكرم العالم.

فاذا عرفت هذه المقدمة نقول: ان لفظ كل و لفظ النهي و النفي و ان دلا على العموم بالمطابقة في كل و بالالتزام في النهي و النفي، إلّا انهما انما يدلان على صرف العموم و الاستيعاب بحسب ما يراد من مدخولهما و هو الماهية لا بشرط، و حينئذ فلا بد في استفادة ان المراد من هذه الماهية لا بشرط هو جميع افرادها من اعمال الاطلاق و مقدمات الحكمة، لأن لفظ كل- مثلا- موضوعة لان تدل على استيعاب جميع افراد مدخولها، و اما ان المراد من مدخولها ما هو و ما مقداره فلا تدل عليه و لا يستفاد منها، فلا بد من ان يستفاد ذلك من إجراء مقدمات الحكمة، و انه لم يرد من هذه الماهية اللابشرط بعض مصاديقها و إلّا لبينه.

ص: 182

.....

______________________________

فاتضح انه لا ينافي ان لفظ كل و لفظ النهي يدلان على العموم و الاستيعاب و لكن استيعابهما لجميع افراد هذه الطبيعة يحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة.

و توضيح الدلالة على ذلك ان نقول ان لفظ كل- مثلا- يدل على استيعاب جميع ما اريد من لفظ مدخولها و مدخولها موضوع للماهية لا بشرط، فلو اراد المتكلم من هذا اللفظ الموضوع للماهية لا بشرط بعض مصاديقه لبينه، و حيث لم يبينه فلا بد و ان يكون المراد جميع افراد هذا المدخول للفظ كل.

فاتضح ان استفادة العموم كان بأمرين: لفظ كل الموضوع لاستيعاب ما يراد من المدخول، و بواسطة الاطلاق و انه لم يرد بعض هذه الطبيعة.

و الذي يدلك على ذلك انه لو كان المتكلم ليس في مقام البيان فان لفظ كل و ان دل على الاستيعاب لما اريد من المدخول إلّا انه حيث لم يعرف مقدار ما اريد من المدخول لا تتم الدلالة على الاستيعاب و العموم.

و قد اشار الى ما ذكرناه اولا: من ان لفظ كل و النهي يدلان على الاستيعاب، و لكن لا تتم الدلالة على استيعاب جميع الافراد للطبيعة الا باجراء مقدمات الحكمة، و ان استفادة الشمول و العموم لجميع افراد هذه الطبيعة مستفاد من دلالة اللفظ على الاستيعاب و من الاطلاق في مقدار ما يراد من الطبيعة التي هي المدخول للفظ كل و للفظ النهي و النفي بقوله: ( (دلالتهما على العموم و الاستيعاب مما لا ينكر لكنه من الواضح ان العموم المستفاد منهما كذلك انما هو بحسب ما يراد من متعلقهما إلى آخر الجملة)).

و قد اشار الى ما ذكرنا- ثانيا- من البرهان على الاحتياج إلى الاطلاق و اجراء مقدمات الحكمة في المدخول بقوله: ( (بحيث لو لم يكن هناك قرينتها)): أي قرينة مقدمات الحكمة و هو كون المتكلم في مقام البيان فانه لو لم يكن في مقام البيان ( (بان يكون الاطلاق في غير مقام البيان لم يكد يستفاد استيعاب افراد الطبيعة)).

ص: 183

اللهم إلا أن يقال: إن في دلالتهما على الاستيعاب كفاية و دلالة على أن المراد من المتعلق هو المطلق، كما ربما يدعى ذلك في مثل: ( (كل رجل))، و إن مثل لفظة ( (كل)) تدل على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله و قرينة الحكمة، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة و لا بشرط في دلالته على الاستيعاب و إن كان لا يلزم مجاز أصلا، لو اريد منه خاص بالقرينة، لا فيه لدلالته على استيعاب أفراد ما يراد من المدخول، و لا فيه إذا كان بنحو تعدد

______________________________

و قد اشار الى ان دلالتهما على الاستيعاب أي لفظ كل و لفظ النهي لا ينافي الاحتياج إلى اجراء مقدمات الحكمة في المدخول لانهما موضوعان لاستيعاب ما يراد من المدخول، و اما ان المراد من المدخول هل هو المطلق أو المقيد فيحتاج ذلك إلى اعمال مقدمات الحكمة بقوله: ( (و ذلك لا ينافي دلالتهما على استيعاب افراد ما يراد من المتعلق اذ الفرض عدم الدلالة)) من لفظ كل و لفظ النهي ( (على انه)): أي على ان المدخول هل هو ( (المقيد أو المطلق)).

و توضيح ما ذكرنا انه حيث كان الاستيعاب لجميع الافراد في النهي يحتاج الى مقدمات الحكمة كالاجتزاء باي فرد من الافراد في الأمر لا يكون النهي اقوى دلالة من الأمر.

و قد اتضح ايضا الجواب عن النقض، و ان ارادة بعض المصاديق من النهي لا يكون مجازا لان النهي و ان دل على الاستيعاب إلّا ان لفظ المدخول موضوع للماهية لا بشرط و ارادة بعض المصاديق من الماهية لا بشرط ليس من المجاز.

ص: 184

الدال و المدلول، لعدم استعماله إلا فيما وضع له، و الخصوصية مستفادة من دال آخر، فتدبر (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان هذه الدعوى انما هي في لفظ (كل) لا في لفظ النهي، لأن النهي لم يوضع الا لسلب المدخول، بخلاف لفظ (كل) فانها موضوعة لاستيعاب افراد المدخول، فان لفظ (كل) في (كل رجل) يدل بالوضع على جميع افراد الرجل.

و توضيح هذه الدعوى ان نقول ان لفظ رجل- مثلا- موضوع للماهية لا بشرط أي الماهية اللامتعينة بتعين اصلا و ليس موضوعا للماهية المهملة بقيد الاهمال، و إلّا لكان استعمالها في الماهية المتعينة من المجاز، و هو واضح الفساد.

فلفظ (كل) تدل بحسب الوضع على تعين جميع افراد هذه الطبيعة اللامتعينة بحسب الوضع، و من الواضح ان اللامتعين يتعين بالمتعين فاذا تعينت هذه الماهية اللابشرط بدلالة كل على تعينها بجميع الافراد فلا حاجة إلى اعمال مقدمات الحكمة لأجل استيعابها لجميع الافراد، و لا ينافي هذا كون لفظ (كل) موضوعا لاستيعاب جميع افراد ما يراد من المدخول، فانه بعد بيان ان لفظ المدخول موضوع للماهية اللامتعينة و انه لا بد من ان يتعين بما يستفاد من لفظ (كل) فيكون المراد من المدخول غير المقيد بشي ء هو جميع افراد هذا الغير المقيد، و اذا قيد المدخول بشي ء دلت لفظ (كل) على جميع افراد هذه الماهية المقيدة، و لا تكون الدلالة بالقرينة الخاصة على ان المراد من هذه الطبيعة هو المقيد من المجاز، لما عرفت ارادة المقيد من الماهية اللامتعينة ليس من الاستعمال المجازي، لأن المجازية اما لكونها مستلزمة لاستعمال لفظ كل في غير ما وضعت له و ليس كذلك فان لفظ (كل) قد استعملت في استيعاب جميع افراد مدخولها، و اما من اجل استعمال المدخول في غير ما وضع له و ليس كذلك ايضا، فانه اذا كان التقييد بنحو تعدد الدال و المدلول لا يكون مستلزما للمجازية، و هذا مراده من قوله: ( (و ان كان لا يلزم مجاز اصلا لو اريد منه)): أي من اللفظ الموضوع للماهية اللامتعينة ( (خاص بالقرينة لا فيه)): أي لا في لفظ (كل) ( (لدلالته على

ص: 185

و منها: إن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة (1).

و قد اورد عليه في القوانين، بأنه مطلقا ممنوع، لأن في ترك الواجب أيضا مفسدة إذا تعين (2).

______________________________

استيعاب افراد ما يراد من المدخول و لا فيه)): أي و لا في لفظ المدخول ( (اذا كان)) التقييد ( (بنحو تعدد الدال و المدلول)) و ذلك واضح ( (لعدم استعماله)): أي لعدم استعمال لفظ المدخول فيما اذا كان التقييد بنحو تعدد الدال و المدلول ( (الا فيما وضع له و الخصوصية مستفادة من دال آخر)).

(1)

أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة

هذا هو المرجح الثاني الذي ذكروه من المرجحات النوعية لتغليب جانب الحرمة على جانب الوجوب في محل الاجتماع.

و حاصله: ان الحرمة منبعثة عن مفسدة في الفعل، و الوجوب منبعث عن مصلحة في الفعل، و دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة، فان المكلف لو فعل و أوجد المورد الذي اجتمع فيه ملاك الوجوب و الحرمة فهو و ان حصلت المنفعة بالفعل و لكنه قد ابتلي بما في الفعل من المفسدة، و دفع المفسدة اهم من جلب المنفعة.

(2) حاصل ما اورد في القوانين على هذا المرجح: انه لا نسلم ان مطلق دفع المفسدة المحرمة اولى من جلب المصلحة الواجبة، بل هو مسلم في الوجوب التخييري اذا اجتمع مع الحرمة التعيينية.

و اما اذا اجتمع الوجوب التعييني مع الحرمة التعيينية فلا يكون ذلك من موارد هذه القاعدة، لأن في ترك الواجب التعييني ايضا مفسدة، و لذا انه لا يجوز تركه و لا يكون الترك لهذا الواجب منهيا عنه الا لمفسدة في هذا الترك، فيكون من موارد دفع المفسدة بالمفسدة لا من موارد دفع المفسدة بترك المصلحة حتى تأتي هذه القاعدة، و هي دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة.

اما في الواجب التخييري فحيث انه ذو بدل أو أبدال فلا تكون مفسدته إلّا بترك جميع ابداله، و ترك هذا البدل وحده المجتمع مع الحرمة التعيينية لا يكون منهيا عنه

ص: 186

و لا يخفى ما فيه، فإن الواجب و لو كان معينا، ليس إلا لأجل أن في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة، كما أن الحرام ليس إلا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه (1).

______________________________

فلا يكون ذا مفسدة فيكون من موارد هذه القاعدة فان في الفعل مصلحة، و منفعة الواجب التخييري المبتلاة بالمفسدة في الحرمة التعيينية و ليس في ترك هذا الفرد من الواجب التخييري مفسدة حتى يكون من دفع المفسدة بالمفسدة.

و بعبارة اخرى: ان قولهم ان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة ليس على اطلاقه، بل انما هو فيما اذا دار الأمر بين مفسدة و منفعة لا بين مفسدة في الفعل و مصلحة في الفعل و مفسدة في الترك، كما في الواجب التعييني فان في الفعل مصلحة الوجوب و مفسدة الحرمة و في الترك مفسدة ايضا، لأن ترك الواجب ايضا ذو مفسدة كمفسدة الحرمة التعيينية التي في الفعل.

فهذه القاعدة مختصة بدوران الأمر بين المصلحة في الفعل الذي ليس في تركه مفسدة و بين المفسدة في الفعل، و مصداقها الوجوب التعييني و الحرمة التعيينية، و لذلك قال: ( (بانه مطلقا ممنوع)): أي ان اطلاقه ممنوع لانه في ترك الواجب التعييني- ايضا- مفسدة و لهذا عقبه بقوله: ( (لأن في ترك الواجب ايضا مفسدة اذا تعين)):

أي اذا كان الوجوب تعيينيا فانه في تركه تكون ايضا مفسدة، فيكون من دوران الأمر بين مفسدة و مصلحة و مفسدة.

(1) لا يخفى ان المصنف لم يرتض جواب القوانين عن هذا المرجح، و سيأتي بيان اجوبة المصنف عن هذا المرجح، فلذلك اورد على جواب القوانين بقوله: ( (فان الواجب و لو كان معينا ... الى آخر كلامه)).

و توضيح المطلب: ان المراد من المفسدة و المنفعة في هذه القاعدة ليس العقاب و الثواب الأخرويين التابعين للاطاعة و العصيان، لان الثواب و العقاب انما يكونان للحكم الثابت بعد ثبوته و غلبته على ما يزاحمه، و هذا المرجح لبيان ما يدل على

ص: 187

.....

______________________________

غلبة الحكم، و انما مرادهم من المفسدة و المنفعة هي المصالح و المفاسد التي تكون في الافعال التي هي الداعية للحكم التحريمي و الحكم الوجوبي.

فاذا عرفت هذا نقول: ان الوجوب انما يكون تابعا للمصلحة في الفعل و الحرمة انما تكون تابعة للمفسدة في الفعل ايضا، و ليس في الواجب الا تلك المصلحة التي دعت الى وجوبه و تركه ليس إلّا ترك تلك المصلحة، كما انه ليس في المحرم الا تلك المفسدة التي دعت الى تحريمه و ليس في تركه الا ترك تلك المفسدة، و ليس في ترك الواجب مفسدة اخرى و لا في ترك المحرم مصلحة اخرى، و إلّا لكان كل حكم وجوبي و تحريمي منحلا الى حكمين، فالواجب و ان كان وجوبه تعيينيا لا تخييريا إلّا انه ليس في تركه مفسدة آخرى غير ترك تلك المصلحة اللازمة في فعله، كما ان المحرم ايضا كذلك فانه ليس في تركه مصلحة اخرى غير ترك تلك المفسدة في فعله التي دعت الى تحريمه.

و لعل الوجه في عدم انحلال الحكم الى حكمين هو ان المفروض ان الوجوب ملاكه المصلحة الملزمة و الحرمة ملاكها المفسدة الملزمة، فلو انحل الوجوب الى حكمين وجوب الفعل و حرمة الترك للزم كون الحكم التحريمي في حرمة ترك الواجب حكما من غير ملاك، اذ المفروض انه ليس هناك غير المصلحة الملزمة، و مثله الكلام في عدم انحلال الحكم التحريمي الى حرمة الفعل و وجوب الترك.

و لا يخفى انه لو قيل بانحلال الحكم الوجوبي و التحريمي الى حكمين للزم ذلك في الحكم الاستحبابي و الحكم الكراهتي، فينحل الحكم الاستحبابي الى استحباب الفعل و كراهة الترك و الحكم الكراهتي الى كراهة الفعل و استحباب الترك.

نعم لا يلزم ذلك في الحكم الترخيصي لان متعلقه الفعل و الترك معا، لان معنى الاباحة هي الترخيص في الفعل و الترك. و عبارة المتن واضحة لا تحتاج الى بيان.

هذا، مضافا الى ان اجتماع الحرمة و الوجوب التي هي غالب موارد مسألة الاجتماع المبحوث عنها هو اجتماع الحرمة التعيينية مع الوجوب الموقت التعييني غير

ص: 188

و لكن يرد عليه: أن الأولوية مطلقا ممنوعة، بل ربما يكون العكس أولى، كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرمات مع ترك بعض الواجبات، خصوصا مثل الصلاة و ما يتلو تلوها (1)، و لو سلم فهو أجنبي

______________________________

المضيق الذي يكون له فرد آخر في غير الدار المغصوبة، فيكون حكم هذا الواجب حكم الواجب التخييري لانه في ترك جميع افراد الموقت تكون المفسدة لا في ترك هذا الفرد من الصلاة المجتمعة مع الغصب.

إلّا ان هذا الايراد انما يرد على القوانين حيث لا يكون مراده من الواجب التخييري ما يعم ذلك فلا تغفل.

و لعله لهذا لم يورد عليه المصنف بهذا الايراد.

(1) بعد ان ظهر فساد ما اورد في القوانين على هذه القاعدة، اخذ المصنف في ذكر وجوه من الايرادات ترد على هذه القاعدة:

الاول ما اشار اليه ( (و لكن يرد عليه ان الاولوية مطلقا ممنوعة)).

و حاصله: بعد ان عرفت ان الحرمة تابعة للمفسدة و الوجوب تابع للمصلحة نمنع ان كل مفسدة هي أهم من كل مصلحة، فيكون دفع المفسدة مطلقا أي مفسدة كانت هي اولى من جلب المنفعة أي مصلحة كانت، بل لا بد من لحاظ ما هو الاهم منهما، فانه من المشاهد وجدانا انه ليس كل مفسدة هي اهم و اولى من أي مصلحة، بل كثيرا ما تكون بعض المصالح اهم من بعض المفاسد، و لذا نرى العقلاء كثيرا ما يتحملون جملة من المفاسد ازاء الوصول الى مصلحة واحدة لانها اهم من المفاسد التي يتحملونها.

و نرى الأمر عند الشارع كذلك، فان الصلاة و الحج- مثلا- في نظر الشارع اهم من بعض المحرمات، فانه من الواضح انه لو توقف ترك الصلاة من رأس عند عامة المسلمين، أو ترك الحج كذلك عند الأمة الاسلامية على ارتكاب بعض المحرمات كتصرف غصبي من قبيل دخول دار الغير و اجتيازها من دون رضاه أو اخذ تصوير

ص: 189

عن المقام، فإنه فيما إذا دار بين الواجب و الحرام (1).

______________________________

عند من يرى حرمة اخذ التصوير، فانه لا يمكن ان يلتزم فقيه ممن يرى الامتناع جواز ترك الصلاة من رأس اذا توقفت على الغصب المذكور، و لذلك افتى بعض المحققين من علماء العصر (قدس سره) ممن يرى حرمة اخذ التصوير بجواز اخذ التصوير لمن يريد الحج، لانه يتوقف المسير الى الحج على اخذ التصوير، و هذا واضح لكل من يرى ما للصلاة و الحج من الاهمية في لسان الشارع بان تاركهما كافر، و لم يرد في لسان الشارع ان من غصب أو اخذ صورة فهو كافر.

و لا اظن انه يستطيع احد من الفقهاء ان يفتي بجواز ترك الحج من رأس اذا علم الذاهب الى الحج انه لا بد له في احد المواني أو المطارات او المنازل من ان يجتاز على ارض مغصوبة بمقدار متر أو أمتار قليلة.

و على كل فانه من الجلي ان بعض الواجبات عند الشارع اهم من بعض المحرمات فهذه القاعدة باطلاقها ممنوعة و انه كل مفسدة هي أهم من كل مصلحة، و لذا قال (قدس سره): ( (بل ربما يكون العكس)): أي يكون بعض المصالح جلبها اهم من ارتكاب بعض المفاسد.

(1) هذا الايراد الثاني، و قد ذكر المصنف وجها له في الفوائد غير الوجه الذي يظهر من عبارته هنا، كما اشار الى شرحها في حاشيته على المقام.

و الحاصل: ان المصنف ذكر وجهين وجها في فوائده و وجها في المقام.

و حاصل ما ذكره في الفوائد- ما اشرنا اليه في رد القوانين- و هو ان مسألة الاجتماع الممثل لها بالصلاة في الدار المغصوبة محل الكلام فيها فيما اذا كان للصلاة فرد غير الفرد الذي يؤتى به في الدار المغصوبة، و اذا كان هذا هو محل الكلام فلا يكون من دوران الأمر بين المنفعة و المفسدة، بل لا بد في المقام من دفع المفسدة لان جلب المنفعة الصلاتية لا يتوقف على الصلاة في المغصوب لامكان استيفائها في خارج

ص: 190

.....

______________________________

الدار، بخلاف الغصب فان تركه لا يكون إلّا بترك التصرف الغصبي مطلقا و لا يزاحم تركه ترك الصلاة من رأس.

نعم لو لم يكن للصلاة فرد إلّا اتيانها في الدار المغصوبة لكان من موارد هذه القاعدة.

و قد عرفت ان محل الكلام ليس هذا الفرض فالصلاة في الدار المغصوبة و الغصب ليس من موارد دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة.

و الحاصل: ان الفرض انه ليس من موارد هذه القاعدة و ليس الفرض صحة الصلاة في الدار المغصوبة كما كان ظاهر مساق الايراد الاول.

و اما ما افاده هنا(1) فحاصله:

ان ظاهر هذه القاعدة التي ذكرت للترجيح انما هو بعد جعل الحكم الصلاتي و الغصبي، فالمكلف ينبغي ان يرجح دفع المفسدة الغصبية على جلب المنفعة الصلاتية.

و يرد عليهم أن هذه القاعدة ينبغي ان تكون مرجحا في مقام اسبق من هذا المقام و هو مقام جعل الاحكام، و ان يكون المراد منها ان الشارع حيث يرى ان في المجمع منفعة صلاتية و مفسدة غصبية فينبغي ان يلغي جهة المنفعة و لا يكون امره الصلاتي شاملا للمجمع و ان يقدم جهة الغصب لان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة. و اذا كان هذا مرادهم من هذه القاعدة.

يرد عليهم: ان مقام جعل الاحكام مقام الجهات و العناوين المحسنة و المقبحة و استيفاء المصالح و دفع المفاسد انما هو بعد مقام جعل الاحكام.

و قد عرفت فيما تقدم ان رأي المصنف ان الاحكام في مقام جعلها تابعة للعناوين بوجودها العنواني التصوري و هو مقام عنوان الحسن و القبح، ففي هذا المقام

ص: 191


1- 6. ( 1) كفاية الاصول بحاشية المحقق المشكيني ج 1، ص 277.( حجري)

.....

______________________________

الاحكام تابعة للعنوان الحسن و القبيح و ليس في هذا المقام مصلحة خارجية و لا مفسدة خارجية حتى تكون الاحكام تابعة لها.

و المقام الثاني و هو بعد جعل الاحكام و انتفائها يكون مقام استيفاء المنافع و دفع المفاسد ففي المقام الذي ينبغي الترجيح بهذه القاعدة و هو مقام جعل الاحكام ليس فيه جلب المنفعة و دفع المفسدة و انما هو تابع لعنوان الحسن و القبح و في المقام الثاني لا مجال لهذه القاعدة لان موردها ينبغي ان يكون مورد جعل الاحكام لا تطبيقها بعد جعلها، و الى هذا اشار بقوله: ( (و لو سلم فهو اجنبي عن المقام)): أي لو سلمنا ان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة فمورد هذه القاعدة هو المقام الثاني و هو ان المكلف بعد جعل الاحكام ينبغي ان يختار ما هو الاوفق له و هو ان يدفع المفسدة لا أن يجلب المنفعة.

و على هذا لا يكون هذا من المرجحات في المقام لان المراد من الترجيح بيان ان الحكم الغصبي مترجح في نظر الشارع على الحكم الصلاتي، فينبغي ان يكون هذا في مقام الجعل للاحكام، و قد عرفت ان مقام الجعل ليس تابعا للمفسدة و المصلحة بل هو تابع لعنوان الحسن و القبح، و لذا قال (قدس سره): ( (فانه فيما اذا دار الأمر بين الواجب و الحرام)): أي ان الظاهر من هذه القاعدة هو في مقام دوران الأمر بين ما هو واجب و ما هو حرام و هو المقام الثاني، و الترجيح بها ينبغي ان يكون في المقام السابق على هذا المقام و هو مقام الجعل للاحكام.

و ينبغي ان لا يخفى ان ما ذكره في فوائده اولى من هذا الوجه، لان حاصل ما ذكره في الفوائد:

ان الصلاة في المغصوب ليست من دوران الأمر بين دفع المفسدة و جلب المنفعة، لوضوح ان جلب المنفعة الصلاتية لا ينحصر في الصلاة في المغصوب، لبداهة امكان الصلاة في غير المغصوب حيث ان المفروض وجود المندوحة، فليست الصلاة

ص: 192

و لو سلم فإنما يجدي فيما لو حصل به القطع (1)، و لو سلم أنه يجدي و لو لم يحصل، فإنما يجري فيما لا يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو

______________________________

في المغصوب من موارد الدوران بين دفع المفسدة و جلب المنفعة لامكان استيفاء المنفعة بالصلاة في غير المغصوب و دفع المفسدة بترك الغصب، و هذا أسلم من الاشكال.

بخلاف ما ذكره هنا فانه لا يخلو عن الاشكال لامكان ان يقال ان الافعال لما كانت تابعة للمصالح و المفاسد كان اللازم على الشارع إيصال عباده الى مصالحهم و ابعادهم عن المفاسد، و حيث ان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة فلا بد و ان لا يكون الأمر بالصلاة شاملا للصلاة في المغصوب، و الحسن و القبح الذي هو مدار الاحكام تابع للمصالح و المفاسد.

فاذا تمت هذه القاعدة و هي كون دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة فالصلاة في المغصوب لا يكون حسن فيها حتى تكون مأمورا بها لان دفع المفسدة فيها اولى من جلب المنفعة.

(1) هذا هو الايراد الثالث و حاصله:

انه لو سلمنا ان مورد هذه القاعدة هو المقام الاول، و ان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة انما هي في مقام جعل الاحكام، و ان عناوين الحسن و القبح على رأي العدلية ليست هي إلّا عناوين المصالح التي ينبغي ايصالها إلى العباد، و عناوين المفاسد التي ينبغي ابعاد العباد عنها، و ليس وراء هذا حسن أو قبح تتبعه الاحكام في مقام جعلها.

إلّا انه نقول ان هذه القاعدة انما تنفع بان دفع أي مفسدة هي اولى من جلب أي مصلحة كانت، و دعوى القطع بها لا يخلو من جزاف.

فتكون هذه القاعدة ظنية أي ان الاولوية المذكورة ظنية لا قطعية، و اذا لم تكن قطعية لا تنفع اذ لا دليل على الاخذ بالاولويات الظنية، و يكون مرجع هذه القاعدة

ص: 193

الاشتغال، كما في دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة التعيينيين، لا فيما تجري، كما في محل الاجتماع، لأصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته (1) و لو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الأجزاء و الشرائط، فإنه

______________________________

إلى انا تظن ان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة، و الظن ليس بحجة ما لم يقم عليه دليل، و المفروض ان نفس هذه القاعدة هي الدليل لا انها قاعدة قام الدليل عليها.

(1) هذا هو الايراد الرابع، و حاصله:

انا نسلم انه يصح الاخذ بهذه الاولوية و ان لم تكن قطعية، أي نسلم صحة الاخذ بالاولوية الظنية، إلّا ان الظن الذي لم يقم عليه دليل بالخصوص انما يؤخذ به اذا لم تجر الاصول في نفي الحكم الذي يثبته ذلك الظن، كما في مقام دوران الأمر بين الوجوب التعييني و الحرمة التعيينية فانه لا مجال لجريان الاصول في مثل ذلك، اما للعلم الاجمالي بوجود الحكم الالزامي لهذا المشكوك، أو لجريانهما معا و تساقطهما، فان اصالة عدم وجوبه معارضة باصالة عدم حرمته، و في مثله لا بأس بالرجوع الى الاولويات الظنية كما في باب الانسداد.

و اما في مسألة باب الاجتماع فاصالة البراءة تجري في جانب الحرمة التعيينية المشكوكة على الفرض لان المدعى جريان الاولوية الظنية، و جريان الاولوية الظنية لازمه الشك في الحكم فتكون الحرمة مشكوكة، و اذا كانت الحرمة مشكوكة تكون مرفوعة باصالة البراءة و ليست معارضة باصالة عدم وجوب مورد الاجتماع لان وجوبه ليس تعيينيا، بل الوجوب انما تعلق بالطبيعة و ليس للفرد بخصوصه وجوب و انما هو احد افراد الطبيعة و التخيير فيه عقلي لا شرعي، فلا مجرى لاصالة عدم وجوب هذا الفرد بخصوصه لانه معلوم انه ليس له وجوب بخصوصه و مع العلم كذلك لا مجرى للاصل.

و اما اصالة العدم الازلي و هو عدم وجوب الطبيعة بحيث تسع هذا الفرد، فهي و ان كانت جارية و لا مانع منها إلّا انها لا تنفع لأنها من الاصل المثبت، لان لازم

ص: 194

.....

______________________________

عدم وجوب الطبيعة بنحو العدم الازلي بحيث تسع هذا الفرد هو كون هذا الوجوب الخاص لا يسع هذا الفرد و ليس هو من مصاديق هذه الطبيعة الواجبة و هو من الاصل المثبت.

و اما الحرمة التعيينية المتعلقة بالطبيعة فحيث انها تنحل إلى نواه عديدة بحسب ما للطبيعة من الافراد و لكل فرد منها حرمة و حكم يخصه فالمورد الذي وقع مجمعا بنفسه مشكوك الحرمة فتجري فيه البراءة، و لا تعارضها اصالة عدم وجوبه لما عرفت من عدم جريانها إلّا بنحو الاصل المثبت، و لذلك اجرى المصنف اصالة البراءة عن الحرمة المشكوكة، و لم يتعرض لمعارضتها باصالة عدم وجوبه فقال قدّس سرّه:

( (لا فيما يجري)): أي ان الاولوية الظنية انما تجدي حيث لا يجري في موردها الاصل كما في مقام دوران الامر بين الوجوب التعييني و الحرمة التعيينية لا في مثل المقام فان المورد وجوبه تخييري عقلي لا شرعي، و متعلق الوجوب الشرعي- و هو نفس الطبيعة- ليس بمشكوك و حرمته تعيينية و هي مجرى البراءة لكونها مشكوكة و لذا قال قدّس سرّه:

( (كما في محل الاجتماع لاصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته)): أي انه اذا جرت البراءة عن حرمته و نفت الحكم التحريمي عن المورد فلا مانع من ان يكون المورد يقع صحيحا و ممتثلا به الوجوب المتعلق بالطبيعة، لان المانع عن وقوعه صحيحا و ممتثلا به الوجوب المتعلق بالطبيعة ليس إلّا احتمال كونه حراما و اذا نفت البراءة حرمته فيرتفع المانع من وقوعه صحيحا فيحكم بصحته.

ص: 195

لا مانع عقلا إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلا و نقلا (1).

______________________________

(1) توضيحه ان هناك كلاما في الشك في الاجزاء و الشرائط في كونها مجرى للبراءة أو انها مجرى للاشتغال، و تفصيله موكول إلى باب الاقل و الاكثر الارتباطيين.

إلّا انه لو قلنا في تلك المسألة بان الاصل هو الاشتغال مع ذلك في المقام نقول بالبراءة لأن القول بالاشتغال انما هو فيما كان الشرط شرعيا، و المانعية و ان كانت من جملة الشرائط إلّا ان المانعية في المقام ليست شرعية كمانعية غير ماكول اللحم في صحة الصلاة فيه، بل المانعية في المقام من ناحية ان المورد اذا كان مشمولا للنهي التحريمي الفعلي فلا تصح الصلاة فيه، اذا لا يعقل التقرب بالمبعد و المنهي عنه و البراءة ترفع النهي الفعلي، و مع ارتفاع النهي التحريمي الفعلي فلا مانع من الصحة، و هذا هو الفرق بين المانعية العقلية و المانعية الشرعية، فان المانع الشرعي لو صلى فيه المكلف نسيانا أو جهلا فالقاعدة الاولية تقتضي عدم صحة الصلاة لو لم يقم دليل بالخصوص على صحتها كحديث لا تعاد و امثالها.

بخلاف المانعية العقلية فانه لو صلى فيها المكلف عن نسيان أو جهل تصح صلاته كما تقدم بيانه- فيما مر- من ذهاب المشهور الى صحة صلاة الجاهل و الناسي للغصبية.

و على كل ففي المانعية العقلية نقول بالبراءة و ان قلنا بالاشتغال في الموانع الشرعية، و لذا قال (قدس سره): ( (فيحكم بصحته و لو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الاجزاء و الشرائط)) التي منها المانعية لكن المانعية الشرعية غير المانعية العقلية، فان المانعية العقلية تدور مدار فعلية النهي، و اذا جرت البراءة لا فعلية للحرمة، و لذا قال (قدس سره): ( (لا مانع عقلا الا فعلية الحرمة المرفوعة باصالة البراءة عنها عقلا و نقلا)): أي رفع ما لا يعلمون، و قبح العقاب بلا بيان.

ص: 196

نعم لو قيل بأن المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية و لو لم يكن الغلبة بمحرزة، فأصالة البراءة غير جارية، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة محكمة و لو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء و الشرائط، لعدم تأتي قصد القربة مع الشك في المبغوضية (1)،

______________________________

(1) توضيحه ببيان أمور:

الأول: ان الفرق بين المانعية العقلية في المقام و بين المانعية الشرعية: ان الشك في المانعية الشرعية في غير المقام يكون في اصل المفسدة، و في المقام الذي هو المانعية العقلية انما هو في غلبة المفسدة و تأثيرها للحكم التحريمي المزاحم بالمصلحة الوجوبية، و اما اصل المفسدة فان المفروض احرازها كما هو فرض التزاحم في هذه المسألة.

الثاني: ان المانع عن صحة الصلاة هل هو الحكم التحريمي الفعلي او نفس المفسدة الواقعية المحتمل غلبتها واقعا.

و المعروف ان المانع هو الحكم التحريمي الفعلي، لانه لو كان المانع هو المفسدة الواقعية لما صحت الصلاة في حال الجهل و النسيان، و الحال ان المشهور قائلون بصحة الصلاة في حال الجهل و النسيان، و لذا قلنا ان المعروف كون المانع هو الحكم التحريمي الفعلي دون المفسدة الواقعية المحتمل غلبتها، و لكن اذا قلنا بان المانع هو نفس المفسدة المحتمل غلبتها فاصالة البراءة في المقام لا تنفع لانها انما ترفع الحكم الفعلي، و اما احتمال غلبة المفسدة واقعا فهو باق على حاله و ان جرت البراءة.

الثالث: ان المانع العقلي في المقام الذي بارتفاعه تصح الصلاة هو احراز كون الصلاة وقعت متقربا بها و غير مبعدة، فاذا كان المانع عن المقربية هو الحكم التحريمي فالصلاة تقع صحيحة ببركة جريان البراءة.

و اما اذا كان المانع عن المقربية هو ان لا تكون مبغوضة واقعا و مع احتمال غلبة المفسدة نحتمل وقوع الصلاة مبغوضة واقعا، و لا رافع لهذا الاحتمال لعدم جريان البراءة فيه فلا يحرز وقوع الصلاة متقربا بها، و مع احراز وقوعها قربية لا وجه

ص: 197

.....

______________________________

للاكتفاء بها في مقام الامتثال لو امكن ان يتأتى من المكلف قصد القربة لو لم نقل بانه مع هذا الاحتمال لا يتأتى منه قصد القربة.

و على كل ففي المقام نقول بالاشتغال و ان كنا نقول بالبراءة في مقام الشك في اصل المانعية، لان شغل الذمة اليقيني بالصلاة في المقام يقتضي الفراغ اليقيني منها باتيانها في غير هذا الفرد لاحتمال وقوعها مبغوضة و مبعدة في هذا الفرد، بخلاف الشك في اصل المفسدة.

و توضيحه: ان في المقام حيث احرزت المبغوضية الواقعية و ان كانت غلبتها مشكوكة و العلم باصل المبغوضية الواقعية كاف في عدم احراز وقوع الفعل محبوبا، بخلاف الشك في اصل المبغوضية فانه لم يحرز في ذلك المقام اصل المبغوضية، غاية الأمر نحتمل وجودها و تأثيرها في الحرمة الفعلية، و بجريان البراءة يرتفع التأثير في الحكم الفعلي فلا مانع من التقرب بالفعل مع اجراء البراءة.

و اما في المقام فان البراءة و ان جرت في رفع الحكم التحريمي الفعلي لكن اصل المبغوضية الواقعية محرزة و هي كافية في المنع عن التقرب.

و بعبارة اخرى: ان احراز اصل المفسدة كاف في المنع عن التقرب قياسا على المفسدة المحرز تأثيرها ببعض مراتبها، فيما لو كانت واقعا اقوى من المرتبة التي احرزت، فانه فلا مانع من تأثيرها في العقاب الشديد و ان كان المكلف لم يحرز شدتها، فهذه المفسدة المحرز اصلها تمنع عن التقرب و ان كان غلبتها مشكوكة، فاحراز الحرمة الذاتية ببعض مراتبها- و ان كانت فعليتها مشكوكة- كاف في المنع عن التقرب، و لذلك حكم (قدس سره) بانه بناء على كون اصل المبغوضية الواقعية مانع عن التقرب نقول بالاشتغال في المقام لاحراز المبغوضية الواقعية المحتملة الغلبة و ان قلنا بالبراءة في الشك في اصل المانعية لعدم احرازها هناك و لذا قال (قدس سره): ( (نعم لو قيل بأن المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية و لو لم تكن الغلبة بمحرزة فاصالة

ص: 198

فتأمل (1).

______________________________

البراءة غير مجدية)) لانها انما ترفع الحكم الفعلي التحريمي و لا ترفع المبغوضية الواقعية المحرز اصل وجودها و انما المشكوك غلبتها.

و قد قلنا انها بما لها من الواقعية المحرزة مانعة عن التقرب فلا تكون اصالة البراءة مجدية في المقام ( (بل كانت اصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة محكمة)) لتوقف الفراغ اليقيني على الاتيان بغير هذا الفرد لعدم احراز وقوع هذا الفرد مقربا ( (و لو قيل باصالة البراءة في الاجزاء و الشرائط)) لانه هناك اصل المبغوضية الواقعية غير محرز بخلاف المقام فان المفروض احرازها، و مع احراز اصلها لا يتأتي من المكلف قصد القربة لأن وقوع العبادة صحيحة يتوقف على احراز وقوعها مقربة، و مع احراز المبغوضية الواقعية غير القابلة للرفع باصالة البراءة لا يكون لنا محرز لوقوع الفعل مقربا فان وقوعه مقربا، يتوقف على الاحراز و لو بالاصل.

و قد عرفت ان الاصل لا يجري مع احراز اصل المبغوضية الواقعية، لانه انما يرفع الحكم الفعلي التحريمي، و اما اصل المبغوضية فمحرز و ليست بمشكوكة حتى يجري الاصل فيكون لنا احراز ببركة الاصل فلا يتأتى من المكلف قصد القربة، و لذلك قال (قدس سره): ( (لعدم تأتي قصد القربة مع الشك في المبغوضية)): أي في المبغوضية الفعلية الغالبة لا في اصل المبغوضية.

(1) قد ذكر (قدس سره) في هامش الكتاب وجه التأمل 7] و توضيحه:

ان احراز اصل المفسدة انما يكون مجديا في عدم تأتي قصد القربة حيث يكون موجبا للتأثير و للحكم بالحرمة.

و المقام ليس كذلك فانا و ان احرزنا اصل المفسدة الا انا ايضا قد احرزنا اصل المصلحة التي يمكن ان تكون مانعة عن تأثيرها في المبغوضية.

ص: 199

و منها: الاستقراء، فإنه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب، كحرمة الصلاة في أيام الاستظهار، و عدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين (1).

______________________________

فالمقام الذي احرز فيه اصل المفسدة و احرز فيه ايضا ما يمكن ان يكون مانعا و مزاحما لها في تأثيرها هو بحكم المقام الذي لم يحرز فيه اصل المفسدة، من دون فرق بينهما في النتيجة و هي المبغوضية لأن العلم بنفس المقتضي لا يوجب العلم بترتب معلوله عليه ما لم تتم شرائطه و لا فرق في النتيجة من عدم العلم بترتب المعلول بين الشك في اصل المقتضي أو الشك في تأثيره لوجود ما يمكن ان يكون مانعا عنه و مزاحما له.

و قياس المقام بالمفسدة المحرز تأثيرها في بعض مراتبها في ترتب مرتبتها القوية عليها- لو كانت- قياس مع الفارق، لانه في المفسدة التي احرزنا تأثيرها ببعض مراتبها يصدر الفعل من المكلف قبيحا و انه قد اقدم على ارتكاب ما هو القبيح و ما يعاقب عليه، فلا مانع من عقابه بالعقاب الشديد لو كانت المفسدة موجبة للعقاب الشديد، بخلاف المقام فانه مع احراز ما يمكن ان يكون مانعا عن تأثير المفسدة لا يكون الفعل الصادر من المكلف معنونا بالقبح و لا يكون منه اقدام على ارتكاب ما هو القبيح.

هذا مضافا الى ما مر من ان المفسدة الواقعية لو كانت مانعة عن وقوع الفعل قربيا لما وقعت العبادة صحيحة في مورد النسيان و الجهل، فانه في حال النسيان أو الجهل و ان تمكن المكلف من قصد القربة إلّا ان الفعل لم يقع منه قربيا لوقوعه مبغوضا واقعا، فلا بد و ان يكون المانع فعلية المبغوضية و تأثيرها لا اصلها و واقعها.

(1) هذا هو المرجح الثالث لتغليب جانب الحرمة على جانب الوجوب.

و حاصله: انا استقرينا موارد اجتماع الوجوب و الحرمة فرأينا: ان ديدن الشارع فيما اذا اجتمع الوجوب و الحرمة يرجح جانب الحرمة على جانب الوجوب، كما في مسألة الصلاة في ايام الاستظهار: و هي الايام الزائدة على ايام العادة، فانه قد

ص: 200

و فيه: أنه لا دليل على اعتبار الاستقراء، ما لم يفد القطع. و لو سلم فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار (1).

______________________________

اجتمع في الصلاة في هذه الايام مناط الوجوب و هو واضح لأنها من الفرائض المعلوم وجوبها، و مناط الحرمة و هو حرمة الصلاة في ايام الحيض.

فانه من المسلم ان حرمة الصلاة في ايام الحيض ذاتية و حيث انها يحتمل كونها من الحيض فقد رجح الشارع احتمال وجود مناط الحرمة على ما علم وجود مناط الوجوب فيه، فكيف بما يعلم وجود مناط الحرمة فيه؟

و كما في مسألة الوضوء من الإناءين المشتبهين اللذين احدهما نجس و الآخر طاهر، فان الوضوء من كلا الإناءين وضوء بماء طاهر قطعا اجمالا، و حيث انه لا بد من الوضوء بالماء النجس ايضا و الوضوء بالماء النجس حرام ايضا، فحيث في هذين الوضوءين يعلم اجمالا بارتكاب ما هو واجب و ما هو حرام و مع ذلك ورد النص باهراق الماء و الامر بالتيمم- يعلم منه ان جهة الحرمة اهم في نظر الشارع من جهة الوجوب، و إلّا لأمر بالوضوء منهما.

فالاستقراء قد دل على ان ديدن الشارع على الغاء جانب الوجوب اذا اجتمع مع الحرمة، فان حرمة الصلاة في ايام الاستظهار و عدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين قد دل على ذلك، لانه لو لا تغليب جانب الحرمة لأمر وجوبا بالصلاة في ايام الاستظهار و لأجاز الوضوء من الإناءين المشتبهين، بل لأوجبه في مورد انحصار الماء بهما و مع الانحصار قد أمر الشارع باهراق الماء و التيمم.

(1) توضيح الجواب عن ذلك: ان الاستقراء هو تتبع جميع الافراد بحيث يحصل العلم بان موضوع الحكم هو الكلي كما في استقراء جميع افراد النار- مثلا- فنرى كل فرد منها هو حار، فنحكم بان الحرارة هي حكم لطبيعة النار الموجودة بوجودها الخارجي، و اذا تخلف فرد واحد من الافراد لا يحصل العلم بان موضوع الاثر هو الطبيعي لاحتمال ان الاثر لخصوصية في الفرد.

ص: 201

و لو سلم فليس حرمة الصلاة في تلك الأيام، و لا عدم جواز الوضوء منهما مربوطا بالمقام، لأن حرمة الصلاة فيها إنما تكون لقاعدة الإمكان و الاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضا، فيحكم بجميع أحكامه و منها حرمة الصلاة عليها لا لأجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدعى. هذا

______________________________

فالاستقراء الذي هو من الادلة و البراهين العقلية القطعية هو ما اوجب العلم، و اما الاستقراء الموجب للظن فليس من الادلة العقلية القطعية و نتيجته الظن بان الحكم للكلي و لكنه ايضا اذا تخلف و لو في مورد واحد لا يعقل ان يحصل الظن بان الحكم للكلي و إلّا لما تخلف.

نعم اذا اريد من الاستقراء الغلبة فانه لا يضر التخلف في مورد او موردين و الغلبة من الادلة الظنية.

فاذا عرفت ان دليل الاستقراء لا بد و ان يكون استقراء لجميع الافراد حتى يفيد القطع- تعرف انه لا يحصل باستقراء موردين و فردين فقط، كما يظهر منهم حيث لم يذكروا الا هذين الموردين.

و هل يصح ان يدعي احد اثبات حكم للكلي من استقراء فردين من افراد الكلي؟

فالاستقراء الذي يصلح ان يكون دليلا هو المفيد للقطع و لا يصح من احد دعوى حصوله من موردين، و الاستقراء الظني ليس من البراهين العقلية القطعية.

و الحاصل: ان هذا الاستقراء الذي ذكروه دليلا لترجيح جانب الحرمة ان ادعوا انه يحصل من موردين فهي من الدعاوي الجزافية الواضحة، و ان كانت الدعوى انه موجب للظن فليس هو من الاستقراء العقلي، و لا دليل على اعتبار الاستقراء الظني لعدم وجود دليل على اعتبار مطلق الظن و لم يرد نص خاص على حجية الظن الاستقرائي بالخصوص بل و لا يفيد الغلبة ايضا، و الى هذا اشار بقوله: ( (و فيه انه لا دليل على اعتبار الاستقراء ما لم يفد القطع)).

ص: 202

لو قيل بحرمتها الذاتية في أيام الحيض، و إلا فهو خارج عن محل الكلام (1).

______________________________

(1) هذه المناقشة الثالثة و توضيحها: ان الموردين اللذين ادعى ثبوت الاستقراء بهما هما الصلاة في ايام الاستظهار و الوضوء من الإناءين المشتبهين، و الكلام في المورد الاول و هو الصلاة في ايام الاستظهار.

و الجواب عنه اولا: بان الاستقراء المدعى هو انه لو اجتمعت جهة الوجوب و جهة الحرمة فنرى ديدن الشارع على ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب، فجهة الحرمة بما هي جهة الحرمة مرجحة على جهة الوجوب.

و اما اذا ثبتت الحرمة للصلاة في ايام الاستظهار لأمارة او أصل يثبت ان الدم في ايام الاستظهار من مستمرة الدم هو حيض، فانه يخرج عن المقام و لا يكون مربوطا بدعوى ان الاستقراء يفيد ترجيح جانب الحرمة المحتملة على جانب الوجوب، فان الدليل المثبت للحيضية يجعل ايام الاستظهار حيضا، فاذا ثبتت حيضيته ترتبت عليه آثاره التي منها حرمة الصلاة، فالصلاة بما هي صلاة تكون محرمة.

و الكلام في المقام ان يجتمع عنوان الصلاة مع عنوان الحرمة لا ان تكون الصلاة بما هي صلاة محرمة، و حرمة الصلاة في ايام الاستظهار انما ثبتت لقاعدة الامكان المدعاة في خصوص الحيض، و هي ما امكن ان يكون حيضا فهو حيض و الدم في ايام الاستظهار يمكن ان يكون حيضا فهو حيض لقاعدة الإمكان او لاستصحاب الحيضية، فان الدم قبل ايام الاستظهار حيض قطعا و قد شك في حيضيته فتستصحب حيضيته، فحرمة الصلاة في ايام الاستظهار لثبوت الحيضية لقاعدة الإمكان و الاستصحاب، لا لان الحرمة بما هي حرمة مقدمة على الوجوب بما هو وجوب و الى هذا اشار بقوله: ( (لان حرمة الصلاة فيها انما تكون لقاعدة الإمكان و الاستصحاب ... الى آخر الجملة)).

و اجاب ثانيا: بما اشار اليه: ( (هذا لو قيل بحرمتها الذاتية)).

ص: 203

و من هنا انقدح أنه ليس منه ترك الوضوء من الإناءين، فإن حرمة الوضوء من الماء النجس ليس إلا تشريعيا، و لا تشريع فيما لو توضأ منهما احتياطا، فلا حرمة في البين غلب جانبها، فعدم جواز الوضوء منهما و لو كذلك (1)، بل إراقتهما- كما في النص- ليس إلا من باب

______________________________

و توضيحه: ان الكلام في المسألة ان يجتمع في المجمع عنوان الوجوب و عنوان الحرمة كالحركة الركوعية و السجودية في الدار المغصوبة و اذا كانت جهة الحرمة في نفس المتعلق كانت الحرمة ذاتية، و اما اذا كانت الحرمة في القصد فالحرمة تشريعية لا ذاتية، و اذا كانت الحرمة تشريعية لا يكون المورد الذي حكم الشارع بالحرمة فيه تشريعا لا ذاتا مربوطا بالمقام، لانه لا يكون في المورد جهة حرمة قد رجحها الشارع على جهة الوجوب بل الحرمة التشريعية موضوعها هو قصد الايجاد، فالموجود بالقصد التشريعي ليس في ذاته جهة حرمة و انما الحرمة في قصد ايجاده تشريعا فحرمة الصلاة في ايام الحيض اذا قلنا بان الحرمة تشريعية لا في نفس الصلاة لا يكون مربوطا بمقامنا، و قد قال جماعة بان حرمة الصلاة في ايام الحيض تشريعية لا ذاتية فلا يكون المورد مما حكم الشارع بحرمته لترجيح جانب الحرمة فيه على جانب الوجوب، و لذا قال: ( (هذا لو قيل بحرمتها الذاتية)): أي ان المورد انما يكون مما يوجب الظن بالتغليب حيث يكون حرمة الصلاة في ايام الحيض ذاتية لا تشريعية ( (و إلّا)): أي ان حرمة الصلاة في الحيض لو كانت تشريعية لا ذاتية ( (فهو خارج عن محل الكلام)):

أي ان المورد يخرج عما فيه الكلام، لان المجمع لا يكون في نفس ذاته جهة الحرمة.

هذا مضافا الى ان المشهور لا يقولون بحرمة الصلاة في ايام الاستظهار بل يقولون باستحباب ترك الصلاة في ايام الاستظهار.

(1) لما بين في الجواب الثاني ان الحرمة اذا كانت تشريعية لا في ذات المتعلق لا يكون المورد مربوطا بالمقام- اتضح الجواب عن المورد الثاني الذي ادعوا ان الاستقراء دل فيه على تغليب جانب الحرمة على جانب الوجوب، و هو حرمة الوضوء من الإناءين

ص: 204

التعبد (1) أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهرا بحكم الاستصحاب، للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضئ من الإناء الثانية، إما

______________________________

المشتبهين، فان حرمته تشريعية لا ذاتية بمعنى ان الحرام هو قصد ايجاد الوضوء من الإناءين بما انه هو واجب، و اما لو توضأ المكلف من الإناءين لا بقصد أن الوضوء منهما واجب بل بقصد الاحتياط فلا حرمة في هذا الوضوء، و لو كانت حرمة الوضوء من الإناءين ذاتية لما امكن الاحتياط.

و توضيح كون حرمة الوضوء من الإناءين تشريعية لا ذاتية ان المحرم الذاتي لا بد و ان يكون مقدورا و كذا كل منهي عنه او مأمورا، و متى كان تعلق النهي بشي ء يجعله غير مقدور لا بد و ان تكون حرمته تشريعية لا ذاتية، و الوضوء من هذا القبيل لان الشي ء تارة يكون عبادة بذاته كالركوع للمولى و السجود له، و اخرى يكون عبادة لاتيانه بقصد الأمر بحيث لو لا اتيانه بقصد امره لا يقع عبادة.

و من الواضح ان نفس غسل الوجه و اليدين ليس خضوعا للمولى بما هو غسل وجه و غسل يدين، و مع تعلق النهي به لا يمكن اتيانه بقصد الامر به اذ لا أمر به حتى يمكن ان يكون عبادة، و حيث ان متعلق النهي لا بد و ان يكون مقدورا فلا بد و ان يكون متعلق النهي قصد ايجاده بعنوان كونه واجبا، فان قصد التشريع مقدور فالحرمة في الوضوء تشريعية لا ذاتية، و اذا ثبت انها تشريعية فاتيان الوضوء من الإناءين لا بقصد الوجوب بل بقصد الاحتياط لا تشريع فيه فلا مانع منه.

و بعد وضوح كون حرمة الوضوء من الإناءين تشريعية لا ذاتية يخرج المورد عن المقام، لما عرفت من ان التغليب لجهة الحرمة لا يتم إلّا في ما اذا كانت حرمة الوضوء ذاتية لا تشريعية.

(1) هذا دفع دخل يمكن ان يورد على ما ذكره من كون حرمة الوضوء من الإناءين تشريعية لا ذاتية و انه لا مانع من اتيان الوضوء منهما من باب الاحتياط.

ص: 205

بملاقاتها، أو بملاقاة الاولى، و عدم استعمال مطهر بعده (1) و لو طهر

______________________________

و حاصله: انه لو كانت الحرمة للوضوء فيهما تشريعية لما ورد النص باهراق الماء و بالتيمم، لانه مع امكان اتيان الطهارة المائية لا وجه للحكم باهراق الماء و انتقال الفرض الى الطهارة الترابية، و الحال انه قد ورد النص بوجوب اهراق الماء و التيمم، فهذا مما يدل على ان حرمة الوضوء ذاتية لا تشريعية و إلّا لأمر الشارع بالوضوء منهما احتياطا.

و قد اجاب عنه بجوابين:

الاول: ما اشار اليه بقوله: ( (ليس إلّا من باب التعبد)).

و حاصله: ان وجوب اهراقهما و الغاء الوضوء منهما بعنوان الاحتياط امر تعبدي لا دلالة له على ان حرمة الوضوء منهما ذاتية لا تشريعية بعد قيام الدليل القطعي على عدم امكان كون حرمة الوضوء منهما ذاتية، و لعل مصلحته التسهيل في عدم وجوب الوضوء منهما بعنوان الاحتياط، و اما وجوب اهراقهما بناء على كون الأمر بالاهراق امرا وجوبيا مولويا لا ارشاديا الى عدم الانتفاع بهما من ناحية الشرب او الوضوء و ان الماء فيهما بحكم المعدوم هو محبوبية اعدام النجس و محوه من صفحة الوجود، و خصوصا في مثل الماء الذي هو في معرض الاستعمال و لو نسيانا.

(1) يشير بهذا إلى وجه ثان لأمر الشارع باهراق الماء و أمره بالتيمم.

و حاصله: ان الوجه في أمر الشارع باهراق الماء و الأمر بالتيمم هو ان الوضوء من الإناءين المشتبهين يوجب الابتلاء بالنجاسة، و طهارة البدن من النجاسة اهم من الوضوء لوجود البدل للوضوء و هو التيمم، بخلاف طهارة البدن من النجاسة فانها لا بدل لها.

و توضيح الحال: ان ماء الإناءين المشتبهين اذا كان من الماء القليل الذي هو دون الكر كما هو المتعارف في الاناء الذي هو موضع الاستعمال و عنه يقع السؤال فانه عند الوضوء من الاناء الثاني بعد الوضوء من الاناء الاول بمجرد ملاقاة ماء الاناء الثاني

ص: 206

.....

______________________________

للبدن الملاقي لماء الاناء الاول يحصل العلم بنجاسة البدن، لأن التطهير بالماء القليل يحتاج إلى التعدد، فلو فرضنا انه توضأ من الاناء الاول و لاحتمال كون الماء نجسا يطهر اعضاء الوضوء من الاناء الثاني و لا بد ان يكون التطهير بالصب على الاعضاء، فبمجرد ان يصب الماء يعلم علما حقيقيا بان العضو الذي صب عليه الماء هو نجس الآن، لانه اما ان يكون الماء الاول هو النجس فيكون عند ملاقاة الماء في الصبة الاولى باق على نجاسته فانه انما يطهر بعد الصبة الثانية.

و اما ان يكون الماء الثاني هو النجس فبمجرد ملاقاة العضو له بالصبة الاولى يكون العضو نجسا، و هذه النجاسة نجاسة شخصية معلومة التاريخ و نشك في ارتفاعها، لانها ان كانت من الاناء الثاني لا ترتفع بالصبة الثانية و ان كانت من الاناء الاول ترتفع، فالشك في ارتفاعها وجداني فتستصحب فيحكم هذا الاستصحاب بكون العضو الملاقي نجسا، و لا يعارض هذا الاستصحاب استصحاب طهارة العضو من بعد الصبة الثانية بان يقال انا نعلم- ايضا- علما حقيقيا بان هذا العضو طاهر في احد الازمنة التي ابتداؤها الوضوء من الاناء الاول الى انتهاء الصبة الثانية من الاناء الثاني، فان الماء النجس ان كان هو ماء الاناء الاول فقد طهر العضو بالصبة الثانية قطعا، و ان كان هو ماء الاناء الثاني فالعضو في زمان ملاقاته للاناء الاول طاهر قطعا فتستصحب طهارة العضو المحققة في ضمن هذا الزمان الممتد من اول استعمال ماء الاناء الاول الى آخر استعمال ماء الإناء الثاني بالصبة، الثانية، و يعارض استصحاب الطهارة استصحاب النجاسة فيتساقطان و تجري قاعدة الطهارة لان العضو مشكوك الطهارة فعلا و يعود محذور لزوم اهراق الماء.

و الجواب عنه: ان استصحاب الطهارة لا يجري لانه من مجهول التاريخ، و سيأتي في باب الاستصحاب ان مختار المصنف عدم جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ لعدم اتصال زمان الشك باليقين.

ص: 207

بالثانية مواضع الملاقاة بالاولى (1).

نعم لو طهرت على تقدير نجاستها بمجرد ملاقاتها، بلا حاجة إلى التعدد و انفصال الغسالة لا يعلم تفصيلا بنجاستها و إن علم بنجاستها حين ملاقاة الاولى أو الثانية إجمالا، فلا مجال لاستصحابها بل كانت قاعدة الطهارة محكمة (2).

______________________________

نعم بناء على جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ لعدم تمامية شبهة اتصال الشك باليقين فالاستصحابان متعارضان، و عليه فينحصر الجواب بالجواب الاول و لذلك لم يذكر المصنف معارضة استصحاب النجاسة باستصحاب الطهارة.

(1) لوضوح انه لو لم يطهر مواضع الملاقاة بالاناء الثاني فانه تكون النجاسة مقطوعة البقاء لان العضو قد تنجس اما بالاناء الاول و لم يطهر او بالاناء الثاني.

(2) يدل كلامه هذا على ان الكلام الاول في فرض كون الإناءين من الماء القليل لان الذي يطهر العضو بملاقاته من دون تعدد و لا انفصال هو الماء الكثير، و اما التطهير بالماء القليل فانه يحتاج الى تعدد الصب و انفصال الماء من الغسلة الثانية على المشهور.

و على كل فاذا كان الإناءان كرين و علم بنجاسة احدهما فلا يكون هناك علم بنجاسة شخصية معلومة التاريخ، لانه يحتمل ان يكون النجس هو الاناء الاول و بمجرد ملاقاة العضو للإناء الثاني يطهر من دون حاجة الى تعدد و لا انفصال الغسالة نعم لا بد من قيد آخر لم يذكره المصنف و هو انه لا بد و ان يكون ملاقاة العضو للماء الثاني ليس تدريجيا بل دفعة واحدة، فانه لو كان تدريجيا فبمجرد انغماس بعض العضو في الماء الثاني يعلم قطعا بان هذا العضو بعضه نجس بالفعل، لانه اذا كان الاناء الاول هو النجس فقد طهر بعض العضو بملاقاة الاناء الثاني و بعضه نجس فعلا، و ان كان الاناء الثاني هو النجس فقد تنجس بعض هذا العضو لملاقاته للاناء الثاني و هذه نجاسة شخصية معلومة التاريخ، و لا يعارض هذا الاستصحاب الشخصي للنجاسة المعلومة التاريخ استصحاب طهارة بعض العضو المعلومة التاريخ ايضا عند

ص: 208

الأمر الثالث: الظاهر لحوق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات و الجهات في أنه لو كان تعدد الجهة و العنوان كافيا مع وحدة المعنون وجودا في جواز الاجتماع كان تعدد الإضافات مجديا، ضرورة أنه يوجب أيضا اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة و المفسدة و الحسن و القبح عقلا، و بحسب الوجوب و الحرمة شرعا. فيكون مثل ( (اكرم العلماء)) و ( (لا تكرم الفساق)) من باب الاجتماع ك ( (صل))

______________________________

ملاقاة الاناء الثاني، لان استصحاب طهارة بعض العضو لا اثر له فان نجاسة بعض العضو كافية في ترتب آثار النجاسة.

و على كل فاذا كان الاناءان كرين و كانت الملاقاة دفعية لا يعلم بنجاسة معلومة التاريخ.

نعم يعلم بان العضو في هذا الزمان الممتد من اول استعمال الاناء الاول الى زمان ملاقاة الاناء الثاني قد تنجس، و هذا استصحاب لنجاسة مجهولة التاريخ و لا يجري هذا الاستصحاب عند المصنف، و لذا قال (قدس سره): ( (لا يعلم تفصيلا بنجاستها)): أي لا يعلم تفصيليا بنجاسة الاعضاء علما معلوم التاريخ ( (و ان علم نجاستها)) علما اجماليا في احد آنات هذا الزمان الممتد من ( (حين ملاقاة الاولى أو الثانية اجمالا فلا مجال لهذا الاستصحاب)) و حيث لا يجري الاستصحاب فقاعدة الطهارة محكمة و لذا قال: ( (بل كانت قاعدة الطهارة محكمة)) إلّا أنّك قد عرفت انه من الفرض النادر المطمئن بعدم السؤال عنه، و ان الإناءين المسئول عنهما و المأمور باهراقهما هما الظروف التي يكون بهما الاستعمال اكلا أو شربا او وضوءا و هما من الماء القليل لعدم تعارف استعمال ظرف يكون بحيث يسع كرا من ماء.

ص: 209

و ( (لا تغصب)) لا من باب التعارض (1) إلا إذا لم يكن للحكم في أحد

______________________________

(1)

الحاق تعدد الاضافات بتعدد العنوانات

حاصل هذا الامر هو كايراد على المجوزين.

و توضيحه: ان القائلين بالجواز في العنوانين المنطبقين على المجمع يلتزمون بكون المجمع يقع به امتثال الأمر و عصيان النهي، كالوضع الركوعي في الدار المغصوبة فانه يقع امتثالا للأمر بالصلاة و عصيانا للنهي عن الغصب، لان تعدد الجهة و العنوان موجبا لتعدد المعنون و ذي الجهة و لا يلتزمون بذلك في مثل اكرم العالم و لا تكرم الفساق مع انه مثله، و الدليل على كونه مثله هو ان الاكرام غير المضاف الى شي ء لا اقتضاء له لا الى عنوان حسن او قبيح و لا الى تأثير في مصلحة او مفسدة، و الوجوب و الحرمة تابعان اما الى الحسن و القبح أو الى المصلحة و المفسدة، و اضافة الاكرام الى العالم مقتض لانطباق عنوان حسن عليه او لكونه ذا مصلحة، و كذلك اضافته الى الفاسق مقتض لانطباق عنوان قبيح او لكونه ذا مفسدة، فالاكرام المضاف الى العالم حاله حال عنوان الصلاة، و الاكرام المضاف الى الفاسق حاله حال عنوان الغصب، فالاضافات موجبة لتعدد الاقتضاء و التأثير المختلف، فتعدد الاضافات اللاحقة للشي ء الذي لا اقتضاء له في نفس ذاته كتعدد العناوين موجبة لاجتماع المقتضيين المؤثرين- على رأي القائلين بالجواز- في اكرم العالم و لا تكرم الفاسق، فهذا الاكرام باعتبار اضافته إلى العالم موجب لأن يكون امتثالا لأمر اكرم العالم، و هذا الاكرام باعتبار اضافته الى الفاسق موجب لان يكون عصيانا للنهي عن اكرام الفاسق.

لكن القائلين بالجواز لا يلتزمون في مثل اكرم العالم و لا تكرم الفساق بذلك و لا يرون اكرام العالم الفاسق يقع امتثالا للأمر و عصيانا للنهي، بل يعاملون معه معاملة التعارض، و قد عرفت انه ينبغي ان يكون اكرم العالم و لا تكرم الفساق من باب الاجتماع كصل و لا تغصب، و لذا قال (قدس سره): ( (فيكون مثل اكرم العلماء و لا تكرم الفساق من باب الاجتماع كصل و لا تغصب لا من باب التعارض)).

ص: 210

الخطابين في مورد الاجتماع مقتض (1)، كما هو الحال أيضا في تعدد العنوانين (2).

______________________________

و لا يخفى ان المثال ينبغي ان يكون اكرم العالم لا اكرم العلماء، لانه لا بد في مسألة باب الاجتماع من المندوحة، و اكرم العلماء باعتبار انه استغراقي ينحل الى او امر بقدر العلماء فلكل عالم امر و حينئذ لا يكون هناك مندوحة، فيكون اجتماع الأمر و النهي من جهة الآمر و هو اجتماع آمرى، لا أن المكلف هو الذي جمع بينهما في مقام الامتثال، بخلاف اكرم العالم فان عمومه بدلي و يمكن المكلف ان يمتثل امر اكرام العالم بغير العالم الفاسق فيكون الاجتماع فيما لو اكرم العالم الفاسق بسوء اختيار المكلف و هو اجتماع مأموري لا آمري.

(1) أي ان معاملة باب التعارض مع الدليلين انما يكون فيما اذا لم يكن المقتضى للحكمين موجودا في مورد الاجتماع، و اذا كان موجودا فلا بد من ان يكون من باب الاجتماع.

و من الواضح ان الظاهر من الموضوع المترتب عليه الحكم كونه مقتضيا لترتب ذلك الحكم، عليه فلو قالوا بان في مثل اكرم العالم و لا تكرم الفساق لم يحرز المقتضى فهو قول غير ظاهر الوجه.

قوله (قدس سره): ( (كما هو الحال ايضا في تعدد العنوانين)): أي ان حال تعدد الاضافات كاكرم العالم و لا تكرم الفساق المتعدد لتعدد الاضافة كحال تعدد العنوانين في مثل صل و لا تغصب.

(2) هذا نتيجة ما مر و حاصله: ان القوم كلهم سواء القائلون بالجواز او القائلون بالامتناع يعاملون في مثل اكرم العالم و لا تكرم الفساق معاملة باب التعارض، و هو عندهم من تعارض الدليلين اللذين نسبتهما نسبة العموم من وجه لصدق اكرم العالم من دون لا تكرم الفساق في العالم العادل، و صدق لا تكرم الفساق من دون اكرم

ص: 211

.....

______________________________

العالم في الفاسق غير العالم، فيعملون بكل من الدليلين في مورده، و في مورد العالم الفاسق يقول كل بمختاره في المتعارضين من وجه.

و حيث عرفت ان تعدد الاضافات كتعدد العناوين فلا بد و ان يكون معاملتهم في المثال معاملة التعارض إما بناء على الامتناع و عدم احراز قوة احد المقتضيين، و قد مر انه بناء على الامتناع و عدم احراز قوة احد المقتضيين يكون المورد من باب التعارض على ما مر تفصيله، او لقولهم بان المثال مما لم يحرز فيه وجود كلا المقتضيين، و قد مر ايضا انه اذا لم يحرز المقتضى لكلا الحكمين يكون المورد من باب التعارض، و لذا قال (قدس سره): ( (انما يكون بناء على الامتناع او عدم المقتضى لاحد الحكمين في مورد الاجتماع)).

و لا يخفى ان هذا كله بناء على ان تعدد الاضافات كتعدد العناوين، و لكن المشهور لا يرون ان تعدد الاضافات كتعدد العناوين، بل يرون ان المقتضي للحكم هو المضاف و الاضافة من قبيل الشرط لتأثيره، و من الواضح انه لا يعقل ان يكون الشي ء الواحد مقتضيا لأثرين متضادين فالاكرام في المثال المتقدم لا يعقل ان يكون مقتضيا للوجوب و مقتضيا للحرمة، و على هذا فيكون المثال مما احرز فيه عدم وجود المقتضي للحكمين و لذلك يعاملون معه معاملة التعارض سواء القائلون بالجواز او القائلون بالامتناع.

و بعبارة اخرى: ان مسألة باب الاجتماع في الماهيتين او العنوانين المتصادقين على شي ء واحد لا في ماهية واحدة ذات اضافتين او عنوان واحد ذي اضافتين، فان المراد من الاجتماع هو ان يجتمعا في المصداق كالصلاة و الغصب لا في بعض مفهومهما و اكرم العالم و لا تكرم الفساق الاجتماع في مفهوم الاكرام لتعدد الاضافتين لا في المصداق.

ص: 212

فما يتراءى منهم من المعاملة مع مثل ( (أكرم العلماء)) و ( (لا تكرم الفساق)) معاملة تعارض العموم من وجه، إنما يكون بناء على الامتناع أو عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.

______________________________

انتهى بحمد اللّه باب اجتماع الامر و النهي في يوم السبت عاشر شوال المكرم سنة الالف و الثلاثمائة و الثامنة و السبعين هجرية على صاحبها و آله أفضل الصلاة و التحية، و نسأل اللّه بعونه الإتمام، و هو المستعان في كل أمر.

10 شوال 1378

ص: 213

فصل في أن النهي عن الشي ء، هل يقتضي فساده أم لا (1)؟

و ليقدم أمور:

الأول: إنه قد عرفت في المسألة السابقة الفرق بينها و بين هذه المسألة، و إنه لا دخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما، بما هو جهة البحث في الاخرى، و إن البحث في هذه المسألة في دلالة النهي بوجه يأتي تفصيله على الفساد بخلاف تلك المسألة، فإن البحث فيها في أن تعدد الجهة يجدي في رفع غائلة اجتماع الامر و النهي في مورد الاجتماع أم لا (2)؟

______________________________

(1)

فصل في أن النهي عن الشي ء، هل يقتضي فساده أم لا؟
الفرق بين هذه المسألة و مبحث الاجتماع

لا يخفى ان عنوان المسألة لا اختصاص له بالنهي المستفاد من اللفظ، لوضوح شموله للنهي المستفاد من الاجماع و العقل، فما يأتي في الأمر الثاني من احتمال كون النزاع في المسألة في الدلالة اللفظية و انها من مباحث الألفاظ لا بد فيه من تغيير عنوان المسألة، بأن يقال: هل يدل لفظ النهي بالدلالة الالتزامية على الفساد أم لا؟

الّا ان يدعى ان المنصرف من لفظ النهي هو خصوص المستفاد من اللفظ فتأمل.

(2)

هل تعد المسألة من مباحث الالفاظ

قد مر في الأمر الثاني من أمور مسألة الاجتماع تفصيل ذلك.

و مجمله: ان الفرق بين المسائل المتحدة موضوعا و محمولا في مقام البحث عنها في بابين أو أبواب من ذلك العلم هو الفرق بين المسائل الداخلة في علمين، فانها حيث يبحث عنها في كل علم لأجل جهة و غرض يترتب عليها في ذلك العلم غير الغرض و الجهة التي تترتب عليها في العلم الآخر فتعدد الجهة فيها هو الموجب لكونها من مسائل العلمين، كذلك الأمر في دخول المسألة الواحدة في بابين من علم واحد، فان تعدد الجهة في كل باب من أبواب ذلك العلم هو الموجب لدخول المسألة في البابين فتعدد الجهة هو الموجب لتعدد المسألة سواء في علمين أو في بابين.

و من الواضح ان الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة هو أن تعدد الجهة هل يجدي في رفع غائلة التضاد من اجتماع الأمر و النهي في شي ء واحد أن لا يجدي؟

ص: 214

الثاني: إنه لا يخفى أن عد هذه المسألة من مباحث الالفاظ، إنما هو لاجل أنه في الاقوال قول بدلالته على الفساد في المعاملات، مع إنكار الملازمة بينه و بين الحرمة التي هي مفاده فيها (1)، و لا ينافي ذلك أن

______________________________

و الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة هو أن النهي هل يدل على الفساد و عدم ترتب الأثر المقصود على المعاملة و العبادة أم لا؟

(1) هذا الأمر الثاني لبيان ان النزاع في هذه المسألة هل هو لفظي أو عقلي: أي ان النزاع في إنه هل هناك ملازمة بين مبغوضية العبادة و المعاملة و بين عدم ترتب الأثر عليهما أم إنه لا ملازمة بين المبغوضية و عدم ترتب الأثر، و على هذا فالنزاع في هذه المسألة عقلي لا لفظي.

أو ان النزاع في ان لفظ لا تفعل لكثرة استعماله بغرض عدم ترتب الأثر صار يدل بالالتزام- الحاصل من كثرة الاستعمال- على عدم ترتب الأثر و الفساد و ان لم تكن ملازمة عقلية أو عرفية بين المبغوضية و الفساد، و على هذا فالنزاع في هذه المسألة لفظي و لا يخفى أنه بحسب الإمكان كلا الأمرين ممكنان، اذ لا مانع عقلا في كون النزاع في هذه المسألة عقليا، و ان المدعي للفساد إنما يدعيه لأنه يرى ان بين المبغوضية و الفساد تلازم، و المنكر له لا يرى هذا التلازم.

كما أنه لا مانع من كونه لفظيا لأنهم لا يرون الملازمة بين المبغوضية و الفساد واقعا، و لكن المدعي للفساد يرى ان لفظ لا تفعل لكثرة الاستعمال بغرض عدم ترتب الأثر يدل على الفساد التزاما، و المنكر لذلك لا يرى ان للفظ لا تفعل هذه الدلالة الالتزاميّة، فحينئذ لا بد و ان يستكشف ان نزاعهم في المقام عقلي أو لفظي من قرائن المقام.

و لكن ينبغي ان لا يخفى ان النزاع في مرحلة الدلالة اللفظية انما هو في مرحلة الإثبات، و مرحلة الإثبات بعد مرحلة الثبوت، فلا بد لمن يجعل النزاع لفظيا ان يفرغ عن مرحلة الثبوت و يثبت انه لا ملازمة بين المبغوضية و الفساد، و الّا فلا فائدة لمنكر

ص: 215

.....

______________________________

الدلالة في مرحلة الإثبات حيث تثبت الملازمة بين المبغوضية و الفساد في مرحلة الثبوت.

و على كل فقد أشار المصنف الى قرينة تدل على كون النزاع في الدلالة اللفظية بقوله: ( (أنما هو لأجل أنه في الأقوال قول الى آخر كلامه)).

و حاصله: ان من جملة الأقوال في المسألة قول بكون النهي في المعاملة يدل على فسادها، و سيأتي ان من الواضح انه لا موهم لملازمة المبغوضية و الحرمة في المعاملة لفساد المعاملة و عدم ترتب أثرها عليها، فالقائل باقتضاء النهي في المعاملة للفساد معترف بأنه لا ملازمة بين الحرمة في المعاملة و الفساد فقوله بالفساد في المعاملة مع هذا الاعتراف منحصر في ان لفظ لا تفعل يدل التزاما على الفساد، و الدلالة الالتزامية لا يكون سببها دائما منحصرا في اللزوم الواقعي او اللزوم العرفي بل ربما يكون سببه كثرة استعمال لا تفعل لغرض الدلالة على ذلك.

و من الواضح ان القول المذكور في المسألة لا بد و ان يكون في موضوع تلك المسألة، فلو كان موضوع النزاع في هذه المسألة عقليا و في مرحلة الثبوت لكان هذا القائل ممن يقول بعدم اقتضاء النهي للفساد و عدم دلالته على ذلك، فعد هذا القول- و هو دلالة النهي على الفساد في المعاملة- قولا في ما هو محل النزاع في هذا المسألة دليل على ان محل النزاع في هذه المسألة هو الدلالة اللفظية و مرحلة الاثبات دون الملازمة الواقعية و مرحلة الثبوت.

و قد أشار المصنف الى ان القرينة على كون النزاع في المسألة في الدلالة اللفظية بقوله: ( (انما هو لأجل انه في الأقوال قول بدلالته)): أي بدلالة النهي ( (على الفساد في المعاملات)) و من الواضح أنه لا ملازمة في المعاملات بين الحرمة التي هي مدلول النهي و بين الفساد، و لذا قال: ( (مع إنكار الملازمة بينه)) أي بين الفساد ( (و بين الحرمة التي هي مفاده)) أي مفاد النهي ( (فيها)) أي في المعاملات.

ص: 216

الملازمة على تقدير ثبوتها في العبادة إنما تكون بينه و بين الحرمة و لو لم تكن مدلولة بالصيغة، و على تقدير عدمها تكون منتفية بينهما (1)،

______________________________

فالقول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع انكار الملازمة بين الحرمة و الفساد واقعا دليل على ان النزاع في المسألة في الدلالة اللفظية التي يمكن ان تكون مع عدم الملازمة بين الحرمة و الفساد واقعا.

(1) الظاهر ان هذا يتعلق بقوله ان عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ، فيكون حاصله انه ينافي عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ قرينة تقتضي عدّ هذه المسألة من المسائل العقلية، فهي قرينة على خلاف القرينة السابقة.

و يحتمل- أيضا- ان يكون مما يتعلق بنفس القرينة التي ذكرت لعدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ، و هي وجود قول بدلالة المعاملة على الفساد مع الاعتراف بعدم الملازمة بين الحرمة في المعاملة و الفساد، فان هذا القول واضح البطلان فلا ينبغي ان يكون قرينة على كون البحث في هذه المسألة بحثا في الدلالة اللفظية.

و على كل فحاصل هذه المنافاة التي دفعها بقوله لا ينافي هي ان كون هذه المسألة من مباحث الألفاظ ينافيه- أي ان مدعي الفساد في العبادات انما يقول لأجل- ان الملازمة بين الحرمة و الفساد في العبادات انما هي للملازمة بين المبغوضية و الفساد في العبادات، لأن ما به التقرب لا يكون مبغوضا و مبعدا، و هذه الملازمة انما هي بين الحرمة و الفساد سواء استفيدت الحرمة من دليل لفظي أو لبيّ كإجماع أو عقل، و المنكر لهذه الملازمة يقول بالصحة سواء كان الدليل على النهي لفظيا أو عقليا، فالفساد و الصحة يدوران مدار الملازمة الواقعية بين الحرمة و الفساد و هي أمر عقلي لا ربط له بالمباحث اللفظية.

و حيث أجاب المصنف عن هذه المنافاة بقوله لإمكان- كما سيأتي بيانه- نفي هذه المنافاة فقال: ( (لا ينافي ذلك)) أي: لا ينافي عدّ هذه المسألة من المسائل اللفظية ما ذكر قرينة لكون البحث في هذه المسألة عقليا و هو ( (ان الملازمة على تقدير ثبوتها في العبادة أنما تكون بينه)) أي بين الفساد ( (و بين الحرمة و لو لم تكن مدلولة بالصيغة))

ص: 217

لامكان أن يكون البحث معه في دلالة الصيغة، بما تعم دلالتها بالالتزام (1)، فلا تقاس بتلك المسألة التي لا يكاد يكون لدلالة اللفظ بها

______________________________

بأن كانت الحرمة مستفادة من دليل لبيّ كاجماع أو عقل، فالقائل بالفساد إنما يقول لهذه الملازمة الواقعية الفعلية ( (و على تقدير عدمها)) أي و على تقدير عدم هذه الملازمة الواقعية بين الفساد و الحرمة كما يقول بذلك من يقول بصحة العبادة المنهي عنها- كأبي حنيفة و من يرى رأيه- فالملازمة ( (تكون منتفية بينهما)) عنده، هذا على الظاهر المستفاد من عبارة المصنف من كونها قرينة على كون البحث في هذه المسألة عقليا لا لفظيا في قبال القرينة السابقة.

و أما بناء على احتمال تعلق العبارة بنفس القرينة فيكون المراد ان قول القائل بالفساد في المعاملات لدلالة النهي على ذلك لا معنى له، لان مرحلة الاثبات تتبع مرحلة الثبوت فان كانت ملازمة بين الفساد و الحرمة- كما يقول بها من يرى الفساد في العبادات لأن المبغوضية تنافي المقربية- فلا فرق في ذلك بين الحرمة المستفادة من دليل لفظي أو لبيّ و على فرض عدم الملازمة في مرحلة الثبوت بين الفساد و الحرمة- كما هو رأي أبي حنيفة و من تبعه- فلا يبقى مجال لدعوى دلالة الدليل الذي هو مرحلة الاثبات على ذلك بعد عدم تحقق الملازمة واقعا بين الفساد و الحرمة الذي هو مرحلة الثبوت، فان من الواضح ان مرحلة الإثبات تابعة لمرحلة الثبوت فاذا كان لا ملازمة في مرحلة الثبوت لا وجه لدعوى دلالة الدليل في مرحلة الاثبات على ذلك.

(1) هذا هو الجواب و لذلك قال لا ينافي ذلك لإمكان الى آخر كلامه.

و حاصله: ان هذه المنافاة غير منافية لعدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ و كون النزاع في دلالة لفظ النهي، فان دعوى دلالة لفظ النهي على الفساد انما هي لأجل الدلالة الالتزامية، و قد عرفت ان الدلالة الالتزامية ربما تكون للملازمة واقعا بين اللازم و الملزوم كالدخان و النار، و ربما تكون للملازمة العادية كحاتم و الجود، و ربما تكون لكثرة الاستعمال، فالنزاع في مرحلة الإثبات و الدلالة اللفظية لا يرتبط بالملازمة الواقعية، و كون مرحلة الإثبات فرع مرحلة الثبوت صحيح، و لكن لا يلزم ان تكون

ص: 218

مساس (1)، فتأمل جيدا.

______________________________

مرحلة الثبوت هي الملازمة الواقعية و عدمها، بل مرحلة الثبوت هو كثرة الاستعمال- مثلا- و عدمه، فالمدعي للدلالة يدعي ثبوتها و المنكر للدلالة ينكرها، و لذا قال:

( (لإمكان ان يكون البحث معه)) أي مع ثبوت الملازمة واقعا بين الحرمة و الفساد في العبادات و عدم ثبوت هذه الملازمة واقعا بينهما بأن يكون البحث ( (في دلالة الصيغة)) التي قد عرفت انه غير مربوط بثبوت الملازمة الواقعية و عدم ثبوتها لإمكان تحقق الدلالة اللفظية على الفساد و مع عدم الملازمة الواقعية بين الفساد و الحرمة بأن يدعى دلالة الصيغة بالدلالة الالتزامية على ذلك، قد عرفت ان الدلالة الالتزامية كما تكون للملازمة الواقعية كذلك تكون مع عدم الملازمة الواقعية للملازمة العرفية أو لكثرة الاستعمال.

قوله: ( (بما تعم دلالتها بالالتزام)).

لا تخلو هذه العبارة من مسامحة فان كون البحث في المسألة في الدلالة اللفظية ينحصر بالدلالة الالتزامية، و الّا فلو كان البحث في هذه المسألة في اصل اقتضاء النهي للفساد سواء كان لملازمة واقعية أو لدلالة التزامية لما حسن عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ بل تكون مسألة لها مساس في المباحث اللفظية.

(1) حاصله: في ان البحث في مسألة اجتماع الأمر و النهي حيث كان المهم اثبات ان اجتماع الأمر و النهي بعنوانين في واحد هل يجدي في رفع غائلة التضاد بين الأمر و النهي أم لا يجدي؟

فهم الباحثين حيث انه في تحقق التضاد و عدمه و ان من الواضح ان التضاد و عدمه انما هو بين الأمر و النهي سواء كانا مستفادين من دليل لفظي أو لبي يتضح ان البحث في مسألة الاجتماع لا بد و ان يكون عقليا، بخلاف هذه المسألة فان الغرض فيها ترتب الأثر و عدم ترتب الأثر، و مع عدم الملازمة واقعا بين الفساد و الحرمة يمكن ان يتحقق الفساد لأجل الدلالة اللفظية الالتزامية فيمكن ان يكون البحث فيها عقليا

ص: 219

الثالث: ظاهر لفظ النهي و إن كان هو النهي التحريمي، إلا أن ملاك البحث يعم التنزيهي، و معه لا وجه لتخصيص العنوان (1)، و اختصاص

______________________________

بأن يتفقوا على انه لا دلالة التزامية و ان النزاع انما هو في الملازمة الواقعية و عدمها، و يمكن ان يكون لفظيا بان يتفقوا انه لا ملازمة واقعا و لكن النزاع في الدلالة الالتزامية، و يمكن ان تكون عقلية و لفظية بأن يكون القول بالفساد لأجل أن يكون الدال على الفساد العقل للملازمة الواقعية، و اللفظ للدلالة الالتزامية، و ان يكون القول بالصحة لعدم الملازمة بالصحة لعدم الملازمة الواقعية و لعدم الدلالة الالتزامية.

قوله (قدس سره): ( (لا يكاد يكون)) ليس غرضه (قدس سره) انه من المحال كون البحث في مسألة الاجتماع لفظيا، بل غرضه بعد العلم بأن المهم لهم هو تحقق التضاد و عدمه نعلم قطعا بأن البحث في تلك المسألة عقلي لا لفظي.

(1)

شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي و التبعي

قد مر في مبحث مقدمة الواجب انقسام الأمر الى أقسام: وجوبي و استحبابي و نفسي و غيري و أصلي و تبعي، و النهي كذلك ينقسم- أيضا- الى تحريمي و تنزيهي و نفسي و غيري و اصلي و تبعي.

و لا إشكال في دخول النهي التحريمي في العنوان، و اما النهي التنزيهي فقد يقال بعدم شمول العنوان له، لدعوى انصراف لفظ النهي الى التحريمي بالخصوص، الّا انه لا وجه لخروجه عن محل النزاع و ان كان لفظ النهي منصرفا عنه، لان الملاك الموجب للفساد في التحريمي موجود في التنزيهي و هو ان الصحة في العبادة هي موافقة الأمر و النهي عن الشي ء يضاد الأمر به، فمع تحقق النهي عن العبادة لا بد و ان لا يكون لها أمر، فمع ارتفاع الأمر لا تحصل الصحة التي هي في العبادة بمعنى موافقة الأمر، و هذا الملاك بعينه موجود في النهي التنزيهي، فان النهي التنزيهي أيضا يضاد الأمر فان طلب الترك مضاد لطلب الإيجاد، و مع وجود الملاك فيه لا وجه لخروجه عن محل النزاع.

ص: 220

عموم ملاكه بالعبادات لا يوجب التخصيص به، كما لا يخفى (1).

______________________________

و بعبارة اخرى: ان الانصراف انما يعتني به فيما إذا لم تقم قرينة على خلافه، و قد قامت القرينة هنا على خلافه، فان عموم الملاك قرينة على دخوله في محل النزاع فلا وجه لعدم شمول لفظ النهي له، و لذا قال (قدس سره): ( (و معه)): أي و مع اقتضاء الملاك لدخوله ( (لا وجه لتخصيص العنوان)) أي لا وجه لتخصيص النهي بخصوص التحريمي، بل لا بد من شموله للتنزيهي ايضا.

(1) حاصله: ان هذا الملاك و هو كون الصحة بمعنى موافقة الأمر انما هي الصحة في العبادات، و أما الصحة في المعاملات فهي بمعنى ترتب الأثر لا بمعنى موافقة الأمر، و من ان طلب ترك المعاملة تنزيها لا مضادة له لترتب أثرها عليها فعموم الملاك يقتضي عدم الاعتناء بالانصراف في خصوص العبادات، و أما مع المعاملات فلا عموم للملاك و الغرض من لفظ النهي في العنوان شموله للمعاملات.

و الحاصل: ان النهي المذكور في عنوان المسألة يراد منه النهي عن العبادات و المعاملات، و الملاك المذكور يقتضي العموم في خصوص النهي العبادي دون النهي المعاملي، و حيث كان المراد من النهي ما يشمل العبادي و المعاملي فلا بد و ان يكون مرادا بنسق واحد، و لا يكون مرادا بنسق واحد إلّا ان يكون المراد منه خصوص النهي التحريمي، و قد أشار الى ما ذكرناه بقوله: ( (و اختصاص عموم ملاكه بالعبادات)).

قوله (قدس سره): ( (لا يوجب التخصيص)) هذا هو الجواب.

و حاصله: ان كون الملاك لا عموم له في المعاملات لا يقتضي ان يكون المراد منه خصوص التحريمي، لوضوح ان النهي نوعان: نهي متعلق بالعبادة و نهي متعلق بالمعاملة، و خروج فرد من احد النوعين لا يوجب خروج الفرد الداخل في النوع الآخر، فعدم دخول النهي التنزيهي في النهي المعاملي لعدم وجود ملاك لدخوله لا يوجب خروج الفرد التنزيهي في النهي العبادي مع وجود ملاك لدخوله.

ص: 221

كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي (1)، فيعم الغيري إذا كان

______________________________

و بعبارة أخرى: أنه لا موجب لأن يكون النهي في العنوان بجميع مراتبه ساريا في كلا النوعين، بل يجوز ان يكون النهي في العنوان غير مقيد بسريانه بجميع مراتبه في كلا النوعين فيشمل كل ما كان له ملاك الدخول في محل النزاع.

(1) قد عرفت ان من جملة انقسامات النهي انقسامه الى النفسي و الغيري، و لا اشكال في شمول لفظ النهي في العنوان للنفسي، و أما شموله للغيري فربما يشكل دخوله في العنوان بتوهم ان النهي الغيري لا مبغوضية فيه و لا عقاب عليه فلا يكاد يدخل في محل النزاع لعدم منافاته للأمر، لأن عدم المبغوضية لا تنافي المحبوبية بل المبغوضية تنافي المحبوبية و ما لا عقاب عليه لا ينافي الثواب عليه بل المنافي له هو العقاب عليه، و قد اجاب عنه بجواب و تأييد.

و حاصل الجواب: ان المنافاة إنما هي بين الحرمة و الوجوب لوضوح منافاة طلب الترك الفعلي.

و حاصل التأييد: أنه قد جعلت الثمرة للنزاع في ان الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده هو فساد الضد المهم، لأن الأمر بالأهم يقتضي الأمر بمقدمته، و من مقدمات الأهم عدم المهم فعدم الضد المهم مأمور به، و اذا كان عدم الضد مأمورا به فلا بد و أن يكون نقيضه و هو وجود المهم منهيا عنه، و اذا كان الضد منهيا عنه يكون فاسدا، لأن النهي عن الشي ء يقتضي فساده، و من الواضح ان هذا النهي المتعلق بوجود الضد نهي غيري لأنه نقيض للأمر الغيري و هو الأمر بعدم وجود الضد، فجعله ثمرة يدل على انهم يرون ان الحرمة تقتضي الفساد دون المبغوضية و العقاب:

أي ان طلب ترك الشي ء ينافي الأمر بالشي ء، و اذا كان لا أمر به و هو عبادة فلا بد و أن يكون فاسدا، فالصلاة في وقت الازالة باطلة لأن عدم الصلاة مأمور به لكونه مقدمة للإزالة و الأمر بعدم الصلاة لازمه النهي عن فعل الصلاة، فالصلاة اذا كانت

ص: 222

.....

______________________________

منهيا عنها لا يعقل ان تكون مأمورا بها، و الصحة في العبادة هي موافقة الأمر، و اذا كان لا أمر بها تكون فاسدة.

و لعل السبب في ذكره تأييدا هو مناقشته في هذه الثمرة إلّا ان المناقشة في الثمرة لا ينافي أنهم يرون ان الملازمة بين الحرمة و الفساد لا بين المبغوضية او العقاب و الفساد.

و يحتمل ان يكون السبب في كونه تأييدا هو ذهاب بعضهم الى ان الأمر بالشي ء عين النهي عن ضده، و هذا أيضا لا ينافي في كونه دليلا لان جلّ من ذكره ثمرة لا يرى ان الأمر بالشي ء عين النهي عن الضد.

و يحتمل ان يكون السبب في كونه تأييدا هو ان القائل بخروج النهي الغيري عن محل النزاع هو المحقق القمي لأنه يرى ان المبغوضية و استحقاق العقاب هو الملازم للفساد و المحقق القمي ينكر هذه الثمرة، و هذا ايضا لا ينافي كونه دليلا لان الغرض من كونه دليلا هو انه دليل على كون القوم يرون دخول النهي الغيري في محل النزاع و قد أشار المصنف الى الجواب عن توهم خروج النهي عن محل النزاع بقوله: ( (فان دلالته على الفساد على القول به)).

و لا يخفى ان المصنف أقحم بين الجواب المتعلق بالنهي الغيري و توهم خروجه عن محل النزاع هو تقسيم النهي الغيري الى الأصلي و التبعي، فان من الواضح ان قوله:

( (فان دلالته)) الى آخر كلامه مما يتعلق بالنهي الغيري و توهم خروجه عن محل النزاع.

و على كل فحاصل كلام المصنف: ان دلالة النهي على الفساد بناء على القول بدلالته على ذلك انما هي في الأمر المولوي المسوق بداعي الزجر و الردع عن الترك الشامل للنفسي و الغيري و هو محل النزاع لا النهي الارشادي الذي هو بداعي الارشاد الى الفساد، فإنه ليس من المحتمل وقوع النزاع فيه بعد ان كان النهي بداعي الارشاد الى الفساد، و هو المراد بقوله: ( (فيما لم يكن للإرشاد اليه)) أي: الى الفساد لخروجه عن محل النزاع قطعا، و انما محل النزاع هو الأمر المولوي، و القول

ص: 223

أصليا (1)، و أما إذا كان تبعيا، فهو و إن كان خارجا عن محل البحث، لما عرفت أنه في دلالة النهي و التبعي منه من مقولة المعنى، إلا أنه داخل فيما

______________________________

بالفساد فيه ( (إنما يكون لدلالته على الحرمة من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته)) لما عرفت ان المنافاة انما هي بين طلب الترك و الصحة التي هي موافقة الأمر في العبادة، و قد أشار الى التأييد بقوله: ( (و يؤيد ذلك الى آخر الجملة)).

بقي الكلام في المطلب الذي أقحمه في المقام و هو الأصلي و التبعي.

(1) قوله (قدس سره): ( (اذا كان أصليا)) توضيحه قد مر في مقدمة الواجب عند كلامه (قدس سره) في الأصلي و التبعي أنه يحتمل في الأصلي و التبعي احتمالان:

الأول ان يكون المراد من الأصلي ما كان مدلولا عليه بالأصالة، و التبعي ما كانت الدلالة عليه بالتبعيّة، و عليه فالدلالة محفوظة في الأصلي و التبعي فلا يكون التبعي من مقولة المعنى.

الثاني ان يكون المراد من الأصلي ما كان مرادا بإرادة تفصيلية، و التبعي ما كان مرادا بإرادة ارتكازية، و كلام المصنف مبني على هذا الاحتمال، فان التبعي الذي هو المراد بارادة ارتكازية غير ملتفت اليها لا بد و ان لا يكون له دلالة لفظية فيكون من مقولة المعنى، بخلاف المراد بارادة تفصيلية فإنه اذا كان مرادا من النهي لا بد و ان تكون هناك دلالة لفظية فيدخل في محل النزاع في كون النهي هل يدل على فساده ام لا؟ و لذا قال (قدس سره): ( (فيعم الغيري)) أي ان النهي المذكور في العنوان من انه هل يدل على فساد ما تعلق به ام لا يعم النهي الغيري ( (اذا كان)) النهي ( (أصليا)) لوجود الدلالة اللفظية على القول بدلالة النهي على الفساد ( (و أما اذا كان تبعيا فهو و ان كان خارجا عن محل البحث لأنه اذا كان ارتكازيا فلا بد و أن لا يكون ملتفتا اليه بالفعل مع عدم الالتفات لا يعقل ان تكون له دلالة لفظية، و لذا قال: ( (لما عرفت انه في دلالة النهي)) هذا تعليل لخروجه عن عنوان البحث.

ص: 224

.....

______________________________

و حاصله: ان الكلام في دلالة النهي و ما ليس له دلالة لفظية يكون خارجا عن محل البحث في الدلالة اللفظية و لذا قال: ( (و التبعي منه من مقولة المعنى)) لعدم تحقق الدلالة اللفظية فيه ( (إلّا أنه داخل)) في محل النزاع لدخوله ( (فيما هو ملاكه)) لأن الملاك في النزاع هو اقتضاء الحرمة للفساد و النهي التبعي و ان لم يكن نهيا لفظيا إلّا انه دال على الحرمة، فملاك النزاع موجود فيه و ان لم يشمله العنوان.

قوله (قدس سره): ( (فان دلالته على الفساد الخ)). لا يخفى ان ظاهر السياق بدوا كونه تعليلا لدخول التبعي إلّا ان قوله في طي عبارته ( (من غير دخل لاستحقاق العقوبة الى آخر كلامه)) دليل على انه تعليل لعموم العنوان في المسألة للنهي الغيري فهو متعلق بقوله: ( (فيعم الغيري)) و ان الكلام في التبعي انتهى بقوله فيما هو ملاكه و الحاصل: ان النهي داخل في عنوان المسألة لامرين:

الاول: ان الكلام في هذه المسألة هو ان ما يدل على حرمة المنهي عنه هل يدل على فساده و عدم ترتب اثره عليه ام لا و النهي مما لا ريب في دلالته على الحرمة فيكون مشمولا للعنوان، نعم بناء على ما ظهر من المحقق القمي من ان الكلام في دلالة النهي الذي يترتب عليه العقاب هل يدل على الفساد ام لا لا يكون النهي الغيري خارجا، إلّا ان هذا التوهم لا وجه لان الملازمة المدعاة انما هي بين الحرمة و الفساد لا بين استحقاق العقاب و الفساد.

الامر الثاني الذي اشار اليه بقوله: ( (و يؤيد)) و حاصله: ان ثمرة النزاع في مسألة ان الامر بالشي ء هل يقتضي النهي عن ضده هي فساد العبادة الذي كان النهي المتعلق بها غيريا و هذا يقتضي شمول العنوان في هذه المسألة للنهي الغيري كما تقدمت الاشارة اليه و ينبغي ان لا يخفى هذا كما يدل على دخول النهي في المسألة يدل ايضا على فساد ما توهمه المحقق القمي من ان الكلام فيما يترتب عليه العقاب و الفساد لما عرفت في مقدمة الواجب من ان النهي الغيري لا عقاب عليه كما ان الامر الغيري لا ثواب عليه.

ص: 225

هو ملاكه، فإن دلالته على الفساد على القول به فيما لم يكن للارشاد إليه، إنما يكون لدلالته على الحرمة، من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك، كما توهمه القمي (قدس سره) و يؤيد ذلك أنه جعل ثمرة النزاع في أن الامر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده، فساده إذا كان عبادة، فتدبر جيدا.

الرابع: ما يتعلق به النهي، إما أن يكون عبادة أو غيرها، و المراد بالعبادة- هاهنا- ما يكون بنفسه و بعنوانه عبادة له تعالى، موجبا بذاته للتقرب من حضرته لو لا حرمته، كالسجود و الخضوع و الخشوع له و تسبيحه و تقديسه (1)، أو ما لو تعلق الامر به كان أمره أمرا عباديا،

______________________________

(1)

تعريفات العبادة و الايراد عليها

لا يخفى ان متعلق النهي اما ان يكون عبادة أو معاملة، و المراد من المعاملة هي مقابل العبادة أي ما ليس بعبادة، و لذا يستغنى بتعريف العبادة عن تعريف المعاملة.

و لا يخفى ان المراد من العبادة التي عرفها المصنف و عرفها القوم هي العبادة التي لو لا تعلق النهي بها لكانت صحيحة، فيخرج عن موضوع العبادة التي وقعت لها التعاريف مثل السجود للصنم اذ ليس لها لو لا النهي صحة حتى يتوهم دخولها في التعريف.

و على كلّ فقد قسم المصنف العبادة الى ذاتية و غير ذاتية، و العبادة الذاتية هي التي لو لا تعلق النهي بها لكان وقوعها مقربة الى اللّه لا يحتاج الى قصد الى اتيانها بقصد الأمر- مثلا- الركوع للّه و السجود له و تسبيحه و تهليله و تكبيره و تقديسه لا يحتاج الى قصد الأمر في كونه عبادة للّه تعالى، فان العبادة الذاتية له عزّ و جل تتوقف على أمرين كلاهما موجودان في قصد تعظيمه و قصد الخضوع له:

الأول: ان يكون العنوان المقصود حسنا و قصد الخضوع للّه عدل في العبودية بخلاف مثل قصد الأكل و الشرب، فان قصد عنوان الأكل و الشرب ليسا من العناوين التي هي عدل في العبودية.

ص: 226

.....

______________________________

الأمر الثاني: ان يكون مربوطا و منسوبا اليه تعالى فإن إتيان مطلق العناوين الحسنة كعدم ظلم الناس و عدم الاعتداء عليهم من العناوين الحسنة التي بنى العقلاء عليها حفظا للنظام و ابقاء للنوع، إلّا انها اذا اتى بها لا لأن اللّه امر بها لا تقع عبادة للّه و ان وقعت حسنة لان عبادة اللّه هي المنسوبة اليه تعالى، و اذا فرض انه لم يأت بها مرتبطة باللّه لا تكون عبادة له و الخضوع للّه لا اشكال في ارتباطه به.

فالأمران متحققان في الركوع و السجود و التقديس له تعالى لارتباطها به و انطباق عنوان حسن عليها، و مثل هذه العبادة هي العبادة الذاتية التي يكفي قصد عنوانها في عباديتها من دون قصد اتيانها بعنوان الامتثال للأمر و توجب بذاتها القرب من ذاته و حضرته.

نعم لو تعلق بها النهي مولويا لا تقع مقربة لأن النهي عنها مولويا لمبغوضيتها يمنع من وقوعها مقربة لان المبغوض لا يقرب لوضوح كون المبغوض له مبعدا عنه فكيف يكون مقربا له و لذا قال (قدس سره): ( (و المراد بالعبادة هاهنا)) التي تعلق بها النهي الشاملة للعبادة الذاتية و غير الذاتية، و أشار أولا الى العبادة الذاتية بقوله: ( (ما يكون بنفسه و بعنوانه عبادة له تعالى موجبا بذاته)) أي نفس قصد العنوان من دون حاجة الى قصد امتثال الأمر ( (للتقرب من حضرته لو لا حرمته)) لما عرفت من مانعية الحرمة للتقرب و هي ( (كالسجود و الخضوع و الخشوع له و تسبيحه و تقديسه)) فان نفس قصد هذه العناوين كافية في وقوع الفعل قربيّا من دون حاجة الى اتيانها بقصد امتثال أمرها.

ص: 227

لا يكاد يسقط إلا إذا أتى به بنحو قربى، كسائر أمثاله، نحو صوم العيدين و الصلاة في أيام العادة (1)، لا ما أمر به لاجل التعبد به، و لا ما

______________________________

(1) لما ذكر العبادة الذاتية أشار الى العبادة غير الذاتية، و قد عرفها بأنها: ( (ما لو تعلق الأمر به كان أمره أمرا عباديا)) اي ( (لا يكاد يسقط إلّا اذا أتى به بنحو قربى)) لما كان المفروض تعلق النهي بهذه العبادة عرّفها بنحو التعليق.

و حاصله: ان الفعل العبادي الذي ليس من العبادة الذاتية هو الفعل الذي لو فرضنا انه كان متعلقا للأمر لكان أمره ليس أمرا توصليا يسقط باتيان نفس الفعل و ان لم يقصد به امتثال الأمر بل كان أمره المتعلق بهذا الفعل لا يسقط إلّا اذا اتى بالفعل بداعي امتثال امره.

و قد مثل له المصنف بصوم يوم العيدين و بالصلاة في أيام العادة أما صوم يوم العيدين فمن الواضح أنه ليس من العبادة الذاتية لأنه ليس كل شي ء قصد باتيان كونه للّه و مرتبطا به يكون حسنا بالذات فان الصوم ليس إلّا الامساك، و عدم الأكل و الشرب كالأكل و الشرب ليس بذاته من العناوين كعنوان تعظيم اللّه، و قد عرفت ان العبادة الذاتية تحتاج الى كونه حسنا بالذات و انه مرتبط به تعالى.

و اما الصلاة في أيام العادة فقد يقال: إنها عبادة ذاتية لان الصلاة مجموعة أمور كلها عبادة ذاتية لأنها تكبير اللّه و قراءة ذكره المجيد و الركوع و السجود له و التشهد و كل هذه عبادة ذاتيه إلّا انها حيث كان التسليم من اجزاء الصلاة و التسليم ليس من العبادات الذاتية فهي من حيث المجموع ليس عبادة ذاتية و ان كان بعض اجزائها أو جلها عبادة ذاتية.

ثم لا يخفى ان تعريف المصنف للعبادة غير الذاتية حيث اشتمل على لفظ عباديّا أورد عليه بعضهم بأنه دوري و لكنه غير وارد عليه:

أولا: لأن المصنف يرى ان تعاريف القوم تعاريف لفظية فكيف بتعريف نفسه.

ص: 228

يتوقف صحته على النية، و لا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شي ء، كما عرف بكل منها العبادة، ضرورة أنها بواحد منها، لا يكاد يمكن أن يتعلق بها النهي، مع ما أورد عليها بالانتقاض طردا أو عكسا، أو بغيره، كما يظهر من مراجعة المطولات، و إن كان الاشكال بذلك فيها في غير محله، لاجل كون مثلها من التعريفات، ليس بحد و لا برسم، بل من قبيل شرح الاسم كما نبهنا عليه غير مرة، فلا وجه لإطالة الكلام بالنقض و الابرام في تعريف العبادة، و لا في تعريف غيرها كما هو العادة (1).(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 3 ؛ ص229

______________________________

و ثانيا: إنه لم يكتف بذكر لفظ عباديا بل فسره بقوله لا يكاد يسقط الى آخره، و بعد تفسيره للفظ العبادي لا يكون دورا فان العبادة و ان توقفت على لفظ العبادي لاخذه في تعريفها إلّا ان لفظ العبادي غير متوقف على العبادة بعد أن فسره بقوله:

لا يكاد.

(1) لما فرغ من تعريف العبادة بقسميها أشار الى تعاريف القوم للعبادة، و التعاريف التي أشار اليها المصنف ثلاثة:

الأول: ان العبادة ما أمر به لأجل التعبد به، و حيث أنهم لم يفسروا في التعريف لفظ التعبّد فيرد عليه انه دوري لتوقف معرفة العبادة المعرفة على جميع أجزاء تعريفها و من جملة أجزائه لفظ التعبد الذي هو نفس العبادة، فان العبادة مصدر عبد و التعبّد مصدر تعبّد، و من الواضح ان مصدر الفعل الزائد على الثلاثي موقوف على معرفة مصدر الثلاثي.

الثاني: ان العبادة ما يتوقف صحته على النية.

و يرد عليه: انه منتقض طردا أي أنه غير مانع لصدقه على التوصلي اذا كان الأمر المتعلق به يتوقف على قصد عنوان له كرأي الشيخ في مقدمة الواجب، فان أمر المقدمة مع انه توصلي لا يسقط على رأيه من دون قصد عنوان التوصل بالمقدمة.

ص: 229


1- 8. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

.....

______________________________

الثالث: ان العبادة ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شي ء: أي ان العبادة هي التي لم يعلم المصلحة الداعية الى الأمر بها، بخلاف غير العبادة فان مصلحة الأمر فيها معلومة، فان غسل القذر- مثلا- مصلحته ازالة القذر، و دفن الميت- مثلا- مصلحته ستر الميت عما يحدث في بدنه بعد الموت و حفظ الأحياء من ضرر ذلك.

و يرد عليه: أنه غير مانع.

أولا: لأن بعض المعاملات- أيضا- لا يعلم مصلحتها كاشتراط كون صيغة النكاح أو صيغة البيع ماضوية، و كاشتراط التنجيز في المعاملة.

و ثانيا: انه منقوض عكسا: أي أنه غير جامع لان بعض العبادات المصلحة فيها معلومة كالزكاة- مثلا-.

و قد أورد المصنف على جميع الثلاثة بايراد يشملها، و حاصله:

ان ظاهر التعريف الأول و هو ما أمر به لأجل التعبد ان وجود الأمر و تعلقه بها شرط في تحقق عنوان العبادة، و مفروض محل النزاع ان العبادة التي هذا تفسيرها هي متعلقة للنهي، و من الواضح انه لا يعقل ان يتعلق النهي بالشي ء بما هو متعلق للأمر بالفعل.

و كذلك التعريف الثاني و هو ما يتوقف صحته على النية فان الظاهر أن العبادة المتعلق بها النهي لها صحة بالفعل تتوقف الصحة فيها على النية، و فرض كون ان لها صحة بالفعل على النية هو كونها متعلقة للأمر، و قد عرفت انه لا يعقل ان يتعلق النهي بالمأمور به بما هو مأمور به.

و كذلك أيضا التعريف الثالث و هو ما لا يعلم انحصار مصلحته في شي ء فان الظاهر ان متعلق النهي هو الذي له مصلحة بالفعل و لكن لا يعلم ما هي و كونه له مصلحة بالفعل يتوقف على ان لا يتعلق به نهي، فان تعلق به لا بد و أن يكون لمفسدة غالبة على مصلحته، و الفعل ذو المصلحة المغلوبة كالفعل الذي لا مصلحة فيه.

فاتضح ان الفعل الذي له مصلحة بالفعل لا يتعلق به النهي.

ص: 230

الخامس: إنه لا يدخل في عنوان النزاع إلا ما كان قابلا للاتصاف بالصحة و الفساد، بأن يكون تارة تاما يترتب عليه ما يترقب عنه من الاثر، و أخرى لا كذلك، لاختلال بعض ما يعتبر في ترتبه، إما ما لا أثر له شرعا، أو كان أثره مما لا يكاد ينفك عنه، كبعض أسباب الضمان، فلا يدخل في عنوان النزاع لعدم طروء الفساد عليه كي ينازع في أن النهي عنه يقتضيه أو لا، فالمراد بالشي ء في العنوان هو العبادة بالمعنى الذي تقدم، و المعاملة بالمعنى الاعم، مما يتصف بالصحة و الفساد، عقدا كان أو إيقاعا أو غيرهما، فافهم (1).

______________________________

و الى هذا الايراد الذي يرد على هذه التعاريف الثلاثة اشار بقوله: ( (ضرورة انها بواحد منها لا يكاد يمكن ان يتعلق بها النهي)).

ثم اشار الى ما أورد عليها الانتقاض بالطرد و العكس بقوله: ( (مع ما أورد عليها بالانتقاض طردا أو عكسا)) و قد عرفت انه يرد على الثاني الانتقاض طردا، و على الثالث الانتقاض طردا و عكسا.

ثم قال: ( (أو بغيره)) و قد أشار بهذا الى ايراد الدور الذي يرد على التعريف الأول.

قوله (قدس سره): ( (و ان كان الاشكال الخ)) قد مرّ من المصنف و يأتي انه يرى ان التعاريف المذكورة في كتب القوم تعاريف لفظية و رأيه في التعريف اللفظي لا بد ان لا يكون بالحد و لا بالرسم بل هو لصرف شرح الاسم بوجه ما.

(1) لا يخفى ان عنوان هذه المسألة: هو ان النهي عن الشي ء يقتضي فساده ام لا؟

فالمراد من فساده عدم ترتب أثره عليه، و المراد من عدم فساده و صحته هو ترتب أثره عليه، فهذا العنوان يحدد الموضوع المتنازع فيه بأنه الذي له أثر شرعي يمكن ان يترتب عليه تارة و يمكن ان لا يترتب عليه اخرى.

ص: 231

.....

______________________________

أما ما ليس له أثر شرعي كالأكل و الشرب- مثلا- فانهما و ان كان لها حكم اذ لا تخلو واقعة عن حكم إلّا انه ليس لهما أثر يترتب عليهما تارة و لا يترتب عليهما أخرى فمثل هذا خارج عن موضوع هذه المسألة.

و يخرج عن موضوع هذه المسألة أيضا ما كان له أثر شرعي و لكنه لا يعقل انفكاكه عنه كالإتلاف- مثلا- فانه موجب لضمان المتلف من دون تقيّده بشي ء فسواء كان باختياره أو لا باختياره و سواء كان صغيرا أو كبيرا و سواء كان ملتفتا أو غير ملتفت كالنائم- مثلا- فانه يوجب الضمان، فالإتلاف علة تامة لترتب الضمان فليس الاتلاف حينئذ مما يترتب عليه الضمان تارة و لا يترتب عليه اخرى، و ليس له صحة مرة و فساد اخرى حتى يكون داخلا في النزاع في ان النهي عن الشي ء هل يقتضي فساده ام لا؟

و قد أشار المصنف الى الأول بقوله: ( (اما ما لا أثر له شرعا)).

و أشار الى الثاني بقوله: ( (او كان اثره مما لا يكاد ينفك عنه كبعض أسباب الضمان)) الى آخر الجملة.

و قد أشار الى العلة في عدم الدخول بقوله: ( (لعدم طروء الفساد عليه)) فان ما لا أثر له شرعا لا يطرأ عليه الفساد لانه من السالبة بانتفاء الموضوع، و ما لا ينفك عنه أثره أيضا لا يطرأ عليه الفساد لعدم امكان تخلف المعلول عن العلة التامة و كانت علته بسيطة كالإتلاف.

و يدخل في موضوع النزاع في هذه المسألة العبادة بقسميها الذاتية و غير الذاتية فانها لها أثر و هو موافقة المأتي به المأمور به تارة و عدم موافقته أخرى، و المعاملة و قد عرفت ان المراد بالمعاملة هو المقابلة للعبادة فمثل العقود كالنكاح و البيع و مثل الايقاع كالطلاق و الفسق و غيرهما كالغسل للتطهير بالفتح لان الغسل بالضم مما يدخل في العبادة، و الى هذا أشار بقوله: ( (فالمراد بالشي ء في العنوان هو العبادة بالمعنى الذي

ص: 232

السادس: إن الصحة و الفساد و صفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار و الانظار، فربما يكون شي ء واحد صحيحا بحسب أثر أو نظر و فاسدا بحسب آخر.

و من هنا صح أن يقال: إن الصحة في العبادة و المعاملة لا تختلف، بل فيهما بمعنى واحد و هو التمامية، و إنما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار التي بالقياس عليها تتصف بالتمامية و عدمها، و هكذا الاختلاف بين الفقيه و المتكلم في صحة العبادة، إنما يكون لاجل الاختلاف فيما هو المهم لكل منهما من الاثر، بعد الاتفاق ظاهرا على أنها بمعنى التمامية، كما هي معناها لغة و عرفا. فلما كان غرض الفقيه، هو وجوب القضاء، أو الاعادة، أو عدم الوجوب، فسر صحة العبادة بسقوطهما، و كان غرض المتكلم هو حصول الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة، فسرها بما يوافق الامر تارة، و بما يوافق الشريعة اخرى (1).

______________________________

تقدم)) أي بقسميها ( (و المعاملة بالمعنى الأعم)) و هي المقابلة للعبادة لا خصوص المعاملة بالمعنى الأخص التي لا تشمل مثل الغسل للتطهير.

و على كل فالمعاملة بالمعنى الأعم داخلة في النزاع لأنها ( (مما يتصف بالصحة و الفساد عقدا كان)) كالبيع و النكاح ( (أو ايقاعا)) كالطلاق أو العتق ( (أو غيرهما)) كالغسل للتطهير.

قوله: ( (فافهم)) لعلة اشارة الى انه لا يوجد علة تامة بسيطة لأثر من الآثار الشرعية فان الاتلاف الذي ذكر مثالا لذلك أيضا له شرط و هو كونه بغير اذن المالك أو الولي، فيكون مما يترتب عليه الضمان مرة و عدم الضمان اخرى.

(1)

تفسير وصفي الصحة و الفساد

الفرق بين الوصف الاضافي و التضايف: هو ان المعنى التضايفي أمر واقعي لا يختلف بحسب الانظار و ان اختلف بحسب الجهات، فالفوقيّة و التحتيّة لا تختلف

ص: 233

.....

______________________________

و الفوق فوق بحسب كل الانظار و كذلك التحت، و ان اختلفت الفوقيّة و التحتيّة بحسب الجهات، فالفوق يكون فوقا بالنسبة الى ما تحته و يكون تحتا بالنسبة الى ما فوقه، بخلاف الوصف الإضافي كالصحة و الفساد فان الشي ء الواحد ربما يكون بحسب نظر صحيحا و بحسب نظر آخر فاسدا.

ثم لا يخفى- أيضا- ان الغرض من هذا الأمر السادس بيان أمرين:

الأول: ان الصحة و الفساد في العبادة و المعاملة ليس الاختلاف فيهما في ناحية المفهوم، و انما الاختلاف فيهما من ناحية المصداق.

الثاني: ان الاختلاف في تفسير الصحة و الفساد بين الفقيه و المتكلم أيضا ليس للاختلاف في مفهوم الصحة و الفساد، و انما الاختلاف بينهما في تفسير الصحة و الفساد، لان الأثر المهم بحسب نظر الفقيه هو غير الأثر المهم بحسب نظر المتكلم.

و لا يخفى ان الصحة هي التامية فهذا الشي ء صحيح أي انه تام، و الفساد عدم التامية فالفساد هو غير التام.

و قد عرفت فيما سبق ان من الأشياء ما لا يتصف بصحة و لا فساد كالشي ء الذي لا أثر له أو الذي له أثر و لكن لا ينفك عنه.

فيظهر من هذا ان تقابل الصحة و الفساد تقابل العدم و الملكة حيث ان الصحة هي التماميّة و الفساد عدم التماميّة، و بعض الأشياء لا تتصف بصحة و لا فساد، فحينئذ لا يتصف بالصحة و الفساد الّا ما يمكن ان يكون صحيحا و يمكن ان يكون فاسدا، فما له هذه الشأنيّة هو الذي يمكن ان يتصف بهما، فحيث انهما متقابلان بالوجود و العدم و انه يخلو عن الاتصاف بهما بعض الأشياء فلا بد و ان يكون تقابلهما تقابل العدم و الملكة، لأن تقابل السلب و الإيجاب لا يعقل ان يخلو عن الاتصاف باحدهما شي ء من الأشياء، فان العمى و البصر يخلو عن الاتصاف بهما الجدار مثلا، و البصر و اللابصر لا يخلو عن الاتصاف بهما مثل الجدار فان الجدار و ان لم يصدق عليه انه اعمى لكن يصدق عليه انه لا بصر له.

ص: 234

.....

______________________________

و لا يخفى أيضا ان بعض الأشياء يمكن ان يكون له آثار تترتب عليها بحسب ما لها من الشروط لتلك الآثار، فربما يترتب عليه أثر اذا وجد شرط ذلك الأثر و يكون فاقدا له اذا لم ينضم اليه ما هو شرط ذلك الأثر و لكن يترتب عليه أثر آخر لانه واجد لشرطه، مثلا عقد النكاح يترتب عليه نكاح المتعة اذا ذكر فيه الأجل و لا يترتب عليه نكاح المتعة اذا لم يذكر فيه الأجل و ان قصد به نكاح المتعة و لكن يترتب عليه النكاح الدائم فيكون عقد النكاح المقصود به المتعة غير المذكور فيه الأجل فاسدا من ناحية نكاح المتعة و صحيحا من ناحية النكاح الدائم.

فاتضح ان الشي ء الواحد ربما يكون صحيحا من ناحية أثر و فاسدا من ناحية أثر آخر.

و لا يخفى أيضا ان الأثر في العبادة هو القضاء و الاعادة، فاذا قيل في العبادة انها صحيحة: أي انها لا توجب القضاء و الاعادة، و العبادة الفاسدة هي التي توجب القضاء او الاعادة، و الأثر في المعاملة هو ترتب المسبب على السبب الذي يتسبب به الى ذلك المسبب، فعقد البيع- مثلا- الصحيح هو الذي يترتب عليه الملكية و عقد البيع الفاسد هو الذي لا يترتب عليه الملكية، فالمراد بالصحة و الفساد في المعاملة هو ترتب المسبب على ذلك السبب و عدم ترتبه عليه.

فالصحة و الفساد في العبادة و المعاملة بمعنى واحد و هو التمامية و عدم التماميّة و لكن التماميّة في العبادة بانها لا توجب القضاء و الاعادة و عدم التمامية فيها بانها توجب القضاء او الاعادة، و التمامية في المعاملة ترتب مسببها عليها و عدم تماميتها بعدم ترتب مسببها عليها فليس الاختلاف في التعبير عن الصحة او الفساد في العبادة بانها ما لا توجب القضاء او الاعادة و ما توجب ذلك و التعبير عن الصحة و الفساد في المعاملة كالبيع الصحيح- مثلا- بان ما تترتب عليه الملكية و الفاسد ما لا تترتب عليه الملكية لأجل ان الصحة و الفساد في العبادة قد استعملتا في مفهوم غير المفهوم الذي قد استعملت فيه الصحة و الفساد في المعاملة، بل الصحة و الفساد في كليهما

ص: 235

و حيث أن الامر في الشريعة يكون على أقسام: من الواقعي الأولي، و الثانوي، و الظاهري، و الانظار تختلف في أن الاخيرين يفيدان الاجزاء أو لا يفيدان، كان الاتيان بعبادة موافقة لامر و مخالفة لآخر، أو مسقطا للقضاء و الاعادة بنظر، و غير مسقط لهما بنظر آخر، فالعبادة الموافقة

______________________________

مستعملان في التماميّة و عدم التماميّة لكن ما به التماميّة في العبادة غير ما به التماميّة في المعاملة.

فاتضح ان الاختلاف فيهما مصداقي لا مفهومي.

و لا يخفى أيضا ان الصحة و الفساد بنظر الفقيه هو ترتب الأثر من عدم القضاء و الاعادة و عدمهما، و الملكية و عدم الملكية، و هذا هو المهم عند الفقيه، و المهم في نظر المتكلم هو الثواب و العقاب.

فالفقيه يعبر عن الصحة و الفساد تارة بما يوجب القضاء او الاعادة و لا يوجبهما و اخرى بترتب الملكية و عدم ترتبها، و المتكلم يعبر عن الصحة و الفساد بموافقة الأمر و عدم موافقة الامر، و هذا الاختلاف في التعبير ليس لأجل ان الصحة و الفساد مفهومهما عند الفقيه غير مفهومهما عند المتكلم، بل هي التمامية و عدم التمامية عندهما، و لكن حيث كان المهم عند الفقيه غير ما هو المهم عند المتكلم اختلف تعبيرهما عن الصحة و الفساد، لوضوح انه اذا أمكن ان لا يكون اللفظ منقولا عن معناه اللغوي و ان يبقى على معناه فلا داعي لتكلف نقله عن معناه اللغوي لأصالة عدم النقل، و معنى الصحة و الفساد لغة هو التمامية و عدم التمامية و لا موجب لنقله فيما اذا استعمل في لسان الفقهاء في العبادة و المعاملة و لا موجب لنقله أيضا فيما اذا استعمل في لسان المتكلم، لعدم مانع من بقائه على معناه اللغوي فلا داعي الى النقل، و لو شك في النقل فأصالة عدم النقل تقضي ببقائه على معناه اللغوي، و قد أشار المصنف الى جميع ما ذكرناه بقوله: ( (ان الصحة و الفساد و صفان اضافيان)) الى قوله: ( (بما يوافق الامر تارة و بما يوافق الشريعة أخرى)).

ص: 236

للامر الظاهري، تكون صحيحة عند المتكلم و الفقيه، بناء على أن الامر في تفسير الصحة بموافقة الامر أعم من الظاهري، مع اقتضائه للاجزاء، و عدم اتصافها بها عند الفقيه بموافقته، بناء على عدم الاجزاء، و كونه مراعى بموافقة الامر الواقعي عند المتكلم، بناء على كون الامر في تفسيرها خصوص الواقعي (1).

______________________________

(1) قد عرفت فيما تقدم ان الصحة و الفساد و صفان إضافيان يختلفان بحسب الانظار فربما يكون شي ء صحيحا بحسب نظر و لكنه يكون فاسدا بحسب نظر آخر.

و قد أراد المصنف ان يذكر مثالا لذلك، و حاصله: ان المهم في نظر الفقيه الاجزاء و عدمه فلذلك فسر الصحة بما اسقط القضاء او الاعادة، و الفساد بما يوجب القضاء و الاعادة، و المتكلم مهم نظره الى الثواب و العقاب و لذا فسر الصحة بموافقة الأمر و الفساد بعدم موافقة الأمر أو بموافقة الشريعة و عدم موافقتها.

و قد تقدم أيضا في المباحث السابقة ان الأمر ينقسم الى ثلاثة أقسام: واقعي أولي و واقعي ثانوي و ظاهري، و قد أطبق الفقيه و المتكلم على إجزاء المأمور به الواقعي عن الأمر الواقعي، و على ان الإتيان بالمأمور به الواقعي موافق للأمر و الشريعة فلا يختلف الحال بين الفقيه و المتكلم في هذا، و لذا لم يذكره المصنف كمثال لاختلاف النظرين.

و أما الأمر الواقعي الثانوي و الأمر الظاهري فحاصله ان الفقيه و المتكلم اذا قالا باجزاء كل أمر سواء كان ثانويا او ظاهريا عن الأمر الواقعي فلا يكون هنالك اختلاف بينهما، بل يكون الصحيح بنظر الفقيه هو الصحيح بنظر المتكلم و كذلك الفاسد، و اما اذا قال الفقيه باجزاء كل أمر عن الأمر الواقعي و المتكلم يخص الاجزاء بخصوص إتيان المأمور به الواقعي عن الأمر الواقعي و أما الواقعي الثانوي و الأمر الظاهري فلا يجزيان عن الامر الواقعي، و حيث ان كلا منهما يقول باجزاء كل مأتي عن أمره فهما يتفقان فيما يتفقان في الصحة و الفساد بالنسبة الى إجزاء كل

ص: 237

.....

______________________________

مأمور به عن امره و لكنهما يختلفان في الاجزاء عن الامر الواقعي، فالمأمور به الواقعي الثانوي و الظاهري صحيحان مطلقا بحسب نظر الفقيه لانهما مجزيان عن امرهما و عن الامر الواقعي، و بنظر المتكلم صحيحان بالنسبة الى أمرهما و فاسدان بالنسبة الى الامر الواقعي.

و اذا كان الفقيه لا يقول باجزائهما عن الأمر الواقعي و المتكلم يقول باجزائهما عنه فينعكس الحال تماما و يكونان صحيحين بنظر المتكلم مطلقا و بالنسبة الى الفقيه صحتهما تختص بخصوص أمرهما و هما فاسدان بنظره بالنسبة الى الأمر الواقعي، و اذا كان كل من الفقيه لا يقول بالاجزاء فيهما عن الامر الواقعي فانه لا يختلف الحال بينهما و يكون المأمور به بالأمر الواقعي الثانوي و الأمر الظاهري صحيحين بالنسبة الى امرهما و فاسدين بالنسبة الى الأمر الواقعي.

و ربما يقال: ان موافقة الامر عند المتكلمين تختص بخصوص اتيان المأمور به الواقعي عن امره و الواقعي الثانوي و الظاهري عن امرهما لا يكونان موافقين للأمر و ان اجزءا عن الامر الواقعي بحسب نظر الفقيه.

و بعبارة اخرى: ان المتكلم حيث كان اجزاء الظاهري و الاضطراري عن الواقعي ليس من فنه و ان مرجعه الفقيه لذلك كان اجزاؤهما عن الامر الواقعي و عدم اجزائهما عنه ليس من شأنه فلذلك كانت موافقة الامر عن المتكلم مما تختص بخصوص اتيان كل مأمور به عن امره، و الى ما ذكرنا أشار المصنف مجملا بقوله:

( (حيث ان الأمر في الشريعة يكون على اقسام: من الواقعي الأولي و الثانوي و الظاهري و الانظار تختلف في ان الأخيرين يفيدان الاجزاء أو لا يفيدان)) و اما الأول فحيث ان الانظار لا تختلف في أجزائه فلذا خص الاختلاف بالأخيرين، لوضوح ان الفقيه و المتكلم يقولان باجزاء المأمور به الواقعي عن الأمر الواقعي.

و قوله (قدس سره): ( (كان الاتيان)) هذه الجملة خبر لقوله: ان الأمر في الشريعة.

ص: 238

.....

______________________________

و على كل فحيث ان الانظار تختلف في الأخيرين ( (كان الاتيان بعبادة موافقة لأمر و مخالفة لآخر)) أي يكون المأمور به الظاهري- مثلا- من مصاديق موافقة الأمر بناء على ان موافقة الأمر لا تختص بخصوص المأمور به الواقعي الأولي و تعم كل مأمور به عن أمره فيكون موافقا لأمره و غير موافق للأمر الواقعي، و أما بناء على الاختصاص بإتيان المأمور به الواقعي الأولى عن أمره فلا يكون من موافقة الأمر.

ثم قال: ( (او مسقطا للقضاء و الاعادة بنظر و غير مسقط لهما بنظر آخر)) فان الفقيه و المتكلم قد يقول أحدهما بالاجزاء عن الامر الواقعي و قد لا يقول بالاجزاء، فمن قال بالاجزاء كان مسقطا بحسب نظره و من لا يقول بالاجزاء لا يكون مسقطا بحسب نظره.

ثم قال: ( (فالعبادة الموافقة للأمر الظاهري)) هذا تفريع على ما مر.

و حاصله: ان العبادة الموافقة للأمر الظاهري ( (تكون صحيحة عند المتكلم و الفقيه بناء على ان الأمر في تفسير الصحة بموافقة الأمر اعم من الظاهري)) و لا يخص بخصوص المأمور به الواقعي عن أمره الواقعي فحينئذ يكون الأمر الظاهري من مصاديق موافقة الأمر لأنه لا يختص بخصوص الواقعي فيكون المأمور به الظاهري مجزيا عن أمره و حيث يقول المتكلم و الفقيه باجزائه عن الأمر الواقعي فيكون هذا من موارد عدم الاختلاف بين النظرين و لذا أضاف اليه قوله: ( (مع اقتضائه للإجزاء)).

ثم أشار الى مورد الاتفاق بينهما أيضا بقوله: ( (عدم اتصافها بها عند الفقيه)) مراده ان العبادة لا تكون متصفة بالصحة عند الفقيه في المأمور به بالأمر الظاهري حيث لا يقول الفقيه باجزاء المأمور به الظاهري عن الأمر الواقعي، و لذا قال:

( (و عدم اتصافها بها عند الفقيه بموافقته)): أي عدم اتصاف العبادة التي هي المأمور به بالأمر الظاهري بموافقة الأمر و يوصف الصحة ( (بناء على عدم الاجزاء و كونه مراعى بموافقة الأمر الواقعي)) بان يكون الاجزاء هو موافقة الأمر الواقعي، و الفقيه و ان رأى ان موافقة الأمر تعم الأمر الظاهري و ان كل ماتي به يطابق أمره فهو من

ص: 239

تنبيه: و هو أنه لا شبهة في أن الصحة و الفساد عند المتكلم، و صفان اعتباريان ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به و عدمها (1)، و أما

______________________________

موافقة الأمر و لكنه حيث لا يقول باجزاء المأمور به الظاهري عن الأمر الواقعي فالمأتي به غير صحيح و موجب للقضاء او الإعادة لبقاء الأمر الواقعي و عدم سقوطه، هذا عند الفقيه.

و أما ( (عند المتكلم)) فلذلك لا يكون المأتي به متصفا بموافقة الأمر ( (بناء على كون الأمر في تفسيرها خصوص الواقعي)) أي بناء على ان المراد من الأمر تعتبر موافقته في اتصاف المأتي به بوصف الصحة و هو موافقة المأتي به للأمر الواقعي فان المأمور به بالأمر الظاهري لا يكون موصوفا بالصحة لعدم موافقته للأمر الواقعي.

(1)

تنبيه

هذا التنبيه لبيان ان الصحة و الفساد هل هما مجعولان تشريعا بالاستقلال أو بالتبع أو أنهما غير مجعولين؟

و تفصيل الحال و توضيحه يحتاج الى الكلام في مقامين: الأول في العبادة، و الثاني في المعاملة.

و المقام الأول أيضا في موضعين: الأول: في المأمور به بالأمر الواقعي الأولي، و الثاني: في المأمور به الواقعي الثانوي أو الظاهري عن الواقعي الأولي.

و الكلام في الموضع الأول: تارة في على رأي المتكلم، و أخرى على رأي الفقيه.

و قد عرفت ان المتكلم عرف الصحة و الفساد بموافقة الأمر، و قد قال المصنف أنهما على رأي المتكلم وصفان اعتباريان ينتزعان من مطابقة المأتي به للمأمور به و عدم المطابقة، فالصحة تنتزع من المطابقة و الفساد من عدم المطابقة.

و توضيح ذلك: انه ان قلنا ان الاعتباري كل ما ليس له مطابق في الخارج و ان كان منشأ انتزاعه موجودا في الخارج فيصح ان يقال ان الموافقة و عدم الموافقة وصفان اعتباريان منتزعان من المأتي به، لوضوح ان الموافقة من صفات الفعل المأتي به خارجا لأنه هو الموصوف بالصحة و الفساد، و أما المأمور به الذي هو المتعلق للأمر

ص: 240

الصحة بمعنى سقوط القضاء و الاعادة عند الفقيه، فهي من لوازم الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الاولي عقلا، حيث لا يكاد يعقل ثبوت الاعادة أو القضاء معه جزما، فالصحة بهذا المعنى فيه، و إن كان ليس بحكم وضعي مجعول بنفسه أو بتبع تكليف، إلا أنه ليس بأمر اعتباري ينتزع كما توهم، بل مما يستقل به العقل، كما يستقل باستحقاق المثوبة به (1) و في غيره، فالسقوط ربما يكون مجعولا، و كان الحكم به تخفيفا و منة

______________________________

فلا صحة له و لا فساد، اذ بما هو متعلق للأمر لا معنى لأن يكون له صحة او فساد، بخلاف المأتي به الذي هو الفعل الخارجي فان اتى به مطابقا لمتعلق الأمر كان صحيحا و ان لم يكن مطابقا فهو فاسد، فاذا كان من صفات الفعل فالفعل المأتي به تاما هو الموجود في الخارج و ليس هو إلّا نفس الفعل و ليست موافقته لمتعلق الأمر موجودا خارجيا آخر، فالموافقة للأمر و مطابقته له تنتزع من نفس الفعل و هي موجودة بوجود منشأ انتزاع الموافقة و ليست من الاعتبارات المحضة التي لا وجود لها الا بوجود الاعتبار فقط، بل الموافقة بوجود الفعل التام موجودة سواء اعتبرها معتبر أم لم يعتبرها.

و مما ذكرنا اتضح: ان الاعتباري اذا كان مختصا بالموجود بصرف الاعتبار و ان الموجود بوجود منشأ الانتزاع ليس من الاعتباريات فلا تكون الصحة و الفساد و صفين اعتباريين، بل هما و صفان انتزاعيان موجودان بوجود منشأ انتزاعهما، فكونهما اعتباريين مبتنيا على ما ذكرنا من معنى الاعتباري.

(1) هذا هو الكلام في العبادة في المرحلة الاخرى، و هي العبادة على رأي الفقيه و في الموضع الأول، و هو الصحة و الفساد في المأتي به الواقعي الأولي عن المأمور به الواقعي الأولي، و قد عرفت ان الفقيه يعرف الصحة و الفساد بسقوط القضاء و الاعادة و عدم السقوط.

ص: 241

.....

______________________________

فالصحيح هو ما ترتب عليه سقوط القضاء و الاعادة و الفاسد ما لا يترتب عليه السقوط.

و المصنف يرى ان وصف الصحة و الفساد برأي الفقيه الذي هو السقوط و عدمه بالنسبة الى المأتي به الواقعي عن الأمر الواقعي ليس من الاحكام المجعولة لا استقلالا و لا تبعا و ليس اعتباريا انتزاعيا.

اما انه ليس من المجعول الاستقلالي فلأن الحكم الجعلي الاستقلالي ما كان تحققه منوطا بالجعل، و أما ما كان تحققه لا يكون مربوطا بالجعل فليس أمرا مجعولا، و من الواضح: ان الصحة التي هي سقوط القضاء و الاعادة فمعناها كون المأتي به تاما لا خلل فيه و كون الفعل الخارجي تاما لا خلل فيه ليس من المجعولات التشريعية بل هو أمر تكويني.

و أما انه ليس مجعولا بالتبع فلأن المجعول التشريعي هو الأمر و المأمور به المتعلق به في مقام التشريع، فعلى فرض كون الصحة مجعولا بالتبع فلا بد و ان تكون من توابع الحكم المجعول أو من صفات المأمور به، و من الواضح ان كون الفعل الخارجي لا خلل فيه من صفات الفعل الخارجي الذي هو المأتي به لا من صفات المأمور به و لا من توابع الحكم المجعول.

و أما انه ليس بأمر انتزاعي فلأن الأمر الانتزاعي هو المنتزع من منشأ انتزاعه و لا يكون بينهما علية و معلولية، و حيث ان كون الفعل تاما لا خلل فيه مؤثر في سقوط القضاء و الاعادة فلا يكون من الامور الانتزاعية، بل العقل يدرك من وجود الفعل تاما لا خلل فيه انه لا بد و ان لا يكون له قضاء أو اعادة، اذ القضاء و الاعادة لا يكونان إلّا لأجل خلل في المأتي به، و حال سقوط القضاء و الإعادة حال استحقاق الثواب الذي يدرك العقل تأثير الامتثال فيه و ليس هو من الأمور الانتزاعية لأجل العلية و التأثير.

ص: 242

على العباد، مع ثبوت المقتضي لثبوتهما، كما عرفت في مسألة الاجزاء، كما ربما يحكم بثبوتهما، فيكون الصحة و الفساد فيه حكمين مجعولين لا وصفين انتزاعيين (1).

______________________________

و قد أشار المصنف الى أن وصف الصحة بالنسبة الى المأتي به الواقعي عن الأمر الواقعي بنظر الفقيه التي هي سقوط القضاء و الاعادة ليس من الاحكام المجعولة لا استقلالا و لا تبعا بقوله: ( (فالصحة بهذا المعنى فيه)) أي في الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ( (و ان كان ليس بحكم وضعي مجعول بنفسه او بتبع تكليف)).

و قد أشار الى انه ليس من الاعتباري الانتزاعي بقوله: ( (إلّا انه ليس بأمر اعتباري ينتزع كما توهم بل مما يستقل به العقل كما يستقل باستحقاق المثوبة به)) و كما ان استحقاق المثوبة ليس من الأمور الانتزاعية فكذلك سقوط القضاء و الاعادة.

(1) هذا هو الكلام في الموضع الثاني و هو اسقاط القضاء و الاعادة بالنسبة الى إسقاط الإتيان المأمور به الواقعي الثانوي أو الظاهري للأمر الواقعي الاولي.

و توضيحه: ان الأمر بالإعادة و القضاء حيث كان مجعولا في حال عدم الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأولي فاسقاط الأمر الواقعي بالقضاء أو الإعادة عند الإتيان بالمأمور به الظاهري- مثلا- أما ان يكون لأن المأمور به الظاهري واف بتمام مصلحة الواقع او واف بمقدار منها بحيث يكون الباقي غير لازم الاستيفاء و في مثل هذا يكون الاسقاط أمرا تكوينيا لأنه عند استيفاء تمام مصلحة الواقع أو المقدار اللازم الاستيفاء منها، فسقوط الأمر بالقضاء أو الاعادة قهري لعدم الموضوع له حيث لم يفت الواقع، و اما اذا كان الباقي لازم الاستيفاء و لكن مصلحة التسهيل تدعو الى اسقاط القضاء و الإعادة بعد الاتيان بالمأمور به الظاهري فإنشاء إسقاط القضاء و الاعادة ليس من اللوازم القهرية للمأتي به الظاهري و انما الاسقاط يكون لانشاء الشارع السقوط بعد الاتيان بالمأمور به الظاهري، فيكون السقوط حكما مجعولا لإتيان المأمور به الظاهري.

ص: 243

نعم، الصحة و الفساد في الموارد الخاصة، لا يكاد يكونان مجعولين، بل إنما هي تتصف بهما بمجرد الانطباق على ما هو المأمور به، هذا في العبادات (1).

______________________________

و انما قال و ربما لما عرفت من انه اذا كان وافيا واقعا بمصلحة الواقع يكون السقوط قهريا لا جعليا، و الى ما ذكرنا أشار بقوله: ( (و في غيره)) أي في غير الاتيان بالمأمور به الواقعي و هو اتيان المأمور به الظاهري مثلا ( (فالسقوط ربما يكون مجعولا)) و ذلك حيث لا يكون وافيا بتمام مصلحة الواقع أو بمقدار بحيث لا يكون الباقي لازم الاستيفاء بل كان الباقي لازم الاستيفاء و لكن ( (كان الحكم به)) أي بالسقوط ( (تخفيفا و منة على العباد مع ثبوت المقتضي لثبوتهما)) لأن المفروض ان الباقي لو لا انشاء السقوط لكان لازم الاستيفاء لوضوح انه لو لم يكن مقتض للقضاء أو الاعادة لكان السقوط قهريا لا جعليا ( (كما ربما يحكم بثبوتهما)) أي يحكم بثبوت القضاء او الاعادة حيث لا يكون مصلحة للتسهيل.

فاتضح مما ذكرنا: ان الصحة و الفساد عند الفقيه التي هي سقوط القضاء و الإعادة في الإتيان بالمأمور به الظاهري بالنسبة الى الأمر الواقعي فيما اذا كان لمصلحة التسهيل يكون حكما مجعولا، و لذا قال: ( (فيكون الصحة و الفساد فيه)) أي في هذا الغير ( (حكمين مجعولين لا وصفين انتزاعيين)) اذ الاوصاف الانتزاعية ليست من المجعولات الشرعية.

(1) توضيحه انه اذا انشأ المولى الاجزاء لإتيان المأمور به الظاهري عن الأمر الواقعي فهناك جعل واحد للإجزاء الكلي بالنسبة الى كلي الإتيان بالمأمور به الظاهري عن الأمر الواقعي، و حيث ان الحكم المجعول للكلي حكم واحد فلا يعقل جعل آخر لأفراده للغوية هذا الجعل، و أيضا هذا الجعل الواحد ليس جعلا لأحكام كثيرة بعدد الافراد بل هو جعل حكم واحد لكلي ينطبق ذلك الجعل على افراده قهرا، فبالنسبة الى الافراد ليس هنالك جعل بل انطباق المجعول الواحد الكلي على افراده، و لذا

ص: 244

و أما الصحة في المعاملات، فهي تكون مجعولة، حيث كان ترتب الاثر على معاملة إنما هو بجعل الشارع و ترتيبه عليها و لو إمضاء، ضرورة أنه لو لا جعله، لما كان يترتب عليه، لاصالة الفساد (1).

______________________________

قال: ( (نعم الصحة و الفساد في الموارد الخاصة)) و هي الأفراد الصحة و الفساد فيها ليسا حكما مجعولا و انهما ( (لا يكاد يكونان مجعولين بل انما هي تتصف بهما)) أي انما تتصف الافراد بالصحة و الفساد ( (بمجرد الانطباق على ما هو المأمور به)) أي بمجرد الانطباق ذلك المجعول الكلي على الفرد المأمور به.

(1)

جعل الصحة شرعا في المعاملات

معنى الصحة في المعاملة هو ترتب أثرها عليها، فاعتبار الملكية للمتبايعين هو ترتب الملكية على عقد البيع الجامع للشرائط، و الفساد هو عدم ترتب الأثر على المعاملة لكونها فاقدة لما اعتبر في الصحة، و لا اشكال ان كون البائع مالكا للثمن و المشتري مالكا للمثمن اعتبار من الاعتبارات لم يكن محققا قبل اعتبار الشارع او العقلاء له لعقد البيع، فهو أمر مجعول أما من العقلاء و إمضاء الشارع له، او من الشارع فقط، و سيأتي في باب الاحكام الوضعية ان الأثر في المعاملات من الاحكام المجعولة استقلالا لا بالتبع و لا انها أمور واقعية كشف عنها الشارع.

فاذا كانت الصحة و الفساد هو ترتب الأثر على المعاملة و عدم ترتبها عليها فتكون الصحة من الاحكام المجعولة لأن ترتب الأثر انما هو لاعتبار الشارع لذلك الأثر و لو لا هذا الاعتبار لما ترتب على المعاملة هذا الاثر، فانتقال المال من مالك الى مالك آخر انما يكون لاعتبار الشارع هذا التملك عند صدور العقد من المتعاقدين، و لو لا هذا الاعتبار لما حصل هذا التملك و هكذا الحال في عقد النكاح و في الطلاق، و لذا قال:

( (و اما ان الصحة في المعاملات فهي تكون مجعولة)) لان معنى الصحة هو ترتب الأثر و ( (حيث كان ترتب الأثر على معاملة انما هو بجعل الشارع و ترتيبه عليها و لو امضاء)).

ص: 245

نعم صحة كل معاملة شخصية و فسادها، ليس إلا لاجل انطباقها مع ما هو المجعول سببا و عدمه، كما هو الحال في التكليفية من الاحكام، ضرورة أن اتصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة أو غيرهما، ليس إلا لانطباقه مع ما هو الواجب أو الحرام (1).

______________________________

ثم اشار الى الدليل على كون الصحة في المعاملات حكما مجعولا بقوله:

( (ضرورة انه لو لا جعله لما كان يترتب عليه لأصالة الفساد)) مراده من أصالة الفساد هو انه قبل عقد البيع- مثلا- لم يكن هذا التملك الجديد حاصلا، و حيث كان حصوله بواسطة اعتبار الشارع و جعله له فلا بد و ان يكون هذا الأثر من الامور المجعولة.

(1) قد عرفت ان الصحة في العبادة حكم واحد قد جعل للكلي و انطباقه على الفرد ليس من المجعولات الشرعية، و الحال مثله في الصحة في المعاملات فان الشارع قد اعتبر الملكية لكلي المتبايعين و أعتبر الزوجية لكلي المتزوجين و اعتبر الملكية لكل من حاز، فاذا كان الحكم المجعول واحدا للكلي فاعتبار الملكية لافراد الكلي مع اعتبارها للكلي لغو، و حيث كان المجعول حكما واحدا و ليس المجعول احكاما متعددة بتعدد أفراد العقد الحاصل في الخارج فلا بد و ان يكون ترتب الملكية على العقد الخارجي انما هو لأجل انطباق ذلك الحكم الكلي على افراده.

و مثل الصحة في العبادات و المعاملات في كونها حكما واحدا مجعولا للكلي و انه بالنسبة الى الفرد من باب الانطباق الوجوب و الحرمة و سائر الاحكام التكليفية فانها حكم واحد قد جعل للكلي، فوجوب الصلاة- مثلا- حكم واحد قد تعلق بكلي الصلاة بنحو القضية الحقيقية و ليس المجعول أحكاما متعددة بتعدد الصلوات الخارجية، و كل فرد من أفراد الصلاة الخارجية واجب لانطباق ذلك الحكم الواحد الكلي المجعول لكلي الصلاة، و كذا الحرمة المتعلقة بشرب الخمر- مثلا- فانها حرمة واحدة متعلقة بكلي شرب الخمر و ليس المجعول احكاما من الحرمة متعددة بتعدد

ص: 246

السابع: لا يخفى أنه لا أصل في المسألة يعول عليه، لو شك في دلالة النهي على الفساد (1).

______________________________

شرب الخمر الذي يوجد في الخارج، و لذا قال (قدس سره): ( (كما هو الحال في التكليفية من الاحكام ضرورة ان اتصاف المأتي به)) و هو الصلاة- مثلا- أو شرب الخمر ( (بالوجوب أو الحرمة او غيرهما)) من الاستحباب و الكراهة و الاباحة ( (ليس إلّا لانطباقه مع ما هو الواجب او الحرام)) لوضوح انه لا وجه لجعل الحكم للفرد ثانيا مع جعله للكلي، و حيث ان المجعول واحد لا أحكاما متعددة فيكون الفرد المأتي به خارجا محكوما بذلك الحكم لانطباق ذلك الحكم الكلي عليه.

(1)

تأسيس الاصل

توضيحه في أمور:

الأول: ان المراد الكلام في الأصل في ما تعلق به النهي و شك في انه يقتضي النهي فساده أم لا؟

و بعبارة أخرى: ان الكلام في ان العبادة- مثلا- المتعلق بها النهي هل يقتضي فسادها ام لا؟ و الشك في انه هل يوجد أصل يقتضي صحة العبادة المتعلق بها النهي أو فسادها أم لا يوجد أصل يقتضي أحد الأمرين؟

و ليس الكلام في الأصل في مطلق العبادة فلا وجه لتكثير صور الشك، و لذا يوجد في بعض نسخ الكتاب صور متعددة للشك و لكن قد ضرب عليها في بعض النسخ المصححة.

الثاني: ان الموجب لاقتضاء النهي الفساد: اما عقلي و هو كون المبغوضية مانعة عن وقوع متعلق النهي صحيحا مع انه جامع لجميع الاجزاء و الشرائط.

و اما لفظي لظهور النهي في الارشاد الى الفساد أو للملازمة العرفية او الاستعمالية الموجبة لظهور اللفظ في الدلالة على الفساد بالدلالة الالتزامية.

الثالث: ان الكلام في اقتضاء الاصل فلا بد و ان يكون فرضه فرض الشك و انه ليس هناك دليل يقتضي كون النهي مقتضيا للفساد، و حيث ان الكلام في المانع

ص: 247

نعم، كان الاصل في المسألة الفرعية الفساد، لو لم يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحة في المعاملة.

______________________________

العقلي فلا محالة يكون موضع الشك هو كون المبغوضية هل هي مانعة عن التقرب في العبادة او ترتب الاثر في المعاملة ام لا؟ و لا أصل في المقام يقتضي كون المبغوضية مانعة أو غير مانعة، اذ الأصل أما الاستصحاب و لا يقين سابق بكون المبغوضية مانعة أو غير مانعة حتى يستصحب، و اما بناء العقلاء فانه أيضا لا بناء من العقلاء مع الشك في العبادة- مثلا- على منافاة المبغوضية للقربة و عدم منافاتها لها، هذا اذا كان المانع عقليا و هو المبغوضية.

و اما اذا كان المانع لفظيا فموضع الشك هو الظهور و أنه هل للنهي المتعلق بالعبادة- مثلا- الجامعة لجميع اجزائها و شرائطها ظهور في فسادها أم ليس له ظهور؟

فالظهور هو متعلق الشك و لا أصل- أيضا- يقتضي كون النهي ظاهرا في الصحة أو الفساد أما الاستصحاب لعدم تحقق اليقين السابق بظهور للنهي في الصحة أو الفساد بنحو كان الناقصة بأن يكون للنهي- سابقا- ظهور في الصحة او الفساد، فانه من الواضح انه لا يقين كذلك، و اما بنحو كان التامة و بنحو السالبة بانتفاء الموضوع و هو انه لما لم يكن للنهي تحقق و وجود لم يكن له ظهور فهذا الاصل مثبت، اذ لازم استصحاب هذا العدم ان لا يكون لهذا النهي الموجود ظهور و المثبت ليس بحجة، و أما بناء العقلاء فهو و ان انعقد على عدم الحجية ما لم يحرز الظهور إلّا ان معناه عدم كون هذا النهي حجة على الصحة أو الفساد لا انه حجة على الصحة أو الفساد.

فاتضح: انه لا أصل في هذه المسألة الأصولية يقتضي الدلالة على الصحة أو الفساد، و لذا قال: ( (انه لا أصل في المسألة)) بما هي مسألة أصولية ( (يعول عليه لو شك في دلالة النهي على الفساد)).

ص: 248

و أما العبادة فكذلك، لعدم الامر بها مع النهي عنها، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) قد عرفت انه لا أصل في المسألة الأصولية يقتضي الدلالة، و لو كان فيها أصل لأغنى عن الكلام على الأصل في المسألة الفرعية، لوضوح لو كان الأصل في المسألة الأصولية دالا على الفساد- مثلا- لما كان مجال للشك في ان الصلاة الخاصة- مثلا- كالصلاة في أيام العادة المتعلق بها النهي كقوله عليه السلام: (دعي الصلاة أيام اقرائك)(1) تكون فاسدة لأنها قد تعلق بها النهي و الأصل في النهي ان يكون دالا على الفساد.

و لكن بعد ان كان لا أصل في المسألة الاصولية، فالكلام في المسألة الفرعية: تارة في المعاملة، و أخرى في العبادة.

اما في المعاملة فنقول: ان المعاملة المتعلق بها النهي مع احتمال كون النهي يقتضي عدم ترتب أثرها عليها فالقاعدة الأولية تقتضي استصحاب عدم ترتب الأثر على تلك المعاملة، مثلا من باع ما ليس عنده بعد تعلق النهي بها لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: (لا تبع ما ليس عندك) نشك في حصول النقل و الانتقال في هذه المعاملة لاحتمال كون النهي موجبا لعدم ترتب الأثر، فاستصحاب عدم تحقق النقل و الانتقال محكم لليقين السابق بأن المثمن ملك للبائع و الثمن للمشتري و نشك في انتقالهما بهذه المعاملة و الأصل عدم الانتقال.

نعم اذا كان لنا عموم او اطلاق كاوفوا بالعقود و أحل اللّه البيع يقتضي بحسب عمومه أو إطلاقه ترتب الأثر على كل بيع الا ما دل الدليل على عدم ترتب الأثر فيه كبيع الربا، فان العموم أو الاطلاق يكون مقدما على القاعدة الأولية الموجبة لعدم ترتب الأثر، و يكون دليلا على ترتب الأثر في تلك المعاملة المتعلق بها النهي، و لذا قال (قدس سره): ( (نعم كان الأصل في المسألة الفرعية الفساد)) أي عدم ترتب الأثر

ص: 249


1- 9. ( 1) الوسائل ج 1: 546/ 2، باب 7 من أبواب الحيض.

.....

______________________________

بحسب القاعدة الأولية ( (لو لم يكن هناك اطلاق أو عموم يقتضي الصحة في المعاملة)).

و اما الكلام في العبادة كالصلاة في أيام العادة المتعلق بها النهي.

قد يقال: انها مقطوع بفسادها لان العبادة تحتاج صحتها الى قصد امتثال الامر، و من الواضح ان الأمر و النهي لا يجتمعان فلا أمر بها و مع عدم الأمر لا يتأتى قصد امتثال الأمر.

إلّا انه يقال: ان الأمر انما لا يجتمع مع ما تعلق به النهي لأنه لا يعقل ان يطلب الشارع ايجاد ما يطلب عدم ايجاده و لكن الشك انما هو لأجل ان المبغوضية هل تنافي ما فيه ملاك الصحة؟

و لا اشكال ان العبادة المستجمعة لجميع الأجزاء و الشرائط فيه ملاك الصحة، و أما الأمر فانما يرتفع لأنه لا يجتمع طلب الفعل مع طلب الترك فهناك مجال للشك لانه لما كان في العبادة ملاك الصحة فمجال للشك موجود لإمكان صحة العبادة بالملاك و لا ينحصر صحتها بقصد الأمر و ليست العبادة المتعلق بها النهي مقطوعة الفساد.

نعم الأصل يقتضي فسادها لان صحة العبادة انما هو بقصد التقرب بها و قصد التقرب يحصل اما بقصد الأمر و المفروض انه لا أمر أو بقصد الملاك، و مع احتمال كون المبغوضية منافية للتقرب لا يقطع بحصول التقرب، و شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني فالأصل في المسألة العبادية الفرعية يقتضي عدم الاكتفاء بالعبادة المتعلق بها النهي، لأن شغل الذمة اليقيني يستدعي اليقين بالامتثال و لا يقين بالامتثال مع احتمال منافاة المبغوضية للتقرب المنوط به تحقق الامتثال، و لذا قال:

( (و اما العبادة فكذلك لعدم الامر بها مع النهي عنها)).

ص: 250

الثامن: إن متعلق النهي إما أن يكون نفس العبادة، أو جزأها، أو شرطها الخارج عنها (1)، أو وصفها الملازم لها كالجهر و الاخفات للقراءة، أو وصفها الغير الملازم كالغصبية لاكوان الصلاة المنفكة عنها لا ريب في دخول القسم الاول في محل النزاع، و كذا القسم الثاني بلحاظ أن

______________________________

(1)

أنحاء تعلق النهي بالعبادة

يشتمل هذا الأمر على الكلام في موضعين:

الأول: في أقسام تعلق النهي بالعبادة و ان ايها الداخل في محل النزاع و أيها الخارج عنه.

و الثاني: في أقسام تعلقه بالمعاملة كذلك.

و تفصيل الكلام في الموضع الأول ان نقول: ان النهي اما ان يتعلق بالعبادة كلها:

أي بالمركب بمجموعه كالنهي المتعلق بالصلاة كلها في أيام العادة.

و اما ان يتعلق بجزئها كالنهي المتعلق بإحدى سور العزائم في الصلاة.

و اما ان يتعلق بالشرط، و الشرط على نحوين:

الأول: الشرط العبادي كالنهي المتعلق بالوضوء الضرري.

الثاني: الشرط غير العبادي كالستر مثل النهي المتعلق بالساتر الحريري.

و أما ان يتعلق بالوصف الملازم و المراد من الوصف الملازم هو ان لا يعقل تحقق الوصف المنهي عنه من دون تحقق العبادة كالنهي عن الجهر او الإخفات في الصلاة، فان النهي عن الجهر في القراءة الصلاتية لا يعقل تحققه من دون تحقق الصلاة.

و اما ان يتعلق بالوصف غير الملازم و المراد منه هو امكان انفكاك الوصف المنهي عنه عن العبادة كالغصبية، فان الغصب ينفك عن تحقق الصلاة لإمكان تحقق الغصب في غير الصلاة.

هذه أقسام ستة للنهي المتعلق بالعبادة و سيأتي التعرض لما هو الداخل منها في محل النزاع و ما هو الخارج عن محل النزاع.

ص: 251

جزء العبادة عبادة (1)، إلا أن بطلان الجزء لا يوجب بطلانها، إلا مع الاقتصار عليه، لا مع الاتيان بغيره مما لا نهي عنه (2)، إلا أن يستلزم

______________________________

(1) دخول القسم الأول و هو النهي المتعلق بالمركب العبادي بجملته مما لا شك فيه، لان المراد بالشي ء لا يخلو عن العبادة و المعاملة، و لا اشكال في ان المركب العبادي بجملته عبادة فالنهي المتعلق بالصلاة في أيام العادة داخل في محل النزاع قطعا، و لذا قال: ( (لا ريب في دخول القسم الأول في محل النزاع)).

قوله (قدس سره): ( (و كذا القسم الثاني)) القسم الثاني هو النهي المتعلق بجزء العبادة و لا ريب عند المصنف في دخوله في محل النزاع لان جزء العبادة عبادة.

و الدليل عليه هو ان الأمر المتعلق بالمركب العبادي لكل جزء من اجزائه حصة من ذلك الأمر المتعلق بالمركب المنبسط على اجزائه، فالجزء المأتي به لا بداعي الأمر العبادي المتعلق بالمركب ليس بجزء من المركب، فالنهي المتعلق بالجزء قد تعلق بما لو تعلق الأمر به لكان أمره عباديا هذا فيما اذا لم يكن الجزء بنفسه عبادة ذاتية و إلّا فكونه عبادة أوضح من ان يخفى، و لذا قال (قدس سره): ( (و كذا القسم الثاني بلحاظ ان جزء العبادة عبادة)).

(2) لا يخفى انه سيأتي ان النهي المتعلق بالعبادة يقتضي فسادها حيث ان جزء العبادة عبادة، فالنهي المتعلق بالجزء العبادي يقتضي فساد ذلك الجزء فلا يكون من المركب العبادي و لا يقتضي النهي المقتضي لفساد الجزء فساد المركب، لان المفروض ان النهي لم يتعلق بالمركب بل تعلق بجزئه، فلو اتى المكلف بفرد للجزء غير منهي عنه بعد ان اتى بذلك الفرد من الجزء المنهي عنه لكان المركب تاما لا نقص فيه و المركب التام يكون صحيحا لا فاسدا.

نعم لو اقتصر المكلف على الجزء المنهي عنه فلازم ذلك فساد المركب لفقدان جزئه، فان الجزء المتعلق به النهي لا يكون جزءا منه و المفروض عدم الاتيان بفرد لذلك الجزء غير الفرد المنهي، و من الواضح ان المركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه

ص: 252

محذورا آخر (1).

______________________________

فلا يكون ذلك المركب تاما حتى يكون صحيحا، إلّا ان هذا الفساد الذي لحق المركب ليس سببه النهي المتعلق بالجزء بل سببه عدم تمامية المركب.

و ظاهر عبارة المتن انه مع الاقتصار على الجزء المنهي عنه و عدم الاتيان بفرد آخر يكون بطلان المركب مستندا الى بطلان الجزء لأجل تعلق النهي به، و ان بطلان المركب يستند الى النهي المتعلق بالجزء.

إلّا انه بعد تصريحه: بأن بطلان الجزء لا يقتضي بطلان المركب و وضوح ان الاقتصار على هذا الجزء المنهي عنه لازمه كون المركب فاقدا لبعض اجزائه يجب رفع اليد عن هذا الظهور، و ان المراد كون بطلان المركب مستندا الى فقدانه لبعض اجزائه لا للنهي المتعلق بالجزء.

و على كل فقد أشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (إلّا ان بطلان الجزء ... الى آخر الجملة)).

(1) قد عرفت ان القاعدة مع عدم الاقتصار على الجزء المنهي عنه و الاتيان بفرد آخر لذلك الجزء غير منهي عنه تقتضي الصحة، و لكن حيث لا يلزم من الاتيان بالجزء غير المنهي عنه محذورا آخر فان المركب يكون باطلا على كل حال، لا انه إن اقتصر على الجزء المنهي عنه فبطلانه لفقدان جزئه، و ان اتى بالجزء غير المنهي عنه فيكون باطلا للمحذور الآخر المترتب على الاتيان بذلك الجزء غير المنهي عنه كالقران بين السورتين في ركعة واحدة، فانه بعد البناء على مبطلية القران و انه يحصل القران و لو بالجمع بين السورة المنهي عنها و غير المنهي عنها تكون العبادة باطلة على كل حال.

أما لو بنينا على كراهة القران او انه لا يحصل القران بالجمع بين السورة المنهي عنها كاحدى العزائم و غيرها من السور، بل انما يحصل القران بالجمع بين سورتين غير منهى عنهما فلا تكون العبادة باطلة.

ص: 253

و أما القسم الثالث، فلا يكون حرمة الشرط و النهي عنه موجبا لفساد العبادة، إلا فيما كان عبادة، كي تكون حرمته موجبة لفساده المستلزم لفساد المشروط به.

و بالجملة لا يكاد يكون النهي عن الشرط موجبا لفساد العبادة المشروطة به، لو لم يكن موجبا لفساده، كما إذا كانت عبادة (1).

______________________________

و على كل فالمصنف يريد بالمحذور الآخر هو القران بعد البناء على مبطليته و انه يحصل بالجمع بين السورة المنهي عنها و السورة غير المنهي عنها.

(1) قد تقدم ان الشرط على نحوين: عبادة، و غير عبادة فان كان عبادة كالطهارات الثلاث المشروطة بها الصلاة فحكم الشرط العبادي حكم العبادة.

و سيأتي ان النهي المتعلق بالعبادة يقتضي فسادها، فالشرط العبادي المتعلق به النهي كالوضوء الضرري يقع فاسدا و تفسد العبادة المشروطة به، لا لان النهي المتعلق بالشرط يقتضي فسادها، بل لان المشروط عدم عند عدم شرطه، فالعبادة المشروطة بالشرط العبادي الفاسد قد وجدت من غير شرط، و المفروض ان المأمور به هو المشروط بالشرط، فما هو المأمور به لم يوجد.

و أما الشرط غير العبادي فهو من المعاملة.

و سيأتي ان النهي المتعلق بالمعاملة لا يقتضي فسادها و ان عوقب عليها، فاذا ورد النهي- مثلا- عن التستر بالحرير أو الذهب فلبسهما و ان كان محرما و معاقبا عليه إلّا ان شرطية الساترية قد حصلت بهما، و قد علمت- فيما تقدم- ان الشرط ما له ربط بالتأثير، فاذا كانت المبغوضية لا ترفع تأثيره لما سيأتي: من ان النهي المتعلق بالمعاملة لا يقتضى فسادها و عدم ترتب الأثر عليها، فالنهي المتعلق بالشرط غير موجب لفساده.

ص: 254

.....

______________________________

و ما يقال: من ان الشرطية ترجع الى القيدية فالمشروط متقيد بهذه الاضافة الى الشرط و المتقيد بالمبغوض مبغوض، فتكون نفس العبادة مبغوضة، و مبغوضية العبادة توجب فسادها.

فانه يقال ان تقيد شي ء بشي ء ليس إلّا لأجل ان له دخلا في تأثيره، فاذا كان النهي عن الشرط لا ينافي ربط المقيد به من ناحية التأثير فلا يكون المتقيد بالمبغوض مبغوض.

نعم لو كان الشرط له دخل في انطباق العنوان الحسن على المتقيد به لأشكل الأمر، لان المحرم قبيح و المتقيد بالقبيح لا يعقل ان ينطبق عليه العنوان الحسن.

و على كل فليس النهي المتعلق بالشرط موجبا لفساد المشروط به مطلقا، و لذا قال: ( (و أما القسم الثالث فلا يكون حرمة الشرط و النهي عنه موجبا لفساد العبادة الا فيما كان عبادة)) أي الشرط ( (كي تكون حرمته موجبا لفساده)) لفرض كون نفس الشرط عبادة و النهي المتعلق بالعبادة يقتضي فسادها و المشروط عدم عند عدم شرطه، فيكون لازم فساد الشرط العبادي فساد العبادة المشروطة به، و لذا قال: ( (المستلزم لفساد المشروط به)).

فتلخص: ان النهي المتعلق بالشرط اذا كان عبادة يكون داخلا في محل النزاع من حيث ذاته لفرض كونه عبادة، و لكن فساد المشروط به خارج عن محل النزاع لان النهي عن الشرط لم يوجب فساد العبادة و انما الموجب لفسادها هو خلوها عن الشرط المؤثر، و لذا قال: ( (و بالجملة لا يكاد يكون النهي عن الشرط موجبا لفساد العبادة المشروطة به لو لم يكن النهي موجبا لفساده)) أي لفساد نفس الشرط لفرض كونه عبادة، و لذا قال: ( (كما اذا كانت عبادة)) كان ينبغي ان يقول: كما اذا كان عبادة، و لعل التأنيث باعتبار العبادة فيكون التأنيث باعتبار المعنى، فان الشرط الذي يكون النهي موجبا لفساده هو الشرط الذي يكون بنفسه عبادة.

ص: 255

و أما القسم الرابع، فالنهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن موصوفه، فيكون النهي عن الجهر في القراءة مثلا مساوقا للنهي عنها، لاستحالة كون القراءة التي يجهر بها مأمورا بها، مع كون الجهر بها منهيا عنه فعلا، كما لا يخفى (1).

و هذا بخلاف ما إذا كان مفارقا، كما في القسم الخامس، فإن النهي عنه لا يسري إلى الموصوف، إلا فيما إذا اتحد معه وجودا، بناء على

______________________________

(1) قد مر ان القسم الرابع هو النهي المتعلق بالوصف الملازم، و قد عرفت- أيضا- ان الوصف الملازم هو الوصف الذي لا تحقق له في غير العبادة كالنهي المتعلق بالجهر في القراءة، و حيث لا يعقل انفكاك هذا الوصف عن القراءة فلا يعقل ان يجتمع الأمر بالقراءة مع النهي عن الجهر فيها، و عليه فلا بد و ان يرتفع الأمر بالقراءة مع تعلق النهي بالجهر فيها، و لا بد ايضا ان تكون القراءة التي لها وصف لا ينفك عنها و هو مبغوض ان تكون مبغوضة، لبداهة مبغوضية المتصف بوصف مبغوض فيرجع النهي عن مثل هذا الوصف الى النهي عن نفس الموصوف، و قد عرفت ان النهي عن العبادة داخل في محل النزاع و هو يقتضي الفساد كما سيأتي.

و الى ما ذكرنا أشار بقوله: ( (و أما القسم الرابع فالنهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن موصوفه)) كما عرفت تقريبه ( (فيكون النهي عن الجهر في القراءة مثلا مساوقا للنهي عنها)) أي عن القراءة.

ثم أشار الى البرهان على ذلك بقوله: ( (لاستحالة كون القراءة ... الى آخر الجملة)).

و هذا الدليل بظاهره و ان كان لا يقتضي أكثر من سقوط الأمر بالقراءة لا انه يقتضي النهي عنها، إلّا أنّك قد عرفت ان السبب في المساوقة هو ان المتصف بالمبغوض مبغوض.

ص: 256

امتناع الاجتماع، و أما بناء على الجواز فلا يسري إليه، كما عرفت في المسألة السابقة، هذا حال النهي المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف (1).

______________________________

(1) كالقسم الخامس هو النهي عن الوصف المفارق و هو على قسمين لان الوصف المفارق: تارة يكون في مقام تحققه متحدا بالوجود مع العبادة كالغصبية مع الصلاة.

و اخرى لا يكون في تحققه متحدا معها بل له وجود على حدة كالنظر الى الأجنبية في الصلاة، و في هذا القسم الثاني لا يسري النهي الى العبادة، لوضوح انه لا موجب للسريان لكون الصلاة و النظر الى الاجنبية موجودين منفصلين جمع بينهما الزمان، و مثل هذين الموجودين الذي جمع الزمان صدفة بينهما لا تقيد لأحدهما بالآخر، فلا موجب للسريان لعدم الاتحاد وجودا و لعدم التقيد، و لذا قال: ( (فان النهي عنه لا يسري الى الموصوف)).

و أما القسم الأول و هو الوصف المفارق الذي يكون متحدا وجودا مع الموصوف فالأمر فيه مبني على جواز الاجتماع و عدمه، فبناء على الجواز لا يسري النهي الى الموصوف، و اما بناء على الامتناع فيسري.

فتلخص ان النهي المتعلق بالوصف المفارق غير المتحد وجودا مع الموصوف و قد جمع الزمان بينهما صدفة خارج عن محل النزاع، لان النهي عنه لا يرجع الى النهي الى العبادة أصلا.

و أما الوصف المتحد في الوجود فبناء على الجواز خارج عن محل النزاع، و بناء على الامتناع داخل في محل النزاع.

و قد أشار الى كون الوصف المفارق المتحد في مقام الوجود حاله مبنى على الجواز و الامتناع بقوله: ( (الا فيما اذا اتحد معه وجودا بناء على امتناع الاجتماع)) فان النهي فيه يسري الى العبادة و يكون داخلا في محل النزاع ( (و اما بناء على الجواز فلا يسري)) و يكون خارجا عن محل النزاع.

ص: 257

و أما النهي عن العبادة لاجل أحد هذه الامور، فحاله حال النهي عن أحدها إن كان من قبيل الوصف بحال المتعلق.

و بعبارة أخرى: كان النهي عنها بالعرض، و إن كان النهي عنها على نحو الحقيقة، و الوصف بحاله، و إن كان بواسطة أحدها، إلا أنه من قبيل الواسطة في الثبوت لا العروض، كان حاله حال النهي في القسم الاول، فلا تغفل.

و مما ذكرنا في بيان أقسام النهي في العبادة (1)، يظهر حال الاقسام في

______________________________

(1) لا يخفى ان النهي تارة يتعلق بنفس الجزء و الشرط و الوصف و قد مر الكلام فيه و اما اذا تعلق بالعبادة لأجل احد هذه الأمور فهو على نحوين:

فان النهي تارة يتعلق بالعبادة بنحو العرض و المجاز بمعنى ان يكون النهي متعلقا حقيقة بنفس هذه الأمور و تعلقه بالعبادة بنحو الواسطة في العروض بحيث يصح سلب تعلق النهي عن العبادة حقيقة فالعبادة غير منهي عنها واقعا، فالحال في مثل هذا النهي حال النهي المتعلق بنفس هذه الامور، لان هذه الأمور هي متعلق النهي واقعا و العبادة غير منهي عنها واقعا و انما كان النهي عنها بنحو العرض و المجاز، و قد مر الكلام في ذلك.

و اخرى يكون النهي المتعلق بالعبادة لأجل هذه الأمور كان متعلقا بها حقيقة و تكون هذه الأمور واسطة في ثبوت النهي لنفس العبادة فالعبادة قد تعلق النهي بها حقيقة، و حال هذا النهي حال النهي المتعلق بالعبادة لذاتها.

و قد أشار الى النحو الأول بقوله: ( (فحاله حال النهي عن احدها ان كان من قبيل الوصف بحال المتعلق)).

و قد أشار الى النحو الثاني بقوله: ( (و ان كان النهي عنها على نحو الحقيقة)) أي و ان كان النهي متعلقا بالموصوف الذي هو العبادة على نحو الحقيقة ( (و الوصف بحاله)) أي ان النهي قد تعلق بالعبادة بنفسها غاية الأمر ان السبب في هذا التعلق

ص: 258

المعاملة، فلا يكون بيانها على حدة بمهم (1)، كما أن تفصيل الاقوال في الدلالة على الفساد و عدمها، التي ربما تزيد على العشرة- على ما قيل كذلك، إنما المهم بيان ما هو الحق في المسألة، و لا بد في تحقيقه على نحو يظهر الحال في الاقوال، من بسط المقال في مقامين:

الاول في العبادات: فنقول و على اللّه الاتكال: إن النهي المتعلق بالعبادة بنفسها، و لو كانت جزء عبادة بما هو عبادة- كما عرفت- مقتض لفسادها، لدلالته على حرمتها ذاتا، و لا يكاد يمكن اجتماع الصحة

______________________________

على نحو الحقيقة هو أحد هذه الأمور، و المدار على كون التعلق بالعبادة تعلقا حقيقيا سواء كان السبب له هو ذات العبادة أو أحد هذه الأمور لأن هذه الأمور تكون واسطة في ثبوت النهي لنفس العبادة و لذا قال: ( (و ان كان بواسطة احدها إلّا انه من قبيل الواسطة في الثبوت لا العروض)) كالنحو المتقدم فانه ( (كان حاله حال النهي في القسم الأول)) و هو النهي المتعلق بالعبادة لذاتها.

(1)

أقسام النهي في المعاملات

فالنهي المتعلق بالمعاملة داخل في محل النزاع كالنهي عن الربا، و كذلك النهي المتعلق يجزئها كالنهي عن تقدم القبول على الايجاب.

و اما النهي المتعلق بشرط المعاملة كالنهي عن الاكراه في المعاملة فهو خارج عن ذلك النهي المتعلق بتلك المعاملة، و لكنه داخل في النهي المتعلق بالمعاملة كليا.

و اما النهي المتعلق بالوصف غير المفارق كالنهي عن غير الماضوية في العقد فهو مساوق للنهي المتعلق بنفس المعاملة الموصوفة بذلك الوصف فهو داخل في محل النزاع.

و اما الوصف المفارق فان كان من الوجودين المنفصلين اللذين جمع بينهما الزمان صدفة فلا يكون النهي عن ذلك الوصف نهيا عن تلك المعاملة، و ان كان بما ان ذلك الوصف كمعاملة من المعاملات فهو داخل في النهي عن المعاملة كليا.

و اما الوصف المتحد فهو مبني على الجواز و الامتناع.

ص: 259

بمعنى موافقة الامر أو الشريعة مع الحرمة، و كذا بمعنى سقوط الاعادة، فإنه مترتب على إتيانها بقصد القربة، و كانت مما يصلح لان يتقرب به، و مع الحرمة لا تكاد تصلح لذلك، و يتأتى قصدها من الملتفت إلى حرمتها، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1)

اقتضاء النهي عن العبادة للفساد

لا يخفى ان النهي المتعلق بالعبادة او بجزئها فانه عبادة كما عرفت، أما ان يكون نهيا ارشاديا أي بداعي الارشاد الى فسادها و دلالة هذا النهي الارشادي على الفساد واضحة، و اما ان يكون تشريعيا و سيأتي ملازمته للفساد أيضا، و أما ان يكون تحريميا مولويا و هو يدل على حرمة العبادة ذاتا، و العبادة المحرمة بالحرمة الذاتية لا بد و ان تكون فاسدة لان الصحة عند المتكلم هي موافقة المأتي به للمأمور به المعبر عنها بموافقة الأمر أو الشريعة.

و من الواضح: ان المحرم بالحرمة الذاتية مطلوب تركه لزوما و لا يعقل ان يجتمع طلب الترك لزوما مع الأمر به الذي هو طلب الايجاد، فالمحرم بالحرمة الذاتية لا أمر فيه فلا تكون له صحة التي هي موافقة الأمر، اذ لا أمر به حتى تكون له موافقة.

و الى هذا اشار بقوله: ( (و لا يكاد يمكن اجتماع الصحة بمعنى موافقة الأمر او الشريعة مع الحرمة)) هذا حال العبادة المتعلق بها النهي التحريمي الذاتي على رأي المتكلم.

و أما على رأي الفقيه التي الصحة عنده هي سقوط القضاء و الاعادة فانه أيضا مقتض لفساد العبادة، لان العبادة التي بها يسقط القضاء و الاعادة هي الجامعة لجميع الشرائط التي من جملتها وقوعها مقربة، و وقوع الشي ء قربيا يتوقف على أمرين:

قصد التقرب به، و ان يكون مما يمكن ان يكون مقربا فان قصد التقرب الى المولى بقتل ولده لا يعقل ان يكون مقربا عنده هذا لو تأتى قصد القربة من المكلف غفلة، لأنه مع علمه لا يعقل أن يتأتى منه قصد التقرب، لان المبعد عن المولى لا يكون مقربا اليه، فالعبادة المتعلق بها النهي التحريمي الذاتي تقع مبغوضة و مع وقوعها مبغوضة

ص: 260

لا يقال: هذا لو كان النهي عنها دالا على الحرمة الذاتية، و لا يكاد يتصف بها العبادة، لعدم الحرمة بدون قصد القربة، و عدم القدرة عليها مع قصد القربة بها إلا تشريعا، و معه تكون محرمة بالحرمة التشريعية لا محالة، و معه لا تتصف بحرمة أخرى، لامتناع اجتماع المثلين كالضدين (1).

______________________________

لا يعقل ان تكون مقربة لو تأتى من المكلف قصد التقرب بها غفلة، اما مع علمه فلا يتأتى منه قصد القربة بها.

و على كل فالعبادة المتعلق بها النهي مع علم المكلف بمبغوضيتها تكون فاقدة للأمرين، لعدم اتيانها بقصد القربة، و غير صالحة للقربة، و مع غفلة المكلف تكون فاقدة لامر واحد و هو كونها غير صالحة للتقرب، و مع وقوعها في الخارج غير مقربة لا تكون واجدة لشرط سقوط القضاء و الاعادة الذي هو وقوعها مقربة.

و قد أشار المصنف الى ذلك بقوله: ( (و كذا بمعنى سقوط الاعادة فانه)) أي سقوط الاعادة ( (مترتب على اتيانها بقصد القربة)) لوضوح انها اذا لم يقصد بها القربة لا تقع مقربة و هذا هو الأمر الأول.

و الأمر الثاني ما أشار اليه بقوله: ( (و كانت مما يصلح لأن يتقرب بها و مع الحرمة لا تكاد تصلح لذلك)) أي لان تقع قريبة لو تاتى قصد القربة بها غفلة، و مع العلم بالحرمة لا يعقل أن يأتى قصد القربة، و لذا قال: ( (و يتأتى قصدها من الملتفت الى حرمتها)) أي مع الحرمة الذاتية لا تكاد تصلح للقربة و لا يكاد يتأتى قصد القربة من الملتفت لعلمه بالحرمة.

و قد ظهر مما ذكرنا: ان قوله: ( (و يتأتى)) معطوفة على قوله: ( (تكاد)) أي لا تكاد تصلح لذلك و لا تكاد يتأتى قصدها من الملتفت.

(1) حاصل هذا الايراد ان النهي التحريمي الذاتي لا يعقل ان يتعلق بالعبادة، و لا يمكن ان تكون العبادة بما هي عبادة محرمة بالحرمة الذاتية لان المأتي به لا يقع

ص: 261

.....

______________________________

عبادة إلّا ان يؤتى به بقصد القربة، فالعبادة المتعلق بها النهي اذا اتى بها من دون قصد القربة لا تكون عبادة و مع عدم كونها عبادة لا تكون هي المنهي عنها، و وقوعها مصداقا للمنهي عنه بما انها عبادة منهي عنها يتوقف على إتيانها بقصد الامر، و لازم ذلك ان يكون متعلق النهي هو متعلق الامر بما هو متعلق الامر، و معنى ذلك تعلق النهي بالمأمور به بما هو مأمور به، و تعلق النهي بالمأمور به بما هو مأمور به محال واضح، فانه كيف يعقل ان يطلب ترك المطلوب ايجاده بما هو مطلوب ايجاده، فتعلق النهي التحريمي بالعبادة بما هي عبادة محال و تعلق النهي بغير المأتي به بقصد القربة خلف، لأن المفروض ان يكون متعلق النهي هو العبادة، و المأتي به لا بقصد القربة ليس بعبادة.

و الحاصل: ان تعلق النهي بغير العبادة خلف، و تعلقه بالعبادة التي لا بد من قصد القربة بها حقيقة محال.

نعم يمكن ان يقصد بها القربة تشريعا فانه يمكن ان يؤتى بالشي ء غير المتعلق به الامر حقيقة بقصد اتيانه امتثالا لأمر قد شرعه له غير الشارع، و المأتي به بقصد الأمر التشريعي محرم بالحرمة التشريعية، و من الواضح ان الشي ء الواحد لا يتحمل حكمين فاذا كان محرما بالحرمة التشريعية لا يعقل ان يكون محرما بحرمة غيرها، فالمحرم بالحرمة التشريعية بما هو محرم بهذه الحرمة لا يعقل ان يكون محرما بحرمة أخرى بما هو محرم تشريعا، و لا يعقل ان يكون ذات ما تعلق به النهي من دون قصد القربة محرما ذاتيا لعدم كونه عبادة، و لا يعقل ان يكون بما هو متعلق الأمر متعلقا للحرمة الذاتية، و لذا قال: ( (هذا لو كان النهي عنها دالا على الحرمة الذاتية)) و كون النهي دالا على الحرمة الذاتية غير معقول، لان المأتي به ان لم يؤت به بقصد القربة لا يكون متعلق النهي أمرا عباديا، و لذا قال: ( (و لا يكاد يتصف بها العبادة لعدم الحرمة بدون قصد القربة)) و تعلق النهي بالعبادة بما هي مقصود بها امتثال

ص: 262

فإنه يقال: لا ضير في اتصاف ما يقع عبادة- لو كان مأمورا به- بالحرمة الذاتية، مثلا صوم العيدين كان عبادة منهيا عنها، بمعنى أنه لو أمر به كان عبادة، لا يسقط الامر به إلا إذا أتى به بقصد القربة، كصوم سائر الايام، هذا فيما إذا لم يكن ذاتا عبادة، كالسجود للّه تعالى و نحوه، و إلا كان محرما مع كونه فعلا عبادة، مثلا إذا نهي الجنب و الحائض عن السجود له تبارك و تعالى، كان عبادة محرمة ذاتا حينئذ، لما فيه من المفسدة و المبغوضية في هذا الحال (1)، مع أنه لا ضير في اتصافه

______________________________

الامر حقيقة غير معقول أيضا لانه شي ء غير مقدور، و لذا قال: ( (و عدم القدرة عليها مع قصد القربة بها)).

نعم يمكن قصد اتيانها امتثالا للأمر التشريعي، و لذا قال: ( (الا تشريعا و معه)) أي مع قصد التشريع ( (تكون)) تلك العبادة التشريعية ( (محرمة بالحرمة التشريعية لا محالة و معه)) أي و مع اتصافها بالحرمة التشريعية ( (لا تتصف بحرمة اخرى لامتناع اجتماع المثلين كالضدين)) فانه كما لا يعقل ان يجتمع الوجوب و الحرمة في شي ء واحد كذلك لا يعقل ان تجتمع حرمتان في شي ء واحد.

(1) أجاب المصنف عن هذا الاشكال بثلاثة أجوبة:

الأول ما اراده بقوله: ( (لا ضير)) و حاصله: في ان الحرمة الذاتية تتعلق بالعبادة، لان العبادة اما ان تكون ذاتية و هي لا تحتاج الى قصد القربة في وقوعها عبادة، فان قصد العنوان فيها هو الموجب لعباديتها كتعظيم المولى و تقديسه.

و اما ان تكون غير ذاتية و هي التي لو تعلق بها أمر لكان عباديا لا يسقط إلّا بقصد القربة، فالعبادة هي ذات ما يتعلق به قصد القربة، و ليس المراد بالعبادة ما كانت عبادة بالفعل مقصودا بها القربة حتى يلزم من تعلق النهي بها التكليف بغير المقدور.

ص: 263

.....

______________________________

و بعبارة اخرى: ان الحرمة الذاتية المتعلقة بالعبادة متعلقها اما عبادة تعليقا و هذه ليست عبادة بالفعل حتى يلزم من تعلق النهي بها محال، فان كونها عبادة بالفعل يحتاج الى قصد القربة الذي لا يتحقق فيها إلّا بقصد امتثال الأمر، و اما ان يكون متعلقها ما هو عبادة بالفعل و لكن عباديتها لا تتوقف على قصد الأمر بل قصد عنوانها الذاتي لها كاف في عباديتها، كالسجود للّه فان قصد السجود للّه من دون قصد امتثال الامر به يوجب وقوع السجود عبادة فلا مانع من تعلق الحرمة الذاتية بالعبادة بكلا معنييها.

و قد أشار الى العبادة التعليقية بقوله: ( (لا ضير في اتصاف ما يقع عبادة لو كان مأمورا به بالحرمة الذاتية مثلا صوم)) يوم ( (العيدين)) فان النهي المتعلق بصوم يوم العيدين مفاده حرمة ذاتية و قد تعلق بالصوم الذي لو كان هذا الصوم متعلقا للأمر لكان امره لا يسقط إلّا بقصد امتثاله، و حال هذا الصوم كالصوم في غير يوم العيدين من ساير الأيام فان الأمر المتعلق به لا يسقط إلّا باتيان الصوم مقصودا به امتثال امره، و اشار الى العبادة الذاتية بقوله: ( (هذا فيما اذا لم يكن ذاتا عبادة كالسجود للّه تعالى ... الى آخر الجملة)).

فاتضح: انه لا مانع من تعلق النهي الدال على الحرمة الذاتية بالعبادة و يلزم من تعلق النهي بالعبادة فسادها على رأي المتكلم لعدم الامر، و على رأي الفقيه لعدم سقوط القضاء و الاعادة بهذه العبادة المنهي عنها لان النهي الدال على الحرمة الذاتية يجعلها مبغوضة لوضوح ان المطلوب تركه مولويا مبغوض للمولى الاتيان به، و ما كان وقوعه مبغوضا لا يعقل ان يقع مقربا، فان السجود للّه تعالى و ان كان تعظيما له إلّا انه اذا تعلق به النهي يكون هذا السجود مبغوضا للّه و ان كان تعظيما له و ما كان مبغوضا للّه لا يكون مقربا اليه، و الى هذا اشار بقوله: ( (لما فيه من المفسدة و المبغوضية)).

ص: 264

بهذه الحرمة مع الحرمة التشريعية، بناء على أن الفعل فيها لا يكون في الحقيقة متصفا بالحرمة، بل إنما يكون المتصف بها ما هو من أفعال القلب، كما هو الحال في التجري و الانقياد (1)،

______________________________

لا يخفى ان كون المنهي عنه مفسدة مبني على كون الاحكام تابعة للمصالح و المفاسد، و اما كونه مبغوضا فهو لازم على كل حال لان وجود ما لا يريد المولى وجوده يوجب كون وجوده مما لا يرضى به المولى، و هو معنى كون وجوده مبغوضا.

(1) هذا هو الجواب الثاني، و حاصله: انه لو قلنا ان متعلق الحرمة التشريعية هو القصد لان التشريع هو قصد ادخال ما ليس من الشرع في الشرع فمتعلق الحرمة التشريعية فعل نفساني قلبي لا خارجي، فالتشريع مثل التجري فان معناه بحسب الاصطلاح هو قصد الطغيان على المولى بفعل ما يعتقد المكلف أنه عصيان للمولى و طغيان عليه و لا يكون كذلك في الواقع، و كذلك الانقياد فانه بحسب الاصطلاح قصد العبد بفعله في اداء رسم الطاعة و العبودية بما يعتقد انه طاعة لمولاه و عبودية له و لا يكون في الواقع كذلك، فالتجري و الانقياد من الافعال القلبية النفسانية.

فاذا قلنا ان المحرم التشريعي هو القصد و هو فعل قلبي نفساني فلا مانع من ان يكون الفعل الخارجي متعلقا لحرمة اخرى، و لا يلزم اجتماع الحكمين في شي ء واحد لتعدد متعلق كل منهما، و مع تعدد المتعلق لا يجتمع الحكمان في شي ء واحد، و هذا الجواب يتعلق بقول المورد: ( (و معه لا تتصف بحرمة اخرى)) أي و مع اتصاف الفعل بالحرمة التشريعية لا يعقل ان تتعلق به حرمة اخرى للزوم اجتماع المثلين.

فقد ظهر: انه اذا كانت الحرمة التشريعية متعلقة بالفعل القلبي لا مانع من ان يكون الفعل الخارجي متعلقا لحرمة اخرى لان الفعل الخارجي لا حرمة فيه تشريعية، فاذا كان حراما بحرمة اخرى لا يلزم من ذلك اجتماع المثلين، و انما قال المصنف بناء لا مكان ان يكون قصد التشريع موجبا لكون الفعل الذي قصد التشريع به محرما فيكون القصد التشريعي موجبا لكون المشرع به حراما كما قيل مثل هذا في التجرى

ص: 265

فافهم (1).

هذا مع أنه لو لم يكن النهي فيها دالا على الحرمة، لكان دالا على الفساد، لدلالته على الحرمة التشريعية، فإنه لا أقل من دلالته على أنها ليست بمأمور بها، و إن عمها إطلاق دليل الامر بها أو عمومه (2)، نعم لو

______________________________

و الانقياد من وقوع الفعل المتجرى به حراما و المنقاد به طاعة بالعنوان الثانوي و هو كونه متجرى به و منقادا به لا بعنوانه الاولى.

و اذا كانت الحرمة التشريعية متعلقها الفعل المشرع به يكون نفس الفعل الخارجي متعلق الحرمة التشريعية و حينئذ لا يعقل ان يكون معروضا لحرمة اخرى، و إلّا لزم اجتماع المثلين لوحدة المتعلق.

(1) يمكن ان يكون اشارة الى انه خلاف التحقيق عند المصنف و ان متعلق التشريع و التجري و الانقياد هو الفعل القلبي.

و يمكن ان يكون اشارة الى انه حتى لو قلنا بان الحرمة التشريعية متعلقها الفعل القلبي مع ذلك لا يعقل ان يكون الفعل المأتي به بقصد التشريع محرما بحرمة اخرى، لان هذه الحرمة الاخرى المتعلقة بالفعل المأتي به تشريعيا لا يعقل ان تكون فعلية يوما ما لعدم امكان اتيان الفعل بما هو مأتي به بقصد التشريع بقصد آخر، لمحالية صدور الفعل الواحد بداعيين استقلاليين، و اثباته بداعي التشريع و بداع آخر بنحو التشريك خلاف الفرض، فان المفروض ان متعلق الحرمة الاخرى هو المأتي به بداعي التشريع استقلالا و الحكم الذي لا تترقب له فعلية لغو لا يصدر من الحكيم.

(2) هذا الجواب الثالث، و حاصله: انه لو سلمنا ان النهي المتعلق بالعبادة لا يمكن ان يكون نهيا تحريميا ذاتيا و يلزم ان يكون نهيا تحريميا تشريعيا، و لكن النتيجة المترتبة على النهي لو كان تحريميا ذاتيا و هي فساد العبادة مترتبة قطعا فيما اذا كان النهي تشريعيا، لوضوح ان المأتي به المتعلق به النهي التشريعي لا يعقل ان يكون متعلقا للأمر، لان معنى النهي التشريعي هو النهي عن اتيان الشي ء امتثالا به لامر ليس

ص: 266

.....

______________________________

بحقيقي بل تشريعي، و لو كان له أمر حقيقي لما امكن ان يكون له أمر تشريعي فان التشريع انما يكون لما ليس له أمر حقيقة، فاذا كان قد تعلق به امر حقيقي فكيف يكون له أمر تشريعي، فالنهي عن اتيان الشي ء تشريعا يلازمه عدم تعلق الأمر الحقيقي بالشي ء.

لا يقال: انه لا ملازمة بين النهي التشريعي و عدم تعلق الأمر الحقيقي بالشي ء، لان ما تعلق به الأمر الحقيقي محرم إتيانه بقصد امتثال أمر تشريعي غير الامر الحقيقي المتعلق به.

فانه يقال: ان الظاهر من النهي المتعلق بالعبادة كونه تحريميا ذاتيا، و لكن ما ذكروه في لا يقال من المحاذير هو المانع عن هذا الظهور فلا بد من صرفه الى التشريعي، و هذا يدل على ان هذا النهي التشريعي ليس متعلقه ما كان له أمر حقيقي و لكنه يؤتى به بقصد أمر آخر تشريعي.

فاتضح: ان هذا النهي مع صرفه الى النهي التشريعي يلازم كون متعلقه لا أمر به حقيقي، هذا مع ان المدعى في ان المأتي به بأمر تشريعي يلازم فساده و المأتي به بأمر تشريعي لا يعقل ان يكون له أمر حقيقي بما هو مأتي به تشريعا، و قد عرفت ان المصحح للعبادة هو وقوعها قربية و وقوعها قربية لا يكون إلّا بقصد أمرها، فان محل الكلام هو تعلق النهي التحريمي الذاتي بالعبادة غير الذاتية، لما عرفت من ان العبادة الذاتية لا مانع من تعلق النهي التحريمي الذاتي بها، و اذا كانت العبادة غير الذاتية هي متعلق النهي التشريعي فلا يمكن ان تقع عبادة يترتب عليها آثارها إلّا بقصد أمرها لانها به تقع قربية، و اذا كان لا أمر لها حقيقي فلا يمكن ان تقع مقربة لعدم الأمر بها حتى يتأتى قصده، و لذا قال (قدس سره): ( (هذا مع انه لو لم يكن النهي فيها)) أي في العبادة ( (دالا على الحرمة)) الذاتية ( (لكان دالا على الفساد ل)) أجل ( (دلالته على الحرمة التشريعية)) لما عرفت من انه يلازم النهي التشريعي عدم الامر الحقيقي، و لذا

ص: 267

لم يكن النهي عنها إلا عرضا، كما إذا نهى عنها فيما كانت ضد الواجب مثلا، لا يكون مقتضيا للفساد، بناء على عدم اقتضاء الامر بالشي ء للنهي عن الضد الا كذلك أي عرضا، فيخصص به أو يقيد (1).

______________________________

قال: ( (فانه لا أقل من دلالته على انها)) أي العبادة المتعلق بها النهي التشريعي ( (ليست بمأمور بها و ان عمها اطلاق دليل الأمر بها أو عمومه)).

ثم لا يخفى ان العبادة و ان كان كما يمكن ان تقع قربية بقصد أمرها كذلك يمكن ان تقع قربية بقصد ملاكها إلّا ان العبادة المتعلق بها النهي التشريعي الفرض فيها ان يؤتى بها بقصد التشريع، و مع إتيانها بقصد التشريع لا يعقل ان يؤتى بها بقصد الملاك أو قصد آخر، لمحالية ان يجتمع داعيان مستقلان على ايجاد شي ء واحد.

(1) حاصله: ان النهي المتعلق بالعبادة قد يكون تعلقه بها بالعرض و المجاز و معناه عدم تعلق النهي بها حقيقة، فهي في الحقيقة ليست متعلقة لنهي لا حقيقي و لا تشريعي و يصح سلب تعلق النهي بها على وجه الحقيقة كما في النهي المتعلق بالعبادة التي هي ضد للواجب كالصلاة المضادة للإزالة فانه بناء على ان الضد ليس من مقدمات وجود الضد الآخر و انما هي ملازمة لعدم الازالة المنهي عنه و ليست من مقدماته فالنهي المتعلق بها لاجل المضادة لا بد و ان يكون قد تعلق بها عرضا و مجازا، و ان متعلقه في الحقيقة غير الصلاة المضادة للازالة، فالصلاة لم يتعلق بها النهي في الحقيقة و مثل هذا النهي العرضي لا بد و ان لا يدل على فسادها لانه ليس بنهي حقيقة حتى يكون دالا على المبغوضية المنافية للقربة و لا نهيا تشريعيا حتى يلازم الفساد فيها كما تقدم بيانه، فلا مانع من وقوعها صحيحة و لو بقصد الملاك فيها اذا لم نقل بصحة اتيانها بقصد الامر بناء على معقولية الترتب، و على كل فالنهي العرض لا يقتضي فساد العبادة.

ص: 268

المقام الثاني في المعاملات: و نخبة القول، أن النهي الدال على حرمتها لا يقتضي الفساد، لعدم الملازمة فيها- لغة و لا عرفا- بين حرمتها و فسادها أصلا، كانت الحرمة متعلقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة، أو بمضمونها بما هو فعل بالتسبب او بالتسبب بها اليه و ان لم يكن السبب و لا المسبب بما هو فعل من الافعال بحرام، و إنما يقتضي الفساد فيما إذا كان دالا على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحتها، مثل النهي عن أكل الثمن أو المثمن في بيع أو بيع شي ء (1).

______________________________

قوله (قدس سره): ( (الا كذلك عرضا)) أي بناء على عدم اقتضاء الامر بالشي ء للنهي عن ضده لا يكون النهي المتعلق بالعبادة لأجل المضادة الا نهيا عرضيا فهو بالعرض و المجاز و يصح سلبه عن متعلقه على وجه الحقيقة فلا اقتضاء له للفساد.

قوله (قدس سره): ( (فيخصص و يقيد)) ظاهر عبارة المتن ان المراد من هذه العبادة هو ان العموم او الاطلاق الدالان على ان النهي المتعلق بالعبادة يقتضي فسادها يخصص العموم و يقيد الاطلاق منهما بالنهي العرضي فانه نهي قد تعلق بالعبادة، و لكن لا يقتضي فسادها فيخصص بهذا النهي العرضي العموم او الاطلاق الدالان على فساد العبادة المتعلقة للنهي.

و يحتمل و لو بعيدا ان يكون المراد منها بان هذا النهي العرضي لا يخصص به و لا يقيد العموم أو الاطلاق الدالان على صحة الصلاة كما يخصص العموم او الاطلاق بالنهي الحقيقي الدال على فساد الصلاة.

(1)

دلالة النهي على الفساد في المعاملة

النهي المتعلق بالمعاملة على انحاء اربعة:

لانه اما ان يتعلق بها بما هي فعل من افعال المكلف لا بما هي معاملة، كالنهي المتعلق بالبيع عند النداء لصلاة الجمعة فان النهي المتعلق بالبيع وقت النداء لا لأنه بيع و معاملة بل لأنه فعل من الأفعال، فان الغرض من هذا النهي ترك كل فعل من الأفعال غير السعي الى الصلاة فلو نام في وقت النداء اختيارا او اكل بحيث يكون

ص: 269

.....

______________________________

الاكل منافيا للسعي لادراك الصلاة لكان قد فعل المنهي عنه، و انما ذكر البيع دون غيره من الافعال اما لانه الغالب الذي يحصل التشاغل به في ذلك الوقت في المجتمعات السوقية التجارية، او لانه أهم ما يقوم به نظام الحياة الاجتماعي.

و أما ان يتعلق النهي بالسبب من دون ان يكون المسبب محرما او مبغوضا كالنهي المتعلق بالظهار بقصد التسبب به الى الفراق، فان نفس الفراق بين الزوج و زوجته المسبب عن الظهار ليس بمحرم و لا مبغوض و لكن هذا السبب الخاص له و هو الظهار هو المحرم و المبغوض.

و أما ان يتعلق بالمسبب من دون ان يكون السبب له بمحرم و لا مبغوض كملكية الكافر للمسلم أو المصحف، فان ملكية الكافر للمسلم او المصحف التي هي المسبب عن بيع او هبة أو مصالحة هي المبغوضة دون السبب لها.

و اما ان يتعلق بآثار المعاملة كحرمة الثمن او المثمن كقوله عليه السّلام: (ثمن العذرة أو الخنزير سحت) و معنى كون الثمن سحت هو حرمة التصرف بهذا الثمن الذي هو الأثر للمعاملة، فان الغرض من المعاملة هو التصرف بالثمن و المثمن.

ينبغي ان لا يخفى ان المصنف لم يشر الى الوجه الثاني في المتن و ان كان قد اشار الى انحاء اربعة فانه اشار الى الوجه الاول و الى الوجه الثالث بحسب ما ذكرنا من الترتب و بحسب عبارته هو الوجه الثاني و الوجه الثالث الذي اشار اليه في المتن هو النهي عن التسبب لا عن السبب و لا عن المسبب و لا عن الآثار الذي هو الوجه الرابع بحسب ما ذكرنا و بحسب المتن و لكنه سيأتي المناقشة في الوجه الثالث و انه غير واضح.

ثم لا يخفى انه لا مانع من تعلق الحرمة الذاتية بهذه الأقسام الأربعة، و انما الكلام في ان النهي التحريمي المتعلق بها هل يقتضي فساد المعاملة بما هو نهي تحريمي أم لا؟

و فيما عدا النحو الرابع و هو النهي المتعلق بآثار المعاملة لا يقتضي فسادها.

اما النحو الاول: فلوضوح انه محرم و مبغوض بما هو فعل من الافعال، و ليس بما هو معاملة بمبغوض حتى يمكن ان يتوهم اقتضاء مبغوضية المعاملة لفسادها او اقتضاء

ص: 270

.....

______________________________

الملازمة العرفية للفساد، فان الملازمة العرفية لو ادعيت فانما هي بين المعاملة أو الفساد.

و اما النحو الثاني: و هو تعلق الحرمة الذاتية بالسبب بما هو سبب فلا يقتضي فسادها أيضا لعدم الملازمة عقلا بين مبغوضية السبب و عدم ترتب أثره عليه.

و قد يقال: ان العقل و ان كان لا يرى تلازما بين مبغوضية وجود السبب خارجا و بين تأثيره أثره المترقب منه إلّا ان العرف يرى الملازمة بين مبغوضية السبب و بين عدم تأثيره و الخطابات الشرعية تنزل على المرتكزات العرفية.

و الجواب عنه: ان العرف لا يرى الملازمة بين الحرمة الذاتية للأسباب المعاملية و بين تأثيرها أثرها، و قد عرفت انه وقع في الشرع تحريم السبب كما في الظهار مع تاثيره اثره و لا يرى العرف ان في تحريم الشارع للظهار مع ترتب أثره عليه تخطئة او تخصيصا لهذه الملازمة، و لو كانت الملازمة العرفية ثابتة لتحقق احد الامرين.

و اما النحو الثالث: و هو تحريم الاثر المترتب على السبب الذي هو المسبب كالملكية المترتبة على البيع أو الهبة فانه أيضا لا ملازمة عقلا بين مبغوضية الأثر و بين ترتبه على سببه كملكية الكافر للمسلم او المصحف فانها تترتب على بيع المسلم او المصحف منه او هبته له، و ان وجب على الحاكم الشرعي أو المسلمين ان يجبروه على اخراجه عن ملكيته، فان هذا يدل على تملكه له و إلّا لما كان لإجباره عليه معنى.

و قد يستشكل بالملازمة عقلا بين مبغوضية الاثر و بين الفساد.

و حاصله: ان الاثر حيث انه من الامور الجعلية للشارع فلا معنى لاعتبار الشارع له مع مبغوضيته اياه، و أي داع لان يعتبر الشارع حصول ما يبغض حصوله، نعم لو كانت ترتب الأثر من التأثيرات القهرية التكوينية لما كان ملازمة عقلا بين مبغوضيتها و فسادها، و لكن كون الأثر من الاعتبارات الجعلية الشرعية مما لا ريب فيه.

و الجواب عنه: ان جعل الشارع و اعتباره لشي ء حيث انه ليس بجزاف بل لا بد ان يكون لمصلحة تقتضي ذلك الجعل فلا مانع عقلا من ان تقوم المصلحة الملزمة بسبب

ص: 271

.....

______________________________

من الاسباب لان يعتبر الشارع تأثيره مع كون أثره مبغوضا، مثلا لو تحققت المصلحة الملزمة لان يكون عقد البيع الجامع لجميع الشرائط مؤثرا للملكية فتدعو هذه المصلحة الى ان يعتبر الشارع تحقق الملكية عند تحقق هذا العقد البيعي مع كون بعض افراد الملكية التي يؤثرها عقد البيع مبغوضة.

و بعبارة أخرى: ان المصلحة قد دعت لان يكون عقد البيع الجامع للشرائط علة تامة لاعتبار الملكية أثرا له فلا يعقل ان يتخلف عن ذلك عدم اعتبار الشارع للملكية اثرا له عند تحقق عقد البيع، و مع كون عقد البيع الجامع علة تامة لذلك و انه لا بد و ان يترتب عليه أثره فيكون على الشارع اعتبار تحقق أثره و ان كان بعض أفراد الأثر مبغوضا عند الشارع فلا مانع عقلا بين اعتبار الملكية أثرا للبيع و بين مبغوضية ملكية الكافر للمسلم أو المصحف.

فاتضح مما ذكرنا: عدم الملازمة عقلا بين الحرمة في هذه الأنحاء الثلاثة و بين فسادها، و عدم الملازمة العرفية بين حرمتها و فسادها.

و من الواضح أيضا عدم دلالة النهي لغة بحسب الوضع على فساد المعاملة، و لذا قال (قدس سره): ( (ان النهي الدال على حرمتها لا يقتضى الفساد لعدم الملازمة فيها لغة و لا عرفا)) أي لعدم الملازمة في حرمتها للفساد لا من ناحية اللغة و لا من ناحية العرف و لا ربط ( (بين حرمتها و فسادها أصلا)).

و قوله (قدس سره): ( (كانت الحرمة متعلقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة)) يشير بهذا الى النحو الأول و هو كالبيع وقت النداء.

و قوله: ( (أو بمضمونها بما هو فعل بالتسبيب)) يشير بهذا الى النحو الثالث و هو النهي المتعلق بالمسبب كملكية الكافر للمسلم أو المصحف، و لم يشر المصنف الى النحو الثاني و هو تعلق النهي بالسبب كالظهار.

و قوله: ( (أو بالتسبب بها اليه و ان لم يكن السبب و لا المسبب بما هو فعل من الأفعال بحرام)) لم يظهر لهذا مثال واضح، و قد ذكر له مثالا و هو تعلق النهي

ص: 272

.....

______________________________

بالزيادة الربوية بتقريب ان البيع بما هو بيع الذي هو السبب ليس بمبغوض و ان المسبب و هو ملكية الزيادة بما هي ملكية للزيادة ليست بمبغوضة، لعدم حرمة ملكية الزيادة بالهبة و لكن التسبب اليها بالبيع هو المبغوض و المحرم، فمراده من قوله: بما هو فعل من الأفعال: أي بما هو بيع و ملكية.

و يرد عليه، اولا: ان البيع بعد تنويعه الى بيع ربوي قد صار البيع نوعين، فالنهي عن الربا اما ان يكون المبغوض فيه هو السبب لملكية الزيادة، او ان المسبب و هو ملكية الزيادة هو المبغوض و قد يكون كلاهما مبغوضين، و يظهر من الاخبار النهي عن الربا سببا و مسببا و ان كليهما مبغوضان.

و ثانيا: ان التسبب بالمعاملة الى مضمونها و هو ما يترقب من آثارها ليس إلّا وجودها بما هي صادرة من المتسبب اليها.

و بعبارة اخرى: ان الملكية بما هي شي ء من الأشياء تترتب على العقد و لها وجود بنفسها يعبر عنها بالمسبب، و بما انها تصدر من المكلف بواسطة ايجاده لسببها و هو العقد فهي فعل صادر عنه بالتسبب لأنها ليست من الافعال المباشرية بل من آثار ما يصدر عنه بالمباشرة قهرا، فهي فعل توليدي قهري يترتب على ما يصدر منه بالمباشرة و يكون ايجاد سببه تسببا من المكلف اليه، فالملكية بملاحظة وجودها هي المسبب و بملاحظة ايجادها هي فعل يتسبب اليه، و من الواضح: ان الايجاد و الوجود متحدان ذاتا و مختلفان اعتبارا فلا يعقل ان تكون الملكية بوجودها غير مبغوضة و بما هي صادرة بالتسبب اليها مبغوضة، و لا يعقل ايضا ان يكون نفس التسبب اليها مبغوضا مع عدم مبغوضيتها بنفسها، اذ ليس التسبب اليها الا ايجادها و اصدارها، و قد عرفت اتحاد الوجود و الايجاد ذاتا.

قوله (قدس سره): ( (و انما يقتضي الفساد فيما)) هذا هو النحو الرابع المتقدم و هو تعلق النهي التحريمي بالمنع عن جميع آثار المعاملة، و لا يخفى ان حرمة جميع آثار المعاملة يستلزم فسادها لوضوح لغوية اعتبار المعاملة مؤثرة مع المنع عن جميع آثارها.

ص: 273

نعم لا يبعد دعوى ظهور النهي عن المعاملة في الارشاد إلى فسادها، كما أن الامر بها يكون ظاهرا في الارشاد إلى صحتها من دون دلالته على إيجابها أو استحبابها، كما لا يخفى.

لكنه في المعاملات بمعنى العقود و الايقاعات، لا المعاملات بالمعنى الاعم المقابل للعبادات، فالمعول هو ملاحظة القرائن في خصوص المقامات، و مع عدمها لا محيص عن الاخذ بما هو قضية صيغة النهي من الحرمة، و قد عرفت أنها غير مستتبعة للفساد، لا لغة و لا عرفا (1).

______________________________

قوله (قدس سره): ( (عن أكل الثمن أو المثمن)) المراد من أكل الثمن أو المثمن هو التصرف بهما كقوله عليه السّلام: (ثمن العذرة او الخنزير سحت) و المثمن كالنهي عن المبيع بالبيع الربوي و النهي عن بيع كقوله عليه السّلام: (نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن بيع المنابذة او الحصاة) و بيع شي ء كالنهي عن بيع العنب بقصد ان يصنع خمرا.

(1) قد اشتهر على لسان الفقهاء كون النهي عن المعاملة انما هو بداعي الارشاد الى فسادها و هذا ظهور ثانوي، و الّا فالظهور الأولي للنهي كونه بداعي التحريم المولوي او الكراهة المولوية.

و لعل السبب في هذا الظهور هو اتباع النهي المتعلق بالمعاملة غالبا بما يدل على انه للإرشاد الى عدم نفوذها و عدم ترتب أثرها عليه.

او لأن النهي على نسق الأمر المتعلق بالمعاملة، و من الواضح ان الأمر المتعلق بالمعاملات ظاهر في الارشاد الى نفوذها لبعد ان يكون الامر بالبيع او الاجارة أو الصلح و سائر المعاملات الخاصة هو بداعي الوجوب المولوي او الاستحباب المولوي، و النهي حيث انه على حذو الامر فلذا كان هذا الظهور الثانوي لها دالا على الارشاد الى الفساد فيها.

و لا يخفى ان للمعاملة إطلاقين: فانها تارة يراد من المعاملة هي العقود و الايقاعات كالبيع و النكاح و العتق و الطلاق و تسمى بالمعاملة بالمعنى الاخص.

ص: 274

نعم ربما يتوهم استتباعها له شرعا، من جهة دلالة غير واحد من الاخبار عليه، منها ما رواه في الكافي و الفقيه، عن زرارة، عن الباقر

______________________________

و اخرى تطلق المعاملة على ما يقابل العبادة فتشمل المعاملة بالمعنى الاخص و غيرها كالغسل للتطهير و تسمى بالمعاملة بالمعنى الأعم، و حيث ان الارشاد الى نفوذ المعاملة و عدم نفوذها انما هو في المعاملة بالمعنى الاخص باعتبار ان نفوذ المعاملة هو كونها صحيحة و عدم نفوذها هو كونها فاسدة فما له النفوذ و عدم النفوذ هو المعاملة بالمعنى الاخص، و اما المعاملة بالمعنى الأعم فليس لها نفوذ و عدم نفوذ بل الصحة و الفساد فيها بترتب الاثر و عدم ترتبه، فاذا كان الظهور الثانوي الارشادي للنهي انما هو بداعي الارشاد الى النفوذ و عدمه فيكون هذا الظهور الارشادي من مختصات المعاملة بالمعنى الاخص دون المعاملة بالمعنى الأعم، و قد أشار المصنف الى هذا الظهور الثانوي الارشادي بقوله: ( (نعم لا يبعد دعوى ظهور النهي عن المعاملة في الارشاد الى فسادها)).

و أشار الى ما ذكرنا مما يجوز ان يكون هو السبب فيه بقوله: ( (كما ان الأمر بها يكون ظاهرا في الارشاد الى صحتها ... الى آخر الجملة)).

و قد أشار الى انه من مختصات المعاملة بالمعنى الاخص بقوله: ( (لكنه في المعاملات بمعنى العقود و الايقاعات لا المعاملات بالمعنى الأعم)).

قوله (قدس سره): ( (فالمعول ... الخ)) حيث ان ظهور النهي في الارشاد هو ظهور ثانوي و ان الظهور الاولى للنهي هو التحريم المولوي، و أيضا حيث انه انما حصل هذا الظهور الثانوي لمناسبات خاصة فلا بد من اتباع القرائن المصاحبة لهذا النهي في غير المعاملة بالمعنى الاخص، فان دلت على انه للارشاد الى عدم ترتب الأثر يؤخذ به و الّا فالمتبع هو الظهور الاولي و هو التحريم المولوي، و قد مرّ مفصلا:

بان النهي التحريمي عن المعاملة سواء كانت هي المعاملة بالمعنى الاخص او الاعم لا يقتضي فسادها.

ص: 275

عليه السلام سأله عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال: ذلك إلى سيده، إن شاء أجازه و إن شاء فرق بينهما، قلت: أصلحك اللّه تعالى، إن الحكم بن عتيبة و إبراهيم النخعي و أصحابهما، يقولون: إن أصل النكاح فاسد، و لا يحل إجازة السيد له، فقال أبو جعفر عليه السلام:

إنه لم يعص اللّه، إنما عصى سيده، فإذا أجاز فهو له جائز حيث دل بظاهره ان النكاح لو كان مما حرمه اللّه تعالى عليه كان فاسدا (1)،

______________________________

(1) حاصله: انه قد يتوهم بأن الملازمة بين العصيان باتيان متعلق المنهي عنه بالنهي التحريمي و بين الفساد و قد دلت عليه جملة من الأخبار، فاما ان تكون هذه الملازمة ثابتة في العرف و مسلمة عند الشارع، او تكون ملازمة شرعية فقط.

و ظاهر العبارة هو الاحتمال الثاني و ان الملازمة شرعية لقوله: ( (ربما يتوهم استتباعها له شرعا)).

و على كل فالتوهم المدعى هو انه قد دلت الاخبار على ان عصيان اللّه يلازمه فساد المعاملة التي بها تحقق العصيان.

و بالجملة ان فعل المحرم بالحرمة الذاتية يلازم فساده لان فعل المحرم عصيان للّه و ما به يكون العصيان للّه يقع فاسدا.

و الذي يدل على هذا المعنى رواية زرارة و هي ما رواه في الكافي و الفقيه عن زرارة عن الباقر عليه السّلام: سأله عن مملوك تزوج بغير اذن سيده.

فقال: ذلك الى سيده ان شاء اجاز و ان شاء فرق بينهما.

قلت: اصلحك اللّه تعالى ان حكم بن عتيبة و ابراهيم النخعي و اصحابهما يقولون ان اصل النكاح فاسد و لا يحل اجازة السيد له.

فقال ابو جعفر عليه السّلام: انه لم يعص اللّه و انما عصى سيده فاذا اجاز فهو له جائز. فان مضمونها ان زرارة قد سأل الباقر عليه السلام عن صحة زواج مملوك تزوج بغير اذن سيده فهل هو صحيح أو فاسد؟

ص: 276

و لا يخفى أن الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية هاهنا، أن النكاح ليس مما لم يمضه اللّه و لم يشرعه كي يقع فاسدا، و من المعلوم استتباع المعصية بهذا المعنى للفساد كما لا يخفى، و لا بأس بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه اللّه و لم يأذن به، كما أطلق عليه بمجرد عدم إذن السيد فيه أنه معصية.

و بالجملة: لو لم يكن ظاهرا في ذلك، لما كان ظاهرا فيما توهم، و هكذا حال سائر الاخبار الواردة في هذا الباب، فراجع و تأمل (1).

______________________________

فاجابه عليه السّلام بأنه ان أجازه سيده يقع صحيحا و ان رده و فرق بينهما يقع فاسدا، ثم يعود زرارة فيقول للباقر عليه السلام بما مضمونه ان حكم بن عتيبة و ابراهيم النخعي و اصحابهما يقولون انه اذا تزوج العبد بغير اذن سيده يقع فاسدا و لا تحل اجازة السيد له، فلا تصححه اجازة السيد فالعقد من العبد الذي وقع منه بغير اذن من سيده فاسد فاصل هذا النكاح فاسد.

فيقول له الباقر عليه السّلام: ان عقد العبد بغير اذن من سيده لم يكن عصيانا للّه و انما كان عصيانا لسيده و لذلك فاذا اجازه السيد يقع صحيحا جائزا.

فتعليل الباقر عليه السّلام لوقوع هذا العقد صحيحا لو اجازه السيد بأنه ليس هذا العقد مما عصى فيه العبد اللّه و إنما عصى فيه سيده يدل على ان الذي يقع عصيانا للّه يقع فاسدا، و تفيد هذه الجملة كبرى كلية بأن كل ما يكون عصيانا للّه يقع فاسدا، و ان الملازمة بين ما فيه عصيان اللّه و فساده ثابته عند الشارع.

و لا يخفى ان المراد من المعصية هي فعل ما فيه العقاب: أي فعل المحرم بالحرمة الذاتية، و معنى هذا ان هناك ملازمة عند الشارع بين الحرمة الذاتية و الفساد، و قد أشار المصنف الى ما ذكرنا بقوله: ( (حيث دل بظاهره ان النكاح ... الى آخر الجملة)).

(1) هذا هو الجواب عن هذا التوهم، و توضيحه:

ص: 277

.....

______________________________

ان التوهم المذكور مبتن على ان المراد من المعصية هو الحرمة الذاتية فتكون الملازمة بحسب دلالة هذه الرواية بين الحرمة الذاتية و الفساد.

و أما اذا كان المراد من المعصية في الرواية هو عدم النفوذ فلا دلالة في الرواية على هذه الملازمة المتوهمة لان معنى الرواية يكون ان هذا النكاح لو كان غير نافذ عند اللّه لكان فاسدا، و الملازمة بين عدم النفوذ عند اللّه و بين الفساد من الأمور التي قياساتها معها، و معنى الرواية على هذا ان هذا النكاح الذي فعله العبد بغير اذن مولاه من الامور التي هي غير نافذة عند اللّه بما هو عقد من العقود التي جعل لها عند اللّه اقتضاء التأثير، و لذا لو تعقبه اجازة السيد كان مؤثرا بالفعل لانه مما جعل اللّه له اقتضاء التاثير، و لذا لو اجازه السيد فهو له جائز.

و المعصية و ان كان لو تجردت عن القرائن تكون ظاهرة في الحرمة، إلّا ان هناك قرائن على ان المراد منها عدم النفوذ دون الحرمة الذاتية.

و تمهيدا لذلك نقول انه لا بد و ان يكون المراد من العصيان المسند الى اللّه هو المراد من العصيان المسند الى السيد لوحدة السياق، فاذا دلت القرينة على ان المراد من العصيان المسند الى السيد هو عدم النفوذ فلا بد و ان يكون العصيان المسند الى اللّه كذلك.

و القرينة الاولى: على ان المراد من العصيان المسند الى السيد هو عدم النفوذ هو انه يوجد في بعض الكيفيات الناقلة لهذه الرواية كلمة (ثم اطلع السيد) فالسؤال فيها هكذا: مملوك تزوج بغير اذن سيده ثم اطلع السيد.

و ظاهره انه لم يكن للسيد نهي سابق لعبده عن التزويج بتقريب ان نهي السيد لعبده غالبا انما يكون حيث يكون السيد قد اطلع على ان العبد يريد التزوج، و اذا كان مطلعا سابقا لا يصح ان يقال ثم اطلع.

و الحاصل: ان ظاهر هذه الرواية المشتملة على قوله اطلع انه ليس للمولى نهي سابق للعبد و اذا لم يكن للمولى نهي سابق فلا يكون فعل العبد في تزوجه عصيانا بل

ص: 278

.....

______________________________

هو امر لم يصدر عن اذن المولى فاطلاق العصيان على فعل العبد حيث لا يكون للمولى نهي سابق انما يراد منه عدم النفوذ لا مخالفته لنهي المولى التحريمي و مثله لا بد و ان يراد من العصيان للّه فالمراد منه ايجاد ما كان غير نافذ عند اللّه لا ايجاد ما نهى اللّه عنه بالنهي التحريمي فلا دلالة للرواية على الملازمة الشرعية بين النهي التحريمي و الفساد لانه لا دلالة للرواية على النهي التحريمي.

و هذه القرينة لا تخلو عن نظر لاحتمال ان يكون المراد من الاطلاع هو اطلاع السيد على اصدار العقد، و مع اطلاع السيد على ارادة العبد للتزويج سابقا و نهيه عن ذلك يصح ان يقال ان السيد اطلع على ارادة العبد للتزويج و نهاه ثم اصدر العبد العقد، و بعده اطلع السيد اي اطلع على اصدار عقد العبد، و لو ادعى ان القرينة هو قوله بغير اذن سيده فانه مشعر بأنه ليس للسيد نهي سابق فانه لو كان له نهي سابق اما ان يعتبر هذا النهي ردا لهذا العقد فلا بد و ان يقع العقد فاسدا، و لا سبيل الى اجازته بعد رده على ما هو المشهور: من ان الاجازة بعد الرد لا تصحح العقد.

و اما ان لا يعتبر ردا و يكون للسيد الاجازة و يقع العقد باجازة السيد صحيحا، فهذا ادعى للسؤال لانه اذا كان مع نهي السيد السابق يقع صحيحا بالاجازة منه فوقوعه صحيحا بغير النهي و بصرف عدم الاذن اولى.

القرينة الثانية: انه لا اشكال ان لفظ الحلية كلفظ المعصية لو تحرر عن القرائن لكان ظاهرا في ارخاء العنان و الحلية التكليفية.

و من الواضح ان الحلية المذكورة في الرواية يراد منها النفوذ، فان قوله اصل النكاح فاسد و لا يحل اجازة السيد له ظاهر في ان المراد من الحلية هو انفاذ العقد و وقوعه صحيحا نافذا فالمراد من قوله لا يحل أي لا يكون نافذا فالمراد بالحلية هي الحلية الوضعية لا التكليفية و مثله المراد من العصيان فان المراد منه عدم النفوذ لا العصيان بمعنى المخالفة للحكم التكليفي، و على هذا فسوق الرواية سؤالا و جوابا ظاهر في انه أريد من هذه الألفاظ فيها هو الحكم الوضعي، لما عرفت من ان المراد

ص: 279

.....

______________________________

من الحلية فيها هو الحكم الوضعي و كذلك المراد من العصيان فيها هو الحكم الوضعي و هو عدم النفوذ.

و القرينة الثالثة: انه ورد لفظ العصيان في رواية مضمونها كمضمون هذه الرواية و فيها تصريح بأن هذا العصيان من العبد للسيد ليس بحرام، و لو كان المراد من العصيان هو الحرمة لما صح ان يقال ان هذا العصيان ليس بحرام.

و الرواية هذه (عن مملوك تزوج بغير اذن مولاه أ عاص للّه؟ قال عليه السّلام: عاص لمولاه، قلت: هو حرام؟ قال عليه السّلام: ما أزعم انه حرام).

فلو كان المراد من العصيان هي الحرمة لما قال الامام عليه السّلام ما أزعم انه حرام.

و أيضا لا معنى لان يسأل السائل عن الحرمة بعد قول الامام عليه السّلام انه عاص فيما كان الغرض من السؤال السؤال عن المعصية بمعنى الحرمة، فلا بد و ان يكون الغرض السؤال عن المعصية بمعنى عدم النفوذ دون الحرمة، و قد عرفت انه اذا كان المراد من المعصية عدم النفوذ فلا وجه لهذا التوهم من دعوى الملازمة بين الحرمة الذاتية و الفساد عند الشارع.

الرابع: ان احتمال كون المراد من المعصية في هذه الرواية هو عدم النفوذ ان لم يكن اظهر من احتمال كون المراد من المعصية هي الحرمة الذاتية بواسطة ما ذكرناها من القرائن، فلا أقل من ان يكون احتمالا مساويا فتكون الرواية مجملة من حيث دلالتها على التوهم المذكور لعدم تمامية ظهورها في كون المراد من المعصية فيها هي الحرمة.

و قد أشار المصنف الى ان المراد من المعصية في الرواية عدم النفوذ دون الحرمة بقوله: ( (الظاهر ان يكون المراد بالمعصية المنفية ... الى آخر الجملة)).

و قد أشار الى انه اذا كان المراد من المعصية عدم النفوذ تكون ملازمتها للفساد من الامور التي قياساتها معها بقوله: ( (و من المعلوم استتباع المعصية بهذا المعنى للفساد)).

ص: 280

تذنيب: حكي عن أبي حنيفة و الشيباني دلالة النهي على الصحة، و عن الفخر أنه و افقهما في ذلك (1)، و التحقيق انه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب، لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالامر،

______________________________

و قد اشار الى ان المعصية المستندة الى السيد اذا جاز ارادة عدم النفوذ فيها فالمعصية المستندة الى اللّه أيضا يجوز ارادة عدم النفوذ منها بقوله: ( (و لا بأس باطلاق المعصية على عمل لم يمضه اللّه و لم يأذن به كما أطلق عليه)) أي كما اطلق العصيان على عمل لم يمضه السيد و لم يأذن به كذلك يكون المراد من المعصية المنسوبة الى اللّه هو العمل الذي لم يمضه و لم يأذن به، و لذا قال: ( (كما أطلق عليه بمجرد عدم اذن السيد فيه انه معصية)).

و قد أشار الى ما ذكرنا من ان هذه القرائن ان لم توجب كون لفظ المعصية ظاهرة في عدم النفوذ فلا اقل من ان يكون احتمالا مساويا لارادة الحرمة منها بقوله:

( (و بالجملة لو لم يكن ظاهرا في ذلك لما كان ظاهرا فيما توهم)).

(1)

دلالة النهي على صحة متعلقه

الفخر هو فخر المحققين فانه المحكي عنه موافقة ابي حنيفة و الشيباني في كون النهي دالا على صحة ما يتعلق به و ترتب أثره عليه مطلقا سواء كان معاملة او عبادة بدعوى انه لا بد و ان يكون متعلق كل حكم من الاحكام مقدورا للمكلف فكما ان الامر لا يمكن ان يتعلق بغير المقدور كذلك النهي لا بد و ان لا يتعلق بغير المقدور.

و من الواضح: ان اتيان العبادة مثلا التي لا تترتب عليها الصحة و ان كان مقدورا إلّا انها ليست عبادة فالعبادة المتعلق بها النهي بما هي عبادة لا بد و ان تكون هي العبادة الصحيحة، و اذا كان النهي المتعلق بالعبادة يقتضي صحتها فاقتضاؤه للصحة في المعاملة بطريق اولى لأنه ليس في المعاملة قصد القربة حتى تتوهم المنافاة للنهي بدوا و ان كان بمقتضى هذا البرهان يستكشف انه لا منافاة في ذلك و إلّا كان النهي متعلقا بغير المقدور، و اشتراط القدرة في متعلق النهي مما لا ريب فيه كاشتراطها في متعلق الأمر.

ص: 281

و لا يكاد يقدر عليهما إلا فيما كانت المعاملة مؤثرة صحيحة، و أما إذا كان عن السبب، فلا، لكونه مقدورا و إن لم يكن صحيحا، نعم قد عرفت أن النهي عنه لا ينافيها (1).

______________________________

(1) و حاصل الجواب التفصيل فان النهي في المعاملة في الجملة يدل على الصحة لاشتراط المقدورية به، و أما في العبادة فلا دلالة له على الصحة و المقدورية المشترطة في متعلق التكليف موجودة.

و بيان ذلك: اما في المعاملة فلأن النهي ان تعلق بالمسبب كالملكية المترتبة على العقد فحيث لا بد و ان تكون الملكية المتعلق بها النهي مقدورة للمكلف، و إلّا فلو كانت الملكية المتعلق بها النهي مما لا يمكن تحققها بمجرد تعلق النهي بها للزم من تعلق النهي بها المشترط بالقدرة عدم تعلقه بها، اذ بمجرد تعلقه بها تكون غير ممكنة التحقق فهي غير مقدورة، و اذا انقلبت الى كونها مما لا تتعلق بها قدرة المكلف لا بد و ان لا يتعلق بها النهي فيلزم من تعلق النهي بها عدم تعلقه بها، فالنهي المتعلق بالمسبب يدل على صحته و معنى صحته ترتبه على العقد، فالنهي المتعلق بحرمة ملكية الكافر للعبد المسلم أو المصحف يدل على تحقق الملكية بانشاء عقد البيع المتضمن لتمليك الكافر، و مثله النهي المتعلق بالتسبب الى الملكية.

فان الفرق بين الملكية و التسبب اليها هو ان النهي تارة: يتعلق بنفس وجود الملكية و هو ان النهي المتعلق بذات المسبب وجوده.

و اخرى: يتعلق بالملكية بما هو متسبب اليها من المكلف أي يتعلق بايجاد الملكية.

و في الأول كان متعلقا بوجود الملكية لما عرفت ان الفرق بين المسبب بما هو مسبب و التسبب اليه هو الفرق بين الوجود و الايجاد.

و على كل فتعلق النهي بايجاد الملكية لا بد و ان يكون مقدورا للمكلف لاشتراط القدرة في متعلق النهي، و لو كان ايجادها بسبب تعلق النهي يكون غير مقدور للزم المحذور المذكور، و لذا قال (قدس سره): ( (و التحقيق انه في المعاملات كذلك)) فيما

ص: 282

و أما العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالسجود و الركوع و الخشوع و الخضوع له تبارك و تعالى، فمع النهي عنه يكون مقدورا، كما إذا كان مامورا به، و ما كان منها عبادة لاعتبار

______________________________

( (اذا كان)) النهي نهيا ( (عن المسبب او)) كان النهي نهيا عن ( (التسبيب)) اليها ( (لاعتبار القدرة ... الى آخر الجملة)) هذا في النهي المتعلق بالمسبب و بالتسبب اليه.

و اما النهي المتعلق بالسبب كالنهي عن بيع الحصاة او المنابذة و هو على نحوين:

لانه تارة يتعلق بالسبب بما هو سبب نافذ و مؤثر فالنهي فيه لا بد و ان يدل على صحته و وقوعه مؤثرا، و إلّا لم يكن متعلقا بالسبب بما هو مؤثر، و لو كان النهي موجبا لارتفاع تأثيره لكان متعلقا بغير المقدور.

و اخرى يكون النهي متعلقا بالسبب بما هو فعل من الافعال من دون تقيده بقيد كونه نافذا و مؤثرا، و مقدوريته موجودة في حال عدم تأثيره، فان إنشاء العقد بما هو انشاء مقدور حيث لا يكون مقيدا بكونه مؤثرا و نافذا فالنهي المتعلق به لا يدل على صحته و تأثيره لتحقق القدرة عليه التي هي شرط في النهي مع عدم صحته و تأثيره، و هذا النحو الثاني هو مراد المصنف من قوله: ( (و اما اذا كان عن السبب فلا)) أي ان النهي عن السبب بما هو فعل من الافعال لا بما هو سبب و نافذ لا يدل على صحته لتحقق المقدورية عليه مع عدم صحته و تأثيره، و قد اشار الى ذلك بقوله: ( (لكونه مقدورا و ان لم يكن صحيحا)).

قوله (قدس سره): ( (نعم قد عرفت ان النهي عنه)) توضيحه: ان دعوى ابي حنيفة في قبال دعوى دلالة النهي على الفساد، و قد عرفت مما مر ان النهي عن السبب بما هو فعل من الافعال لا يستلزم فساده و لا ينافي صحته و ترتب أثره، كما انه لا يدل على صحته و لزوم ترتب أثره عليه، فالنهي عنه لا يدل على صحته و لا ينافي صحته، و لذا قال: ( (ان النهي عنه)) أي النهي عن السبب لا بما هو سبب نافذ، بل بما هو فعل من الافعال ( (لا ينافيها)) أي لا ينافي صحته و ترتب أثره عليه.

ص: 283

قصد القربة فيه لو كان مامورا به، فلا يكاد يقدر عليه إلا إذا قيل باجتماع الامر و النهي في شي ء و لو بعنوان واحد، و هو محال، و قد عرفت أن النهي في هذا القسم إنما يكون نهيا عن العبادة، بمعنى أنه لو كان مأمورا به، كان الامر به أمر عبادة لا يسقط إلا بقصد القربة (1)،

______________________________

(1)

اقتضاء النهي لصحة متعلقه العبادي

و حاصل الجواب ان العبادة على ثلاثة أقسام: عبادة ذاتية، و عبادة غير ذاتية.

و العبادة غير الذاتية تارة تكون بمعنى ما لو تعلق بها الأمر لكان أمرها عباديا لا يسقط إلّا بقصد امتثال الامر المتعلق بها.

و اخرى تكون هي العبادة بما هي متعلقة للأمر و هي العبادة بالفعل.

و لا يخفى: ان هذا القسم الاخير لا يعقل ان يكون متعلقا للنهي لعدم امكان ان ينهى المولى عن شي ء واحد بعنوانه الخاص به بما انه متعلق لأمره، لمحالية ان ينهى المولى عن ايجاد ما طلب ايجاده و هو من اجتماع الضدين بنحو واضح، فلا بد و ان يكون خارجا عن عنوان هذه المسألة من رأس، فلا يتعلق به نهى حتى يدعى انه يستلزم تعلق النهي به صحته و وقوعه قريبا لاشتراط القدرة في متعلق النهي.

و أما النحو الأول و هو العبادة الذاتية فالقدرة عليها موجودة و ان تعلق بها النهي، لان عباديتها منوطة بقصد عنوانها كتعظيم المولى و تقديسه فلا يستلزم النهي فيها وقوعها صحيحة لاشتراط القدرة و استلزامها ذلك لأنها مقدور عليها بما هي عبادة، و ان كانت منهيا عنها و مبغوضة فلا يكون النهي فيها دالا على الصحة، و الى هذا أشار بقوله: ( (فما كان منها عبادة ذاتية ... الى آخر الجملة)).

و أما القسم الثاني و هو العبادة التعليقية فالقدرة عليها موجودة و ان كانت غير صحيحة لوضوح ان متعلق النهي ليس العبادة بما هي عبادة بالفعل، بل بما هي عبادة تعليقا و هي بما هي كذلك مقدورة للمكلف فلا تستلزم القدرة عليها صحتها، بل قد عرفت ان النهي عنها و عن القسم الأول يقتضي فسادها لمنافاة المبغوضية لكونها مقربة بالفعل، و وقوعها صحيحة لا بد فيه من وقوعها مقربة بالفعل.

ص: 284

فافهم (1).

______________________________

و قد أشار الى القسم الثاني و هو العبادة التعليقية بقوله: ( (ان النهي في هذا القسم انما يكون نهيا عن العبادة بمعنى انه لو كان مأمورا به ... الى آخر الجملة)).

ثم لا يخفى انه أشار الى ما ذكرنا في القسم الثالث بقوله: ( (فلا يكاد يقدر عليه إلّا اذا قيل ... الى آخر الجملة)).

هذا كله في النهي التحريمي المتعلق بالمعاملة و العبادة.

و اما النهي الارشادي فلا مانع من تعلقه بغير المقدور بقصد الارشاد الى عدم المقدورية فلا يستلزم الصحة.

و اما النهي التشريعي فلوضوح القدرة على اثبات ذات المعاملة و ذات ما هو عبادة بقصد التشريع فلا ملازمة للنهي فيه للصحة.

(1) يحتمل ان يكون اشارة الى ان تعلق النهي بالسبب بما هو فعل من الافعال ليس تعلقا للنهي بالسبب بما هو سبب، و المفروض ان يكون متعلق النهي المعاملة بما هي معاملة.

و يحتمل ان يكون اشارة الى ما ذكرنا من كون العبادة بما هي متعلقة للأمر خارجة عن موضوع هذه المسألة.

ص: 285

.....

______________________________

ص: 286

.....

______________________________

المقصد الثالث في المفاهيم

ص: 287

المقصد الثالث في المفاهيم مقدمة و هي: إن المفهوم- كما يظهر من موارد إطلاقه- هو عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية المعنى الذي أريد من اللفظ، بتلك الخصوصية و لو بقرينة الحكمة، و كان يلزمه لذلك، وافقه في الايجاب و السلب أو خالفه، فمفهوم إن جاءك زيد فاكرمه مثلا- لو قيل به- قضية شرطية سالبة بشرطها و جزائها، لازمة للقضية الشرطية التي تكون معنى القضية اللفظية، و تكون لها خصوصية، بتلك الخصوصية كانت مستلزمة لها (1)، فصح أن يقال: إن المفهوم إنما هو

______________________________

(1)

المقصد الثالث في المفاهيم

تعريف المفهوم

لا يخفى ان هذه المقدمة تشتمل على بيان أمور:

الأول: بيان ما هو المفهوم و السبب في حصوله على القول به فقال: ( (ان المفهوم كما يظهر من موارد اطلاقه ... الى آخر الجملة)).

و حاصله: ان المفهوم هو حكم يكون انشائيا تارة كالمفهوم الحاصل من قولك:

ان جاءك زيد فاكرمه، فان المفهوم الحاصل المستتبع لهذه القضية المنطوقية هو ان لم يجئ زيد لا تكرمه، و هذه القضية قضية انشائية.

و اخرى يكون المفهوم المستتبع للمنطوق قضية خبرية كقولك: ان ضربت زيدا ضربته، فان المفهوم المستتبع للقضية المنطوقية هو ان لم تضرب زيدا لا اضربه، فالمتكلم قد أخبر عن نفسه بانه لا يضرب زيدا ان لم يضربه المخاطب، بخلاف القضية الاولى فان المفهوم قد تضمن انشاء عدم اكرام زيد عند عدم مجيئه، و حيث ان القضية المفهومية مستفادة من القضية المنطوقية فلا بد و ان تكون في القضية المنطوق بها خصوصية، تلك الخصوصية استتبعت القضية المفهومية، و تلك الخصوصية هي كون الحيثية المرتبط بها الحكم في القضية المنطوقة علة تامة منحصرة لذلك الحكم الموجود في القضية اللفظية المنطوق بها سواء كانت هذه الحيثية مستفادة من اللفظ كما

ص: 288

حكم غير مذكور، لا أنه حكم لغير مذكور، كما فسر به، و قد وقع فيه النقض و الابرام بين الاعلام، مع أنه لا موقع له كما أشرنا إليه في غير مقام، لانه من قبيل شرح الاسم، كما في التفسير اللغوي.

______________________________

قيل في أداة الشرط- مثلا- انها تدل على العلية المنحصرة او كانت مستفادة من غير أداة الشرط كما ادعى بعضهم بان الأداة لا تدل على ذلك و انما الخصوصية تستفاد من الاطلاق و مقدمات الحكمة.

و على كل، فالمفهوم هو حكم انشائي او اخباري قد استلزمته حيثية في القضية اللفظية المنطوق بها سواء كانت تلك الحيثية و الخصوصية مستفادة من لفظ خاص او من الاطلاق و قرينة الحكم، و لذا قال (قدس سره): ( (هو عبارة عن حكم انشائي او اخباري تستتبعه خصوصية المعنى الذي اريد ... الى آخر الجملة)).

لا يخفى ان المفهوم تارة يكون قضية مخالفة للقضية اللفظية بالسلب و الايجاب كالمفهوم المستفاد من قولنا ان جاءك زيد فاكرمه التي هي قضية لفظية موجبة، فان المفهوم المستفاد منه ان لم يجي ء زيد لا تكرمه و هي قضية سالبة، فالمفهوم قضية سالبة و المنطوق قضية موجبة فهما قضيتان متخالفتان من ناحية السلب و الايجاب، و يسمى هذا المفهوم بمفهوم المخالفة.

و اخرى: يكون المفهوم المستفاد من المنطوق قضية موافقة للمنطوق سلبا و ايجابا كقوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ فان المفهوم المستفاد هو لا تضربهما مثلا و هو قضية موافقة للقضية اللفظية المنطوق بها، فان المنطوق قضية سالبة، المفهوم أيضا قضية سالبة و كقولك: اكرم عدوك، فان المفهوم المستفاد منها أكرم صديقك و هو قضية موجبة كالقضية اللفظية، و قد أشار الى هذا بقوله: ( (و كان يلزمه لذلك وافقه في الايجاب و السلب او خالفه)).

و قوله (قدس سره): ( (فمفهوم ان جاءك زيد فاكرمه ... الى آخر)) الجملة توضيح لما اجمله اولا و قد عرفت مضمونه مما ذكرنا.

ص: 289

و منه قد انقدح حال غير هذا التفسير مما ذكر في المقام، فلا يهمنا التصدي لذلك، كما لا يهمنا بيان (1) أنه من صفات المدلول أو الدلالة

______________________________

(1) هذا هو الامر الثاني الذي اشتملت عليه المقدمة و هو التعرض لتعريف القوم للمفهوم، فقد عرفوه بأنه حكم لغير مذكور، و لم يصح هذا التعريف عند المصنف و ذلك بعد ما عرفت ان حقيقة المفهوم هو الحكم المستتبع لخصوصية في المنطوق فباعتبار انه لازم فلا بد و ان يكون غير الحكم المعلول للحيثية المنطوقية، و باعتبار انه لو كان مذكورا في القضية اللفظية لكان من المنطوق، فالمفهوم لا بد و ان لا يكون مذكورا فوصف غير المذكورية أولى ان يكون للحكم لا للموضوع هذا أولا، و ثانيا:

ان الظاهر ان الموضوع في القضيتين هو زيد في قولك: ان جاءك زيد فاكرمه و في ان لم يجئ زيد لا تكرمه و ليس الموضوع في القضية المنطوقية هو المجي ء و الموضوع في القضية المفهومية هو عدم المجي ء، فعلى هذا يكون تعريف المفهوم بأنه حكم لغير مذكور ينحصر بمثل (في السائمة زكاة) فان المفهوم و هو ليس في المعلوفة زكاة لاختلاف الموضوع في القضيتين فان الموضوع في المنطوق السائمة و في المفهوم المعلوفة.

نعم، لو كان الموضوع هو الحيثية التي هي بمنزلة العلة للحكم في المنطوق و هو المجي ء لكان التعريف شاملا لجميع اقسام المفهوم فظهر ان الأصح تعريف المفهوم بأنه حكم غير مذكور سواء كان الموضوع مذكورا كزيد في القضيتين او لم يكن مذكورا كما (في السائمة زكاة).

قوله (قدس سره): ( (مع انه لا موقع له)) قد مر هذا من المصنف مرارا في ان التعاريف كلها تعاريف لفظية لشرح الاسم و ليست بالحد و لا بالرسم و قد مر توضيح ذلك و سيأتي في العموم و الخصوص التعرض له أيضا.

ص: 290

و إن كان بصفات المدلول أشبه، و توصيف الدلالة به أحيانا كان من باب التوصيف بحال المتعلق (1).

و قد انقدح من ذلك أن النزاع في ثبوت المفهوم و عدمه في الحقيقة، إنما يكون في أن القضية الشرطية أو الوصفية أو غيرهما هل تدل بالوضع أو بالقرينة العامة على تلك الخصوصية المستتبعة لتلك القضية الاخرى، أم لا (2)؟

______________________________

(1) هذا هو الأمر الثالث: و هو انه هل المفهومية من صفات المدلول او الدلالة، و حيث انه لا يترتب على هذا ثمرة، لذلك قال: ( (انه لا يهمنا التصدي لذلك)) و ان كان قد اختار انه من صفات المدلول، فقال: ( (و ان كان لصفات المدلول اشبه)).

و توضيحه: أن المنطوقية و المفهومية هل هي من صفات الدلالة بالمعنى الفاعلي أي من صفات الدال بما هو دال، او هي من صفات المدلول، فان المراد من المنطوق و المفهوم ان كان هو كون الدال على المعنى هو اللفظ المنطوق به فالدلالة منطوقية و كون الدال على المعنى المفهومي هو المعنى ذا الخصوصية فبهذا الاعتبار هي من اوصاف الدلالة، و ان كان المراد من المنطوقية هو كون المعنى قد دل عليه اللفظ فهو معنى منطوقي، و ان كان قد دل عليه المعنى فهو مفهومي، و حيث ان المنطوقية و المفهومية من صفات المعنى فيقال هذا المعنى منطوقي و هذا المعنى مفهومي فهي من صفات المدلول، و لذا قال (قدس سره): ( (و ان كانت بصفات المدلول اشبه)) و قد توصف الدلالة به فيقال: دلالة منطوقية و دلالة مفهومية إلّا ان وصفها بذلك باعتبار انها تدل على معنى منطوقية و على معنى مفهومية فوصفها بذلك وصف لها بحال المتعلق لا بحال نفسها. و الى هذا اشار بقوله: ( (و توصيف الدلالة به احيانا كان من باب التوصيف بحال المتعلق)).

(2) هذا هو الامر الرابع الذي اشتملت عليه هذه المقدمة، و حاصله: ان النزاع في المفهوم هل هو صغروي او كبروي، و بعد ما عرفت من ان المفهوم انما يستلزمه

ص: 291

فصل الجملة الشرطية هل تدل على الانتفاء عند الانتفاء، كما تدل على الثبوت عند الثبوت بلا كلام، أم لا؟ فيه خلاف بين الاعلام.

لا شبهة في استعمالها و إرادة الانتفاء عند الانتفاء في غير مقام، إنما الاشكال و الخلاف في أنه بالوضع أو بقرينة عامة، بحيث لا بد من الحمل عليه لو لم يقم على خلافه قرينة من حال أو مقال، فلا بد للقائل بالدلالة من إقامة الدليل على الدلالة، بأحد الوجهين على تلك الخصوصية المستتبعة لترتب الجزاء على الشرط، نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة.

______________________________

المنطوق لاجل الخصوصية التي هي العلية المنحصرة يتضح ان النزاع في ثبوت المفهوم و عدمه لا بد و ان يكون صغرويا لعدم معقولية النزاع في أنّ العلية المنحصرة لا تدل على ذلك فان المجي ء اذا كان علة منحصرة للإكرام فلا بد من انتفاء الاكرام عند انتفاء المجي ء، فالمنكر للمفهوم لا بد و ان ينكر الدلالة على العليّة المنحصرة، و معنى هذا كون النزاع صغرويا و هو: ان القضية هل تدل على العلمية المنحصرة ام لا، و لذا

فصل مفهوم الشرط

اشارة

قال (قدس سره): ( (ان النزاع في ثبوت المفهوم و عدمه في الحقيقة انما يكون في ان القضية الشرطية)) كان جاءك زيد فاكرمه ( (أو الوصفية)) كقوله عليه السّلام: (في السائمة زكاة) ( (او غيرهما)) كمفهوم الغاية ( (هل تدل بالوضع أو بالقرينة العامة على تلك الخصوصية المستتبعة لتلك القضية الاخرى)) أي القضية المفهومية ( (ام لا)) فاذا قلنا بالدلالة على تلك الخصوصية التي هي العلية المنحصرة قلنا بالمفهوم و اذا قلنا بعدم دلالة القضية اللفظية على العلية المنحصرة لا تقول بالمفهوم.

و قد تبين مما ذكرنا وجه كون هذا منقدحا مما مر، فانه بعد بيان كون حقيقة المفهوم هو الخصوصية المستتبعة يتضح انه لا بد و ان يكون النزاع في المفهوم صغرويا في ان العلية المنحصرة مدلولة للفظ ام لا.

ص: 292

و أما القائل بعدم الدلالة ففي فسحة، فإن له منع دلالتها على اللزوم، بل على مجرد الثبوت عند الثبوت و لو من باب الاتفاق، أو منع دلالتها على الترتب، أو على نحو الترتب على العلة، أو العلة المنحصرة بعد تسليم اللزوم أو العلية (1).

______________________________

(1)

الامور الدخيلة في تحقق المفهوم

الشرط عند اللغويين هو مطلق العهد و الالتزام فيشمل الشروط الابتدائية، و قيل:

هو الالتزام في ضمن الالتزام فلا يشمل الشروط الابتدائية.

و عند أهل المعقول ما له دخل في تأثير المقتضي في المقتضى اما لانه متمم لفاعلية الفاعل كالمقاربة و اما لانّه متمم لقابلية القابل كاليبوسة للجسم لأن يقبل الاحتراق.

و قد عرفه المتكلمون بما يلزم من عدمه العدم و لا يلزم من وجوده الوجود، و هذا التعريف غير تام لصدقه على المقتضى المجرد عن شرط التأثير، و جرى على هذا التعريف الاصوليون.

و عند النحويين هو مدخول ان الشرطية و اخواتها كأما و مهما كالمجي ء في قولك ان جاءك زيد فاكرمه.

و حيث ان الخلاف في دلالة الشرط و عدم دلالته و قد قال جل من قال بالمفهوم بكون اللفظ هو الدال على ذلك فيخرج الشرط بمعانيه الثلاثة عن ان يكون هو المراد في المقام لوضوح عدم دلالته اللفظية على الانتفاء عند الانتفاء فلا بد و ان يكون الشرط الذي اختلف في دلالته على ذلك- مع تسالم الجميع على دلالته على الثبوت عند الثبوت- هو غير هذه المعاني و هو اما ان يكون ان و اخواتها أو هيئة الجملة الشرطية، قيل: انه ان و اخواتها لأنه لا وضع للجمل غير وضع مفرداتها، و مدخول ان لا دلالة له غير ما تدل عليه هيئته او مادته و ليس لها مع غض النظر عن لفظ ان دلالة على ذلك.

و لكن المصنف حيث يرى ان الدال على الثبوت عند الثبوت هو هيئة الجملة الشرطية جعلها هي محل الخلاف.

ص: 293

.....

______________________________

و على كل فلا اشكال في إن- ان- او الجملة الشرطية تدل على ثبوت الجزاء عند ثبوت مدخولها، و لكن هل لها دلالة على انتفاء الجزاء عند انتفائه ام لا؟ فمن قال بالمفهوم قال بهذه الدلالة، و من انكر المفهوم قال انه لا تدل على غير الثبوت عند الثبوت، و اما بالنسبة الى الانتفاء عند الانتفاء فلا دلالة لها عليه.

و لا يخفى انه لو تمت الدلالة على المفهوم لكانت الدلالة التزامية لوضوح انه لو دلت هيئة الجملة او ان على نفس الانتفاء عند الانتفاء لكانت الدلالة منطوقية لا مفهومية، فكون الدلالة مفهومية لا بد ان يكون لكون ان او هيئة الجملة تدل على خصوصية في المنطوق لازمها البين بالمعنى الاخص هو المفهوم و هو معنى كون الدلالة التزامية، هذا فيما اذا كان القائل بالمفهوم يقول بدلالة اللفظ عليه وضعا.

و أما اذا كان القائل بالمفهوم يستند الى دلالة الاطلاق فانه و ان كانت الدلالة الاطلاقية من الدلالات العقلية ببركة مقدمات الحكمة إلّا انه لا بد و ان يكون الاطلاق دالا على تلك الخصوصية في المنطوق المستلزمة لزوما بيّنا بالمعنى الاخص للانتفاء عند الانتفاء لوضوح انه لا بد و ان يثبت بواسطة الاطلاق ان مدخول ان و هو مجي ء زيد مثلا علة منحصرة لاكرامه، و اذا كان علة منحصرة له فلا بد و ان ينتفى عند انتفائه.

و الحاصل: ان القائل بالمفهوم لا بد له من ان يثبت ان المقدم في الجملة الشرطية كمجي ء زيد مثلا في مفهوم الشرط علة منحصرة للجزاء و هو اكرامه فقول القائل ان جاءك زيد فاكرمه يدل على ان العلة المنحصرة لا كرام زيد هو مجيئه، و ما لم يثبت القائل بالمفهوم ذلك لا سبيل له للقول بالمفهوم فلا بد له من اثبات الدلالة على أمور:

من لزوم الجزاء لمدخول الشرط و كون هذا اللزوم بنحو الترتب أي بأن يكون الجزاء مترتبا تحققه على تحقق ما هو الشرط له و ان يكون هذا الترتب ترتبا عليّا أي من باب ترتب المعلول على علته فالجزاء هو المعلول و المدخول هو العلة و ان تكون العلية بنحو الانحصار و هذه الامور كلها لازمة للعلية المنحصرة فان اللزوم ضروري في العلية

ص: 294

لكن منع دلالتها على اللزوم، و دعوى كونها اتفاقية، في غاية السقوط، لانسباق اللزوم منها قطعا، و أما المنع عن أنه بنحو الترتب

______________________________

و كذلك الترتب، و حيث لا يكفى هذا في ثبوت المفهوم لا بد و ان تكون العلية منحصرة.

و اما القائل بعدم المفهوم فله ان يمنع الدلالة على اللزوم بأن يكون الثبوت عند الثبوت لمجرد الاتفاق كدلالة قولنا ان كان الانسان ناطقا كان الحمار ناهقا. و له ان يسلم اللزوم و يمنع الدلالة على الترتب بأن يكونا كالمتضايفين فانهما متلازمان و لكن لا ترتب بينهما او كالمعلولين لعلة ثالثة فانهما أيضا متلازمان و لكن لا علية بينهما.

لا يقال: ان المعلولين لعلة ثالثة بينهما من اللزوم ما يكفى للمفهوم و هو الانتفاء عند الانتفاء و كذلك المتضائفان.

فانه يقال: ان القائل بالمفهوم انما قال به لاستفادته من ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط ترتب الجزاء على الشرط ترتبا عليّا بنحو الانحصار، فانه لو رفع اليد عن الدلالة على الترتب للزم رفع يده عن اللازم فلا يثبت المفهوم حينئذ. و له أيضا ان يسلم الترتب و لكن لا يقول بان هذا الترتب من الترتب العلي بل الترتب كما يكون في العلة و المعلول ربما يكون لترتب احدهما على الآخر بسبب الزمان، فان عمرا مثلا لو كان مجيئه من بعد زمان مجي ء زيد بلا فصل صح الترتب بين المجيئين و لا لزوم بينهما و لا علية فضلا عن ان تكون العلية بنحو الانحصار. و له ايضا ان يسلم الترتب العلي و لكنه يمنع كون العلية بنحو الانحصار، فان غير العلية المنحصرة لا تستلزم الانتفاء عند الانتفاء لوضوح انه لو كان للشي ء علل مستقلة فانه يلزم من ثبوت احد علله ثبوته و لكن لا يلزم من انتفاء احد علله انتفاؤه، لجواز ان يثبت لثبوت علته الاخرى.

قوله (قدس سره): ( (باحد الوجهين ... الخ))، أي الوضع او القرينة العامة التي هي الاطلاق.

ص: 295

على العلة فضلا عن كونها منحصرة، فله مجال واسع (1) و دعوى تبادر اللزوم و الترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة- مع كثرة استعمالها في الترتب على نحو الترتب على غير المنحصرة منها بل في مطلق اللزوم- بعيدة، عهدتها على مدعيها (2)، كيف؟ و لا يرى في استعمالها فيها

______________________________

(1)

اثبات انحصار العلة بوجوه

لا يخفى ان اللزوم هو القدر الجامع بين المتلازمين سواء كان تلازمهما لانهما متضائفان او لانها معلولان لعلة واحدة و في هذين لا ترتب بين الشرط و الجزاء او مطلق العلية او العلية المنحصرة و في الآخرين لا مناص عن الترتب.

و الظاهر ان المصنف يرى ان الجملة الشرطية تدل على اللزوم فقط بين الجزاء و الشرط لانصرافها اليه و ليس مراده من هذا الانسباق هو التبادر للزوم وضعها لذلك، و مع وضعها للزوم لا بد و ان يكون استعمالها في الاتفاقيات مجازا بلحاظ العلاقة و لا نرى في استعمالها في الاتفاقيات ملاحظة عناية او علاقة.

و لعل السبب في الانصراف الى اللزوم فيها هو كثرة استعمالها في اصل اللزوم.

و على كل فدلالتها على اللزوم لا يقتضي دلالتها على الترتب العلي الاعم من المنحصرة و غيرها فضلا عن دلالتها على العلية المنحصرة التي لا يتحقق المفهوم من دونها و للمنع عن دلالتها على الترتب العلي مجال واضح.

(2) قد عرفت ان القول بالمفهوم لا بد فيه من كون اللزوم بين الجزاء و الشرط لزوما عليا انحصاريا، فمدعى المفهوم في القضية الشرطية لا بد له من ان يكون المتبادر منها هو اللزوم العلي الانحصاري لان دلالتها على المفهوم ينحصر في دلالتها على اللزوم العلي الانحصاري.

و لا يخفى ان لازم دعوى التبادر الى ذلك هو وضع القضية الشرطية له فيكون استعمالها في غير اللزوم العلي الانحصاري استعمالا في غير الموضوع له، و عليه فاستعمالها في غير ذلك المجاز كاستعمالها في الترتب العلي بغير الانحصار كقوله

ص: 296

عناية، و رعاية علاقة، بل إنما تكون إرادته كإرادة الترتب على العلة المنحصرة بلا عناية، كما يظهر على من أمعن النظر و أجال البصر في موارد الاستعمالات، و في عدم الالزام و الاخذ بالمفهوم في مقام المخاصمات و الاحتجاجات (1)، و صحة الجواب بأنه لم يكن لكلامه

______________________________

عليه السّلام: (ان بلت فتوضأ و ان نمت فتوضأ) و في مطلق اللزوم كقولنا: ان كان هذا ناطقا كان حيوانا مع انه لا علية بين الجنس و الفصل.

و لا يخفى ان استعمالها في العلية غير المنحصرة و في مطلق اللزوم كثير جدا فان كان التسبب في دعوى التبادر الى العلية المنحصرة هو الوضع فنقول لا داعي عقلائي للواضع ان يضعها لخصوص العلية المنحصرة مع كثرة احتياجه الى الاستعمال في غيرها فيتكلف مئونة ملاحظة العلاقة. و ان كان السبب في دعوى التبادر كثرة الاستعمال بحيث يحصل منه الوضع فهي ممنوعة جدا، لأن استعمالها في غير العلة المنحصرة أكثر فهذه الدعوى بعيدة عهدتها على مدعيها.

(1) قد أشار المصنف الى ايرادين على دعوى تبادر العلية المنحصرة من القضية الشرطية. الأول: ان لازم التبادر المذكور و هو وضع الجملة الشرطية لخصوص العلة المنحصرة كون استعمالها في العلة غير منحصرة و في مطلق اللزوم مجاز و لا ريب في ان الاستعمال المجازي يحتاج الى عناية لاجل لحاظ العلاقة و المناسبة للمعنى الحقيقي و لو كان الحال كما زعمه مدعى التبادر لوجدنا في انفسنا في مقام استعمالنا للجملة الشرطية في العلة غير المنحصرة و في مطلق اللزوم عناية و لحاظ علاقة، و من الواضح انا لا نرى شيئا من ذلك في مقام استعمالنا في غير العلة المنحصرة و لو كان استعمالنا مجازيا لكان من الضروري تحقق العناية و لحاظ العلاقة و الى هذا اشار بقوله:

( (كيف؟ و لا يرى في استعمالها فيها)) أي في العلية غير المنحصرة و في مطلق اللزوم- ( (عناية و رعاية علاقة ... الى آخر الجملة)).

ص: 297

مفهوم، و عدم صحته لو كان له ظهور فيه معلوم (1).

و أما دعوى الدلالة، بادعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزومية إلى ما هو أكمل افرادها، و هو اللزوم بين العلة المنحصرة و معلولها، ففاسدة جدا، لعدم كون الاكملية موجبة للانصراف إلى الاكمل، لا سيما مع كثرة الاستعمال في غيره، كما لا يكاد يخفى. هذا مضافا إلى منع كون اللزوم بينهما أكمل مما إذا لم تكن العلة بمنحصرة، فإن الانحصار لا يوجب أن يكون ذاك الربط الخاص الذي لا بد منه في تأثير العلة في معلولها آكد و أقوى (2).

______________________________

(1) هذا هو الايراد الثاني، و حاصله: انه لو كانت الجملة الشرطية موضوعة لخصوص الترتب العلي بنحو الانحصار الذي لازمه ثبوت المفهوم و دلالة الجملة الشرطية عليه فيكون قول المولى لعبده ان جاءك زيد أكرمه دالا على الجملة المفهومية و هي ان لم يجئ زيد لا تكرمه. و هذه القضية المفهومية لو ثبتت لدلت على المنع عن اكرام زيد فيما اذا لم يجئ، فلو اكرمه العبد في حال عدم مجيئه لكان مخالفا و عاصيا، و من الواضح انه يصح ان يجيب العبد مولاه بأن كلامه لا دلالة له على النهي عن اكرام زيد في حال عدم مجيئه و انه لا يدل على غير وجوب اكرامه عند مجيئه اما على حرمة اكرامه عند عدم مجيئه فكلامه لا دلالة له على ذلك، و صحة احتجاج العبد دليل على عدم تبادر العلية المنحصرة من الجملة الشرطية، و إلّا لما صح احتجاج العبد. و الى هذا اشار بقوله: ( (و صحة الجواب بانه لم يكن لكلامه مفهوم و عدم صحته)) أي عدم صحة الجواب بأنه لم يكن له مفهوم ( (لو كان له)) أي لو كان لكلامه ( (ظهور فيه معلوم)) أي انه يكون عدم صحة الجواب معلوما لو كان لكلام المولى ظهور وضعي في العلية المنحصرة المستلزمة للمفهوم.

(2) حاصله: انه لو ادعى ان الجملة الشرطية لم توضع للعلة المنحصرة فيسلم هذا المدعى عدم التبادر، و لكنه يقول انه لا اشكال ان العلة المنحصرة اكمل افراد اللزوم

ص: 298

.....

______________________________

و العلية و قد عرفت تسليم اللزوم في القضية الشرطية، فنقول: ان دلالتها على العلة المنحصرة انما هو للانصراف لا لوضعها لها بالخصوص، و السبب في انصرافها الى العلة المنحصرة هو كونها اكمل افراد اللزوم و العلية، و الى هذا اشار بقوله: ( (و اما دعوى الدلالة بادعاء انصراف اطلاق العلاقة اللزومية)) المسلمة بين الشرط و الجزاء ( (الى ما هو اكمل افرادها و هو اللزوم بين العلة المنحصرة و معلولها)).

قوله (قدس سره): ( (ففاسدة جدا لعدم ...)) هذا هو الخبر لقوله: ( (و اما دعوى))، و توضيح فساد هذه الدعوى انها مشتملة على كبرى و هي كون الاكملية موجبة للانصراف و صغرى و هي ان العلاقة اللزومية في العلة المنحصرة اكمل افراد العلل، و لكنها ممنوعة كبرى و صغرى.

اما الكبرى فلان الاكملية لا توجب الانصراف، لان الانصراف انما يحصل للاستيناس الذهني الحاصل بسبب كثرة الاستعمال. و قد عرفت مما مر ان الاستعمال في العلة المطلقة بل في اللزوم المطلق كثير جدا و لعله اكثر من الاستعمال في العلة المنحصرة، و مع هذا كيف يحصل الانصراف؟ فالاكملية أجنبية عما هو السبب للانصراف، و كثرة الاستعمال انما هي في غير جانب العلة المنحصرة فلا وجه لدعوى كون الاكملية موجبة للانصراف لعدم اقتضائها في نفسها لذلك و لعدم كثرة الاستعمال فيها، و قد اشار المصنف الى منع كون الاكملية من مقتضيات الانصراف بقوله: ( (لعدم كون الاكملية موجبة للانصراف الى الاكمل)) و اشار الى ان الموجب له كثرة الاستعمال و هو ليس في العلية المنحصرة بقوله: ( (مع كثرة الاستعمال في غيره)) أي في غير الفرد الاكمل.

و اما الصغرى فهي ممنوعة أيضا لوضوح ان الانحصار بالعلة لا يوجب كون العلة أكمل أفراد العلل في التأثير و العلية، لان الشي ء ما لم يجب لم يوجد، و كما يجب وجوده مع علته المنحصرة كذلك يجب وجوده مع علته غير المنحصرة، و كون هذا العلة لا يوجد غيرها علة لهذا المعلول أجنبي عن الكمال في مقام تأثيرها في معلولها،

ص: 299

إن قلت: نعم، و لكنه قضية الاطلاق بمقدمات الحكمة، كما ان قضية إطلاق صيغة الامر هو الوجوب النفسي (1).

______________________________

و لازم قول هذا لمدعى كون العلة المنحصرة أكمل من غيرها كون تأثيرها في مقام العلية آكد و أقوى، و قد عرفت ان الانحصار اجنبي عن القوة و التأكيد في مقام التأثير.

و الى هذا اشار بقوله: ( (مضافا الى منع كون اللزوم بينهما أكمل ... الى آخر الجملة)).

(1) لما ذكر فساد دعوى الدلالة على العلية المنحصرة المستلزمة للمفهوم تبادرا أو انصرافا تعرض لفساد دعوى التمسك بالاطلاق لا ثبات العلية المنحصرة، و قد ذكر للإطلاق وجوها ثلاثة:

الأول: ما اشار اليه بقوله: ( (ان قلت))، و حاصله: التمسك باطلاق الدال على اللزوم في القضية الشرطية و هو اما ان او هيئة الجملة الشرطية، و توضيحه: ان مقدمات الحكمة الثلاث و هو كون المولى في مقام البيان و انتفاء القدر المتيقن و القرينة الخاصة ينضم اليها مقدمة رابعة و هي ان الترتب المستفاد من ترتب الجزاء على الشرط الذي دل عليه ان او هيئة الجملة بعد ان كان المولى بصدد بيانه لا بد و ان يكون هو الترتب الانحصاري دون غيره، لان ترتب المعلول على علته المنحصرة ترتب عليها لا غير، و ترتبها على العلة و على غيرها ترتب عليها مع غيرها، فقيد العلة المنحصرة قيد عدمي، و قيد العلة غير المنحصرة قيد وجودي، و حيث ان المولى كان في مقام البيان للعلية و القيد الوجودي يحتاج الى بيان زائد و لم يبينه، فلا بد و ان يكون المراد غيره و هو العلة المنحصرة، و مثل هذا الاطلاق في المقام الاطلاق المذكور لتعيين الوجوب النفسي دون الوجوب الغيري، فان القيد في الوجوب الغيري وجودي، و في الوجوب النفسي عدمي، لان الوجوب الغيري هو الوجوب المترشح من وجوب آخر، بخلاف الوجوب النفسي فانه الوجوب غير المترشح من وجوب آخر فلذا كان الاطلاق معينا للوجوب النفسي دون الغيري، و الى هذا اشار بقوله:

( (كما ان قضية اطلاق صيغة الامر هو الوجوب النفسي)).

ص: 300

قلت: أولا: هذا فيما تمت هناك مقدمات الحكمة، و لا تكاد تتم فيما هو مفاد الحرف كما هاهنا، و إلا لما كان معنى حرفيا، كما يظهر وجهه بالتأمل (1).

و ثانيا: تعينه من بين أنحائه بالاطلاق المسوق في مقام البيان بلا معين، و مقايسته مع تعين الوجوب النفسي بإطلاق صيغة الامر مع الفارق، فإن النفسي هو الواجب على كل حال بخلاف الغيري، فإنه واجب على تقدير دون تقدير، فيحتاج بيانه إلى مئونة التقييد بما إذا وجب الغير، فيكون الاطلاق في الصيغة مع مقدمات الحكمة محمولا عليه، و هذا بخلاف اللزوم و الترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة، ضرورة أن كل واحد من أنحاء اللزوم و الترتب، محتاج في تعينه إلى القرينة مثل الآخر، بلا تفاوت أصلا، كما لا يخفى (2).

______________________________

(1) اجاب عنه بجوابين، الاول: ان الدال على اللزوم و الترتب العلي هو اما لفظ او هيئة الجملة، و كلاهما من الحروف، بمعنى ان مدلولها معنى آلي لا استقلالي، و الاطلاق انما يتم التمسك به في المنظور بالنظر الاستقلالي، فلا وجه للتمسك بالاطلاق في الحروف.

و لا يخفى ان الدال على الوجوب النفسي أيضا هو الهيئة، و هي من المعاني الحرفية، و قد مر من المصنف التمسك بالاطلاق لافادة الوجوب النفسي دون الغيري، و لعل مراده من قوله: ( (كما يظهر وجهه بالتأمل)) ان التأمل الموصل لوجه عدم صحة التمسك بالاطلاق في الحروف يوصلنا الى امكان التمسك بالاطلاق فيها و لو بنحو التبعية لمتعلقاتها كما مر بيانه فيما تقدم.

(2) هذا هو الجواب الثاني و هو الموجب للفرق بين صحة التمسك بالاطلاق للوجوب النفسي دون المقام.

ص: 301

.....

______________________________

و توضيحه: ان تنويع الشي ء و تقسيمه الى انواع لا بد و ان يكون لخصوصيات في نفس الانواع موجبة لكون كل واحد منها نوعا غير النوع الآخر و ما لم يكن الفرق في نفس ذواتها لا يكون موجبا لتنويعها، و قد عرفت ان اللزوم في العلة المنحصرة و غيرها من العلة غير المنحصرة على نحو واحد، و الانحصار و عدم الانحصار امر خارج عن ذات العلة في مقام تأثيرها، فلا يكون موجبا للفرق الذاتي بين العلة المنحصرة و غيرها بحيث يوجب قيدا داخلا في ذواتها فلا يكون لها أفراد بعضها مقيد و بعضها غير مقيد حتى يكون الاطلاق معينا لخصوص المقيد بقيد عدمي لا وجودي و هذا بخلاف الوجوب النفسي و الغيري، فان حقيقة الوجوب الغيري هو الوجوب المترشح من وجوب آخر، بخلاف الوجوب النفسي فانه الوجوب غير المترشح، و هذا فرق في نفس حقيقة الوجوب يوجب تنويعه و تفريده، فلذا كان الاطلاق فيه معينا للوجوب النفسي دون الغيري بخلاف اللزوم في العلة المنحصرة و غيرها فانه حقيقة واحدة و ان انقسم بسبب امر خارج عن مقام حقيقة اللزوم الى علة منحصرة و غير منحصرة، فتعيين احد الاقسام بالاطلاق- مع انه انما يتم في ماله قيود داخلة في مقام ذات المقيدات- واضح الفساد.

و قد اشار المصنف الى ان انحاء اللزوم لا فرق في حقيقة اللزوم فيه و انما الفرق فيما هو خارج عن ذاته فلا وجه لتعيين العلة المنحصرة بالاطلاق، بل كل فرد من أفراد اللزوم لو اراده بخصوصه لاحتاج الى معين بقوله: ( (تعينه من بين انحائه بالاطلاق المسوق في مقام البيان بلا معين))، و لا يصح التمسك بالاطلاق من ناحية التقييد و انواعه الا فيما كان موجبا لتقييد في نفس ذات المقيد لا فيما هو الخارج عن مقام ذاته.

و قد أشار الى الفرق بين الوجوب النفسي و المقام بقوله: ( (و مقايسته مع تعين الوجوب النفسي باطلاق صيغة الامر مع الفارق)). و قد اشار الى ان الفرق في الوجوب هو في حقيقة الوجوب بقوله: ( (فان النفسي هو الواجب على كل حال))

ص: 302

ثم إنه ربما يتمسك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشرط، بتقريب أنه لو لم يكن بمنحصر يلزم تقييده، ضرورة أنه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثر وحده، و قضية إطلاقه أنه يؤثر كذلك مطلقا (1).

______________________________

أي هو الواجب لا لواجب آخر و حقيقة وجوبه غير مرتبطة بغيره، ( (بخلاف الغيري فانه واجب على تقدير دون تقدير)) أي ان وجوبه انما هو حيث يكون غيره واجبا فيترشح وجوبه منه، و حيث كان الفرق بين الوجوبين في حقيقة الوجوب، و ان القيد في الغيري وجودي فلذا ( (يحتاج بيانه الى مئونة التقييد بما اذا وجب الغير فيكون الاطلاق في الصيغة)) بضم المقدمة الرابعة ( (مع مقدمات الحكمة)) الثلاث ( (محمولا عليه)) أي على الوجوب النفسي دون الغيري ( (و هذا بخلاف اللزوم و الترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة)) حيث لا فرق فيه في حقيقة اللزوم و الترتب بين العلة المنحصرة و غير المنحصرة ( (ضرورة ان كل واحد من انحاء اللزوم و الترتب)) لا فرق في مقام حقيقته بينه و بين غيره كان كل واحد من انحاء اللزوم ( (محتاج في تعينه بخصوصه الى القرينة مثل الآخر بلا تفاوت أصلا)).

(1) هذا هو الوجه الثاني للتمسك بالاطلاق.

و توضيحه: ان الاطلاق السابق كان بما يدل على العلية و التأثير، و ان العلة المؤثرة منقسمة الى منحصرة و غير منحصرة، و الاطلاق يعين العلة المنحصرة.

و هذا الوجه الثاني للتمسك باطلاق مدخول ان، و هو الشرط النحوي.

و بيانه: ان الشرط في قولك: ان جاءك زيد فاكرمه هو المجي ء، و انه اذا تحقق المجي ء يترتب عليه وجوب الاكرام، و هو العلة للاكرام في جميع الاحوال سواء كان مسبوقا بوجود شي ء من الاشياء او مقارنا له او ملحوقا به، و لازم هذا الاطلاق كون المجي ء هو العلة لا غير، و معنى هذا كونه علة منحصرة، لأنه اذا كان هو المؤثر في وجوب الاكرام و ان سبقه أي شي ء او قارنه او لحقه فلا بد و ان يكون هو العلة المنحصرة، لانه لو كان غيره علة و وجد قبله لاثر في وجوب الاكرام و اذا قارنه مؤثر(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 3 ؛ ص304

ص: 303


1- 10. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

و فيه أنه لا تكاد تنكر الدلالة على المفهوم مع إطلاقه كذلك، إلا أنه من المعلوم ندرة تحققه، لو لم نقل بعدم اتفاقه.

فتلخص بما ذكرناه، أنه لم ينهض دليل على وضع مثل (إن) على تلك الخصوصية المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء، و لم تقم عليها قرينة عامة، أما قيامها أحيانا كانت مقدمات الحكمة أو غيرها، مما لا يكاد ينكر، فلا يجدي القائل بالمفهوم، انه قضية الاطلاق في مقام من باب الاتفاق (1).

______________________________

غيره يشتركان في التأثير و اذا لحق به غيره من العلل و كان المجي ء معدوما يتحقق الاكرام ايضا، أما اذا كان المجي ء هو العلة في جميع الاحوال فلازمه انه قبل وجود المجي ء لا يتحقق الاكرام و اذا قارنه غيره لكون المجي ء هو المؤثر دون المقارنة له و اذا لحق به شي ء و كان المجي ء معدوما لا يتحقق الاكرام، فالاطلاق الدال على ان المجي ء هو المؤثر سواء سبقه غيره او قارنه او لحق به يثبت العلة المنحصرة و لازمها ثبوت المفهوم فانه لو كان غير المجي ء علة لوجوب الاكرام كاحسانه لوجب مثلا ان يقول:

ان جاءك زيد أو احسن اليك فاكرمه، و حيث لم يقيد المجي ء بشي ء فلا بد و ان يكون هو المؤثر لا غير، و معنى هذا كون المجي ء هو العلة المنحصرة لوجوب الاكرام، و لازم العلة المنحصرة الانتفاء عند الانتفاء، و ليس المفهوم الا الانتفاء عند الانتفاء.

و الى هذا اشار بقوله: ( (بتقريب انه لو لم يكن بمنحصر)) في المجي ء ( (يلزم تقييده)) أي يلزم تقييد المجي ء بذلك الغير كالاحسان ( (ضرورة انه لو قارنه او سبقه الآخر)) الذي هو المؤثر أيضا ( (لما اثر وحده)) أي لما أثر المجي ء وحده، فانه لو قارنه يشتركان في التأثير، و لو سبقه لكان المؤثر هو الاحسان دون المجي ء، ( (و قضية اطلاقه انه يؤثر كذلك)) أي قضية الاطلاق كون المؤثر هو المجي ء و ان سبقه الاحسان او قارنه.

(1) و حاصل الجواب: ان ظاهر القضية الشرطية كونها مسوقة لبيان التأثير و العلية، و ان المجي ء يؤثر في وجوب الاكرام لا لبيان وصف هذا المؤثر بانه وحده سبقه غيره او

ص: 304

و أما توهم أنه قضية إطلاق الشرط، بتقريب أن مقتضاه تعينه، كما أن مقتضى إطلاق الامر تعين الوجوب (1).

ففيه: أن التعين ليس في الشرط نحوا يغاير نحوه فيما إذا كان متعددا، كما كان في الوجوب كذلك، و كان الوجوب في كل منهما متعلقا بالواجب بنحو آخر، لا بد في التخييري منهما من العدل، و هذا بخلاف الشرط فإنه واحدا كان أو متعددا، كان نحوه واحدا و دخله في المشروط

______________________________

قارنه او لحق به. نعم لو قامت القرينة على ان الاطلاق مسوق من هذه الجهة لثبت المفهوم.

و الحاصل: ان النافع للقائل بالمفهوم هو ان من معتاد البيان هو سوق البيان من هذه الجهة و لكنه ليس من معتاد البيان سوقه من هذه الجهة، و انما البيان المعتاد في القضية الشرطية هو تأثير المجي ء لا بيان وصف المجي ء. و من الواضح ان كونه وحده- سواء سبقه غيره او قارنه- من صفات المؤثر لا من اوصاف التأثير و العلية. و قد اشار الى ذلك بقوله: ( (انه لا يكاد ينكر ... الى آخر الجملة)).

(1) هذا هو الوجه الثالث للتمسك بالاطلاق، و هو أيضا تمسك بإطلاق مدخول ان و هو الشرط النحوي.

و حاصله: انه تمسك بالإطلاق على نحو الاطلاق الذي يتمسك به لاثبات كون الوجوب تعيينيا لا تخييريا فانه بعد مقدمات الحكمة الثلاث نقول: ان الظاهر من الاطلاق كون الواجب هو بنفسه واجبا لا انه له عدل مثله، مثلا: اذا قال المولى:

صل، فظاهره ان الصلاة بنفسها هي الواجب، لا انها هي أو غيرها كما في خصال الكفارة، فان الواجب فيها هو العتق او الاطعام او الصوم، و مثله الاطلاق في المقام، فان الظاهر من قوله: ان جاءك زيد فاكرمه ان العلة لوجوب الاكرام هو المجي ء لا انه هو أو غيره، و لو كان غيره علة أيضا لكان العلة هو المجي ء او غيره.

و الى هذا اشار بقوله: ( (بتقريب ان مقتضاه تعينه ... الى آخر الجملة)).

ص: 305

بنحو واحد، لا تتفاوت الحال فيه ثبوتا كي تتفاوت عند الاطلاق إثباتا، و كان الاطلاق مثبتا لنحو لا يكون له عدل لاحتياج ما له العدل إلى زيادة مئونة، و هو ذكره بمثل او كذا (1) و احتياج ما إذا كان الشرط

______________________________

(1) اجاب عنه بجوابين: الأول: ما مر في الجواب عن الاطلاق بالتقريب الأول.

و حاصله: ان الوجوب التعييني و الوجوب التخييري تنويع في حقيقة الوجوب، فان حقيقة الواجب التعييني غير حقيقة الواجب التخييري، فان الواجب التعييني هو الواجب لا غير، و الواجب التخييري هو أو غيره، فاذا كان الاطلاق مسوقا لبيان ما هو الواجب و لم يبين له عدلا وجب ان يكون الواجب تعيينيا و إلّا فلو كان للواجب عدل آخر و لم يبينه للزم الاخلال بالغرض، بخلاف العلية و التأثير فان كون المؤثر في الاكرام لو كان غير المجي ء لا يوجب كون حقيقة تأثير المجي ء في الاكرام حقيقة اخرى غير تأثير المجي ء فيما لم يكن غيره مؤثرا بل تأثيره على أي حال سواء كان هناك مؤثر غيره أو لم يكن على حد سواء بخلاف الوجوب التعييني و التخييري، فان حقيقة الوجوب التعييني غير حقيقة الوجوب التخييري، و حيث ان يكون المراد بيان الوجوب المتنوع الى التعييني و التخييري و كان الوجوب التخييري مقيدا بقيد وجودي و هو جواز تركه الى بدله او ان القيد الوجودي هو كون الواجب له عدل آخر كان الاطلاق معينا للوجوب التعييني لان الوجوب التعييني مقيد بقيد عدمي و هو انه لا يجوز تركه الى البدل او انه هو الذي لا عدل له، و ليس مقامنا من هذا القبيل لعدم اختلاف حقيقة المؤثر و تأثيره في كونه له عدل أو ليس له عدل، فيكون الاطلاق المسوق لبيان كون المجي ء هو المؤثر لا يجب فيه بيان ان لهذا المجي ء عدلا أو ليس له، فلا يوجب اخلالا بغرض المولى في بيانه المسوق لكون المجي ء مؤثرا في الاكرام، فان كون غير المجي ء مؤثرا لا يوجب تنويعا في التأثير و كون تأثير المجي ء غير تأثير غيره، بل تأثير المجي ء لا يختلف سواء كان غيره له تأثير او لم يكن.

ص: 306

.....

______________________________

و بعبارة اخرى: ان الواجب التعييني الواجب فيه هو متعلق الوجوب وحده، و الواجب التخيري الواجب فيه هو أحد العدلين، فحقيقة الوجوب قد اختلفت بالذات في هذين الوجوبين بخلاف العدل في المؤثر، فان كون المؤثر في الاكرام هو المجي ء وحده او هو و الاحسان مثلا لا يوجب اختلافا في تأثير المجي ء في الاكرام فلا تكون العدلية منوعة لحقيقة العلة، بخلاف العدلية في الوجوب فانها موجبة لاختلاف حقيقة ما هو الواجب و لذا قال (قدس سره): ( (ان التعين ليس في الشرط)) هو على ( (نحو يغاير نحوه فيما اذا كان متعددا كما كان في الوجوب كذلك)) أي انه في الوجوب تعدد الواجب و وحدته يوجب كون الوجوب على نحو في الوحدة يغاير نحوه في المتعدد ( (و كان الوجوب في كل منهما متعلقا بالواجب بنحو آخر))، فانه في الواجب التعييني الواجب هو المتعلق بنفسه وحده و بذاته، و في الواجب التخييري الواجب احد الامرين، و هو الجامع بينهما. فاذا كان المولى في مقام بيان الوجوب التخييري لا بد له ان يقيد المتعلق بأو أو غيرها، فيقول اذا افطرت في رمضان عمدا فصم او اطعم او اعتق. يقول يجب عليك احد هذه الامور فحينئذ ( (في التخييري)) من هذين الوجوبين لا بد من ذكر العدل، بخلاف التعييني فانه لا عدل له. ( (و هذا بخلاف الشرط فانه واحدا كان او متعددا، كان نحوه واحدا و دخله في المشروط بنحو واحد لا تتفاوت الحال فيه ثبوتا كي تتفاوت عند الاطلاق اثباتا)) أي انه انما يعقل مرحلة الاثبات حيث يكون له في مرحلة الثبوت و الواقع تحقق، و مرحلة الاطلاق مرحلة الاثبات، و قد عرفت ان العلية في مرحلة الثبوت لا تنويع فيها، و هي على نحو واحد، فلا يعقل ان يكون الاطلاق مثبتا للعلية المنحصرة، لان العلية المنحصرة و غير المنحصرة غير مختلفة في الواقع في مقام التأثير، و التأثير للعلة التي ليس لها عدل كالتأثير للعلة التي لها عدل، و قد عرفت في الوجوب انه ليس كذلك، لان حقيقة الوجوب فيما له عدل غير حقيقته فيما ليس له عدل.

ص: 307

متعددا إلى ذلك إنما يكون لبيان التعدد، لا لبيان نحو الشرطية، فنسبة إطلاق الشرط إليه لا تختلف، كان هناك شرط آخر أم لا، حيث كان مسوقا لبيان شرطيته بلا إهمال و لا إجمال. بخلاف إطلاق الامر، فإنه

______________________________

و لا يخفى ان التمسك بالاطلاق في المقام للمفهوم انما هو مع تسليم انه لم تقم قرينة بالخصوص على انه مسوق لتقسيم العلة الى منحصرة و غير منحصرة، و ان كان هذا وصف لها باعتبار ما هو خارج عن ذاتها، و اذا لم تقم قرينة خاصة على سوقه كذلك فلا بد و ان يكون الاطلاق باعتبار عدم امكان ارادة الجامع بين النوعين كما هو في الوجوب التعييني و التخييري، فلا بد و ان يريد احد النوعين، و حيث ان القيد في التخييري يزيد على بيان انه واجب، بل لا بد من العطف و تقييده بأو أو ما يؤدي مؤداها لذلك كان الاطلاق معينا للوجوب التعييني، لأنه يكفي فيه ما يدل على انه واجب، فان قيده بأن لم يكن معه غيره عدمي لا يحتاج الى بيان، فبعد تمامية مرحلة الثبوت كان الاطلاق الذي هو مرحلة الاثبات مثبتا لخصوص الوجوب التعييني، و اما العلية فحيث انها غير متنوعة ثبوتا فلا يعقل ان يكون الاطلاق دالا على خصوص العلة المنحصرة بعد ان كان الانحصار و عدمه خارجا عن مقام ذات العلة.

كان لو كان الحال في مرحلة العلة متفاوتا ثبوتا لكان للتمسك بالاطلاق في مرحلة الاثبات مجال ( (و كان الاطلاق مثبتا لنحو لا يكون له عدل)) و هو العلة المنحصرة، لانه اذا كان تفاوت في مرحلة الثبوت ففي مرحلة الاثبات لا بد و ان يكون المراد احد النوعين، و حيث ان العلية غير المنحصرة و هي التي لها عدل موجبة لتقيد زائد ( (لاحتياج ما له العدل الى زيادة مئونة و هو ذكره بمثل او كذا)).

ص: 308

لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني، فلا محالة يكون في مقام الاهمال أو الاجمال، تأمل تعرف (1).

هذا مع أنه لو سلم لا يجدي القائل بالمفهوم، لما عرفت أنه لا يكاد ينكر فيما إذا كان مفاد الاطلاق من باب الاتفاق (2).

ثم إنه ربما استدل المنكرون للمفهوم بوجوه (1):

______________________________

(1) حاصله: انه ربما يكون الاطلاق مسوقا لبيان تعدد الشرط، فيحتاج الشرط المتعدد الى العطف بمثل- أو- أو ما يؤدي مؤداه. و لكن هذا الاطلاق ليس هو الاطلاق المسوق لبيان الشرطية، بل هو اطلاق آخر.

و النافع في المقام ان يكون الاطلاق المسوق للشرطية يحتاج الى العطف بأو. و قد عرفت ان الاطلاق المسوق للشرطية لا يحتاج الى ذلك لعدم الاختلاف في ذاتها و لذا قال (قدس سره) و احتياج ما اذا كان الشرط متعددا الى ذلك انما يكون لبيان التعدد لا لبيان نحو الشرطية ... الى آخر كلامه)).

قوله (قدس سره): فلا محالة يكون في مقام الاهمال ... الخ)) أي انه في الوجوب حيث ان الفرق بينهما في مقام ذات الوجوب فاذا لم يعين الاطلاق احدهما فيلزمه ان يكون المولى في مقام الاجمال او الاهمال بخلاف العلية فانه اذا لم يعين الاطلاق المنحصرة او غير المنحصرة لا يكون المولى في مقام الاجمال او الاهمال.

(2) هذا هو الايراد الثاني على هذا الاطلاق و حاصله: ما مر من انه ربما يكون الاطلاق مثبتا للعلية المنحصرة فيما اذا قامت قرينة على ان المولى بصدد ذلك، و لكنه لا يفيد القائل بالمفهوم لانه يدعى ان القضية الشرطية طبيعي الاطلاق فيها يدل على الانحصار فيدل على المفهوم.

و قد عرفت انه ليس من طبيعي الكلام المسوق للعلية ان يكون له اطلاق بلحاظ انحصارها، و كون الشرطية ربما يكون لها اطلاق يستلزم المفهوم لا ينفع القائل بالمفهوم الذي مدعاه ان كل قضية شرطية لها مفهوم.

ص: 309

أحدها: ما عزي إلى السيد من أن تأثير الشرط، إنما هو تعليق الحكم به، و ليس بممتنع أن يخلفه و ينوب منابه شرط آخر يجري مجراه، و لا يخرج عن كونه شرطا، فإن قوله تعالى: وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ يمنع من قبول الشاهد الواحد، حتى ينضم إليه شاهد آخر، فانضمام الثاني إلى الاول شرط في القبول، ثم علمنا أن ضم امرأتين إلى الشاهد الاول شرط في القبول، ثم علمنا أن ضم اليمين يقوم مقامه أيضا، فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى، مثل الحرارة، فإن انتفاء الشمس لا يلزم انتفاء الحرارة، لاحتمال قيام النار مقامها، و الامثلة لذلك كثيرة شرعا و عقلا (2).

______________________________

(1)

تقرير أدلة منكري المفهوم

قد عرفت مما مر ان الصحيح في انكار المفهوم هو عدم دلالة القضية الشرطية عليه، و ان ما ذكروه مستندا للدلالة على المفهوم لم تتم دلالته على ذلك. و لكن المنكرين للمفهوم قد استدلوا على عدم الدلالة بوجوه لا تخلو عن المناقشة.

(2) و حاصل هذا الوجه المنسوب الى علم الهدى (قدس سره) هو: ان الشرط للحكم انما هو لان للشرط دخل في تحقق الحكم، فمرجع الحكم المعلق على الشرط هو انه لتحقق هذا الشرط أثر في تحقق الحكم لئلا يكون جزافا. و لا يقتضى هذا المقدار سوى الثبوت عند الثبوت أي ثبوت الحكم عند ثبوت الشرط، و اما انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط فلا يقتضيه ما دل على ان للشرط دخالة في تحقق الحكم، لأنه من الواضح أنه لا يمتنع عقلا و لا شرعا ان يكون لغير هذا الشرط نيابة عن هذا الشرط، بمعنى ان يكون المؤثر في تحقق الحكم احد أمور، اما شرعا فان القضية الدالة على اشتراط انضمام رجل ثان في مقام الشهادة الى الرجل الشاهد الأول قد دلت على ان انضمام الرجل الثاني قد اشترط في تمامية تأثير قبول الشهادة فهو شرط قد علق عليه الحكم و هو ثبوت المشهود به، فثبوت المشهود به معلق على ثبوت الشرط، و هو انضمام الرجل الثاني الى الرجل الأول، و قد علمنا أيضا انه يخلف انضمام الرجل

ص: 310

و الجواب: أنه (قدس سره) إن كان بصدد إثبات إمكان نيابة بعض الشروط عن بعض في مقام الثبوت و في الواقع، فهو مما لا يكاد ينكر، ضرورة أن الخصم يدعي عدم وقوعه في مقام الاثبات، و دلالة القضية الشرطية عليه، و إن كان بصدد إبداء احتمال وقوعه، فمجرد الاحتمال لا يضره، ما لم يكن راجحا أو مساويا، و ليس فيما أفاده ما يثبت ذلك أصلا، كما لا يخفى (1).

______________________________

الثاني انضمام امرأتين الى الرجل الأول. و قد علمنا أيضا انه يخلفه انضمام اليمين من المدعي الى الشاهد الواحد فعند الشرع لا مانع من ان يكون احد أشياء شرطا في تأثير الحكم و ثبوته.

و أما عقلا فلأنه لا يمتنع في المقتضى ان يكون للشي ء الواحد مقتضيات عديدة مؤثرة، فان الحرارة التي تحصل بتأثير الشمس تحصل أيضا بتأثير النار، فالحرارة لا بد من ثبوتها عند ثبوت الشمس و لكن لا يلزم من انتفاء الشمس انتفاؤها، فانها يمكن ان تثبت بواسطة النار. فما علق عليه الحكم سواء كان شرطا للعلة أو مقتضيا فيها لا يمتنع ان يكون احد أمور ينوب بعضها عن بعض. و قد اشار الى ذلك شرعا بقوله: ( (فاستشهدوا الى آخر الجملة)).

و اشار الى ذلك عقلا بقوله: ( (مثل الشمس ... الى آخر الجملة)). و قد جرى في لسان السيد (قدس سره) التعبير بالشرط سواء عما هو شرط واقعا بحسب الاصطلاح او مقتضيا بحسبه.

و لا يخفى ان الظاهر من كلام السيد ان البرهان على كون الشرطية مفادها الثبوت عند الثبوت دون الانتفاء عند الانتفاء هو عدم الامتناع شرعا و عقلا.

(1) لما كان ظاهر استدلال السيد ما ذكرنا اورد عليه المصنف بما حاصله: ان مراد السيد بعدم الامتناع اثبات امكان ان يكون للشي ء الواحد شروط متعددة أو علل متعددة بحسب الواقع، فهذا خارج عن دعوى القائل بالمفهوم. فانه من الواضح انه

ص: 311

.....

______________________________

كما يمكن ان يكون للشي ء شروط متعددة او علل متعددة كذلك يمكن ان لا يكون له الا شرط واحد او علة واحدة و الشرطية بحسب دلالتها اللفظية تدل على ان علة الحكم او شرطه هو امر واحد لا غير يثبت الحكم بثبوته و ينتفي بانتفائه، فالقائل بالمفهوم يدعى ان ما هو واقع في لسان دلالة الدليل هو العلة المنحصرة الذي لازمها ثبوت المفهوم ففي مرحلة الاثبات و الدلالة المستفاد منها هو العلة المنحصرة و لا يضر مدعى هذه الدعوى انه في مرحلة الثبوت يمكن ان يكون للشي ء علل متعددة بعد ان كانت مرحلة الاثبات متكفلة للدلالة على العلية المنحصرة و الى هذا اشار بقوله:

( (ان كان بصدد إبداء ... الى آخر الجملة)) و ان كان مراد السيد بقوله لا يمتنع انه يريد ابداء صرف احتمال ان تكون القضية الشرطية في مقام الدلالة يمكن و لا يمتنع ان يكون دلالة على مجرد الثبوت عند الثبوت دون الانتفاء عند الانتفاء، فهذا ايضا لا يضر مدعى المفهوم، فانه يدعي دلالة القضية الشرطية بالفعل بحسب الوضع مثلا على الانتفاء عند الانتفاء، و لا يضر القائل بذلك ان يقال له انه يمكن ان تدل القضية الشرطية على مجرد الثبوت عند الثبوت مجازا، و الذي ينفع في قبال دعوى المفهوم ان يقال ان احتمال دلالة القضية الشرطية على مجرد الثبوت عند الثبوت مجازا راجح او مساو للحقيقة او يقال له انها لم توضع الا لمجرد الثبوت عند الثبوت، و دلالتها على كل من العلة المنحصرة او غير المنحصرة يحتاج الى قرينة خاصة، فاحتمال العلية المنحصرة و العلية غير المنحصرة على حد سواء.

و كلام السيد لا يدل على شي ء من ذلك فان تعبيره بأنه لا يمتنع لا يدل إلّا على ان الثبوت عند الثبوت يحتمل ان يكون مدلولا للقضية الشرطية و احتمال دلالتها لا يكون معارضا لمن يدعي كون الوضع او الانصراف او الاطلاق قد صير القضية الشرطية دالة بالفعل على الانتفاء عند الانتفاء.

و من الواضح انه لا ينافي ما ادعاه من الدلالة بالفعل على العلة المنحصرة لو تجردت عن القرينة على خلافها انها مع القرينة تكون مستعملة في غير العلة المنحصرة

ص: 312

.....

______________________________

او انه مع القرينة لا يتم انصرافها او اطلاقها على خصوص العلة المنحصرة التي لو لا قيام القرينة الخاصة على خلافها لكانت القضية دالة عليه بالفعل.

و الحاصل: ان قول السيد لا يمتنع هو عدم المحذور في تعدد الشرط لا في مرحلة الثبوت و لا في مرحلة الاثبات و الدلالة و هذا المقدار لا يضر مدعي الدلالة على المفهوم لانه يدعي انه في مرحلة الدلالة و الاثبات القضية الشرطية تدل على الانحصار و عدم التعدد، فكون الشرط في مرحلة الثبوت يمكن ان يتعدد و في مرحلة الاثبات و الدلالة يمكن ايضا ان يتعدد لا ينافي دعوى ان الدلالة الفعلية للقضية الشرطية هي التعدد لإمكان ان التعدد في مرحلة الدلالة لقيام قرينة على التعدد، و لكن القضية لو تجردت عن القرينة لكانت دالة على الانحصار و عدم التعدد، و انما يضر مدعي المفهوم هو إنكار دلالة القضية الشرطية بالفعل على الانحصار و عدم التعدد، و هذا لا يظهر من كلام السيد لوضوح ان قوله لا يمتنع لا ظهور له في كون دلالة القضية بالفعل هو صرف الثبوت عند الثبوت من دون دلالة لها على الانحصار و عدم التعدد الذي يستلزم الانتفاء عند الانتفاء.

و الحاصل: انه على السيد ان يقول ان احتمال التعدد و عدم التعدد بالنسبة الى دلالة الشرطية على حد سواء و لم يظهر ذلك من عبارة السيد. و الى هذا اشار بقوله:

( (فمجرد الاحتمال ...)) أي فمجرد احتمال الوقوع من دون دعوى كون هذا الاحتمال بالفعل في عرض احتمال العلة المنحصرة، ففي مرحلة الوقوع الاحتمالان متعارضان، اما اذا كان صرف احتمال وقوع ذلك ( (فلا يضره)) أي فلا يضر القائل بالمفهوم ما لم يكن ذلك الاحتمال ( (بحسب القواعد اللفظية)) احتمالا راجحا او مساويا لاحتمال المفهوم ( (و ليس فيما افاده ما يثبت ذلك)) لما عرفت من ان تعبير السيد بعدم الامتناع لا يدل على شي ء من ذلك.

ص: 313

ثانيها: إنه لو دل لكان بإحدى الدلالات، و الملازمة كبطلان التالي ظاهرة (1)، و قد أجيب عنه بمنع بطلان التالي، و أن الالتزام ثابت، و قد

______________________________

(1) هذا هو الدليل الثاني من الذي استدل به على عدم المفهوم، و انه لا دلالة للقضية الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء، و انه لمجرد الثبوت عند الثبوت.

و حاصله: ان الدلالة اللفظية تنحصر في المطابقة و التضمن و الالتزام. فدعوى دلالة القضية الشرطية على المفهوم لا تخلو عن هذه الثلاث.

و من الواضح ان المفهوم ليس مدلولا مطابقيا و لا تضمنيا فانه حيث لا يعقل ان يكون المفهوم كل مدلول القضية الشرطية فلا يعقل دعوى الدلالة المطابقية، و اما التضمنية فلوضوح ان المفهوم ليس جزءا من مدلول القضية الشرطية كما قيل ذلك في لفظ الشمس في دلالتها على الضوء تضمنا لانها تدل على الجرم و على الضوء فالضوء جزء من مدلول لفظ الشمس و لذلك لم يدع احد دلالة القضية الشرطية على المفهوم بالمطابقة او بالتضمن و لوضوح ان المفهوم لا يعقل ان يكون مدلولا عليه بالمطابقة او بالتضمن و إلّا لكان المفهوم منطوقا فان الدلالة المطابقية و التضمنية من المنطوق لا من المفهوم.

و اما دعوى الدلالة التزاما فلا بد و ان يكون لدلالة القضية الشرطية على الانحصار المستلزم ذلك للانتفاء عند الانتفاء و لا تدل القضية الشرطية على الانحصار التزاما فاذا انتفت الدلالات الثلاث فلا وجه لدعوى دلالة القضية اللفظية على المفهوم، و ترتيب هذا الاستدلال انه لو دلت القضية على المفهوم لكانت بإحدى الدلالات الثلاث لانحصار الدلالة فيها، فهذه الملازمة بين المقدم و التالي واضحة، اذ بعد انحصار الدلالة فهنا تتحقق الملازمة في هذه القضية و هو التلازم بين دلالة القضية على المفهوم و بين انه لا بد و ان يكون ذلك باحدى الدلالات الثلاث، و لكن دعوى دلالة القضية على المفهوم بإحدى الدلالات الثلاث واضحة البطلان لما عرفت من عدم دلالة القضية الشرطية على المفهوم بالمطابقة و لا بالتضمن و لا بالالتزام و من الواضح انه

ص: 314

عرفت بما لا مزيد عليه ما قيل أو يمكن أن يقال في إثباته أو منعه، فلا تغفل (1).

______________________________

لا ملازمة بين صدق القضية الشرطية و كذب طرفيها او احد اطرافها، و الى ما ذكرنا من ترتيب الاستدلال في هذا الوجه اشار بقوله: ( (انه لو دل لكان باحدى الدلالات ...)) و الملازمة واضحة الصحة بحسب الفرض ( (و هي كبطلان التالي ظاهره)) فان التالي و هي دعوى دلالة القضية باحدى الدلالات الثلاث ظاهرة البطلان لعدم الدلالة لا مطابقة و لا تضمنا و لا التزاما.

(1) و حاصله: ان مدعى دلالة القضية الشرطية على المفهوم يقول بدلالتها عليه التزاما لدلالة القضية عنده على الخصوصية المستلزمة له و هي العلية المنحصرة التي لازمها الانتفاء عند الانتفاء فالتالي و هو دلالة القضية الشرطية باحدى الدلالات الثلاث على المفهوم ليس بباطل لانها تدل بالدلالة الالتزامية على الانحصار المستلزم للمفهوم. و الى هذا اشار بقوله: ( (و قد اجيب عنه بمنع بطلان التالي)) فان دلالة القضية الشرطية التزاما على الخصوصية ثابتة، فدعوى بطلان التالي ممنوعة.

قوله (قدس سره): ( (و قد عرفت ...)) يشير المصنف الى ان الاستدلال بهذا النحو و الجواب عنه كلاهما غير خاليين عن المناقشة، فان صرف دعوى عدم دلالة القضية الشرطية على المفهوم باحدى الدلالات الثلاث دعوى من غير بينة، كما ان الجواب و هو ان دعوى دلالتها على المفهوم بالالتزام أيضا دعوى من دون بينة.

و الحاصل: ان الاستدلال لمنع دلالة القضية الشرطية على المفهوم بمحض دعوى انها لا دلالة لها لا بالمطابقة و لا بالتضمن و لا بالالتزام غير صحيح، بل لا بد في مقام الاستدلال بعد صحة التسالم على عدم الدلالة المطابقية و التضمنية بمنع الدلالة الالتزامية بعدم دلالة القضية التزاما على المفهوم لا وضعا و لا انصرافا و لا اطلاقا كما مر منا مفصلا، كما ان الجواب عن هذا الاستدلال بمحض دعوى دلالة القضية

ص: 315

ثالثها: قوله تبارك و تعالى: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً.

و فيه ما لا يخفى، ضرورة أن استعمال الجملة الشرطية فيما لا مفهوم له أحيانا و بالقرينة، لا يكاد ينكر، كما في الآية و غيرها، و إنما القائل به إنما يدعي ظهورها فيما له المفهوم وضعا أو بقرينة عامة، كما عرفت (1).

______________________________

الشرطية التزاما على الانحصار غير صحيح، بل لا بد في مقام الجواب انه تثبت دلالة القضية الشرطية التزاما على المفهوم اما بالوضع او بالانصراف او بالاطلاق.

فتبين مما ذكرنا: ان الاستدلال على عدم المفهوم بمحض عدم الدلالة، و الجواب عنه بمحض انها لها دلالة كلاهما غير خاليين عن المناقشة.

(1) هذا ثالث الوجوه التي استدل بها على عدم دلالة القضية الشرطية على المفهوم و هو قوله تعالى: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً و معنى الآية- و اللّه العالم- هو حرمة اكراه الفتيات على البغاء إن اردن التحصن، فلو كانت القضية الشرطية دالة على المفهوم لكان مفهوم هذه القضية الشرطية هو عدم حرمة اكراه الفتيات على البغاء حيث لم يردن التحصن و من الواضح ان الاكراه على البغاء محرم في جميع الاحوال سواء اردن الفتيات التحصن او لم يردنه، اما اذا كانت الشرطية لا دلالة لها على المفهوم و انما هي لمحض الثبوت عند الثبوت فلا يكون للآية دلالة على ما يخالف ما هو معلوم ضرورة.

و الجواب عنه: ان مدعي المفهوم في القضية انما يدعي دلالة القضية عليه حيث لا تقوم قرينة على عدم ارادة المفهوم فانه لا يدعي عدم امكان استعمال الشرطية فيما لا مفهوم له حتى يكون السلب الجزئي منافيا لدعوى الموجبة الكلية، و في المقام قد قامت القرينة في ان هذه الشرطية و امثالها تستعمل فيما لا مفهوم له، و حاصل القرينة في المقام هو ان ارادة المفهوم من هذه القضية و ما يجري مجراها غير معقول لوضوح

ص: 316

بقى هاهنا أمور: الاول: إن المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط عند انتفائه، لا انتفاء شخصه، ضرورة انتفائه عقلا بانتفاء موضوعه و لو ببعض قيوده (1)، فلا يتمشى الكلام- في أن للقضية

______________________________

ان الاكراه انما يكون له موضوع في الشي ء المبغوض للشخص، اما الشي ء غير المبغوض له المحبوب اليه فلا يعقل ان يتحقق فيه الاكراه، و الفتيات يعقل اكراههن حيث يردن التحصن و العفاف، اما اذا لم يردن العفاف و التحصن فانهن لا بد و ان لا يكون البغاء مبغوضا لهن، و يكون امرا محبوبا لهن، و مع كونه محبوبا و غير مبغوض لا يعقل ان يتحقق الاكراه فيه، فعدم الاكراه بعدم الموضوع له، و القضية الشرطية المستعملة فيما كان انتفاء الموضوع في طرف السلب من السالبة بانتفاء الموضوع لا يكون لها مفهوم، لان بيان ما هو منتف بانتفاء موضوعه لغو، و لا يحتاج إلى بيان، و امثال هذه القضية الشرطية تسمى بالقضية المسوقة لتحقق الموضوع و هي لا مفهوم لها كقول القائل ان رزقت ولدا فاختنه، فان عدم الختان عند عدم الولد مما لا يحتاج الى بيان، لانتفاء الموضوع الذي له الختان، و مثل قول القائل ان ركب الامير فخذ ركابه، فان عدم اخذ الركاب حيث لا يركب الامير منتف بانتفاء موضوعه لغو بيان.

و الى هذا اشار بقوله: ( (و فيه ما لا يخفى ضرورة ان استعمال الجملة الشرطية فيما لا مفهوم له احيانا و بالقرينة لا يكاد ينكر، كما في الآية و غيرها)) من امثالها من القضايا التي تساق لتحقق الموضوع ( (و انما القائل به)) أي بالمفهوم ( (يدعي ظهورها)) أي القضية الشرطية فيما له مفهوم اما لدعوى دلالة القضية عليه مع عدم القرينة الخاصة وضعا او بقرينة عامة و هي الانصراف او الاطلاق.

(1)

العبرة في المفهوم بانتفاء سنخ الحكم لا شخصه

يشتمل هذا الأمر الأول على امور:

احدها: ان المفهوم الذي وقع النزاع في دلالة القضية الشرطية و عدم دلالتها عليه هو انتفاء سنخ الحكم عند انتفاء ما علق عليه دون شخص، الحكم فلا بد من توضيح المراد من سنخ الحكم و من شخص الحكم.

ص: 317

.....

______________________________

و تمهيدا لذلك نقول: انه لا ريب ان الحكم المنشأ في القضية الشرطية كقولنا ان جاءك زيد فاكرمه، هو طبيعي الوجوب المتعلق بطبيعي الاكرام، و حيث انه قد علق على المجي ء فقد تشخص هذا الوجوب به و صار كقيد له.

و من البين: ان الطبيعي اذا تخصص بشي ء فقد تخصص و صار حصة و قد تشخص بسبب الخصوصية التي تخصص بها.

و مما ذكرنا يظهر: ان انتفاء وجوب الاكرام المعلق على المجي ء لا شبهة في انتفائه بانتفاء المجي ء، و لكنه ليس هو المفهوم المتنازع في ثبوته و عدمه، و انما هو انه بعد تشخص هذا الوجوب بهذا التعليق يكون للوجوب فرد آخر و هو الاكرام في حال عدم المجي ء فانه فرد من الوجوب آخر غير الفرد الذي تشخص بتعليقه على المجي ء، و الكلام في المفهوم هو انه هل تدل القضية الشرطية على ان المجي ء هو العلة المنحصرة لطبيعي الوجوب المتعلق بالاكرام من دون لحاظ تشخصه بالمجي ء أم لا تدل على ذلك؟ فان دلت فلازمها ان ينتفي الوجوب من رأس حتى في حال عدم المجي ء، و ان لم تدل فلا ينتفي الا الوجوب المعلق على المجي ء دون الوجوب في حال عدم المجي ء، فلا دلالة للقضية الشرطية على انتفائه.

فاتضح مما ذكرنا: ان الوجوب المعلق على المجي ء بما هو معلق عليه هو شخص الحكم، و الوجوب المطلق الذي يمكن ان يثبت حتى في حال عدم المجي ء هو سنخ الحكم، و النزاع في المفهوم هو في دلالة القضية على انتفاء الوجوب مطلقا و عدم دلالتها على ذلك لا في انتفاء الوجوب المعلق على المجي ء بما هو معلق على المجي ء فانه لا بد من انتفائه.

و لا يخفى انه لا خصوصية للقضية الشرطية في انتفاء شخص الحكم بانتفاء المجي ء، بل كل حكم له موضوع لا بد و ان ينتفي بانتفاء موضوعه، لوضوح ثبوت الحكم بثبوت موضوعه و انتفائه بانتفاء موضوعه. و الى هذا اشار بقوله: ( (ضرورة انتفائه عقلا بانتفاء موضوعه و لو ببعض قيوده)) أي ان انتفاء شخص الحكم امر عقلي

ص: 318

الشرطية مفهوما أو ليس لها مفهوم- إلا في مقام كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء، و انتفاؤه عند انتفاء الشرط ممكنا، و إنما وقع النزاع في أن لها دلالة على الانتفاء عند الانتفاء، أو لا يكون لها دلالة (1).

______________________________

ضروري عند انتفاء موضوعه و لو ببعض قيوده، فان الموضوع مثلا لوجوب الاكرام هو مجي ء زيد، فانتفاء المجي ء انتفاء بعض الموضوع.

(1) هذا هو الامر الثاني الذي اشتمل هذا الامر الاول عليه.

و حاصله: هو ان الكلام في المفهوم الذي عرفت انه هو انتفاء سنخ الحكم انما يكون حيث يمكن ان يثبت سنخ في غير مورد القضية الشرطية اما لو كان الحكم المعلق في القضية الشرطية قد انحصر بالموضوع الذي علق عليه ضرورة كانحصار الكلي في فرد فلا مجال لان يكون مثل هذه القضية داخلة في محل النزاع، لوضوح انه بعد ما عرفت انه هو انتفاء سنخ الحكم الذي لا بد فيه ان يفرض له فرد آخر غير الفرد الذي علق عليه الحكم، و اذا فرض انه لا فرد له غير الفرد المعلق عليه فلا يعقل ان يكون لهذه القضية مفهوما حتى يكون داخلا في محل النزاع مثلا: ان وجوب التطهير من النجس ينحصر عقلا بأن يتلوث شي ء بالنجس، فلا يعقل ان يجب تطهير غير المتلوث، اذ لا معنى لتطهير الطاهر، فلو دلت القضية الشرطية على وجوب تطهير الشي ء ان تنجس فلا تكون لمثل هذه القضية مفهوم ليدخل في محل النزاع، لانحصار كلي التطهير بالملوث بالنجس، و غير الملوث لا يعقل ثبوت وجوب التطهير له، فليس لهذه القضية غير شخص هذا الحكم و ليس لهذا الحكم آخر حتى يكون داخلا في محل الكلام لما عرفت من ان سنخ الحكم انما يكون حيث يعقل ان يكون لطبيعي الحكم فرد غير الفرد المعلق عليه الحكم. و الى هذا اشار بقوله: ( (لا يتمشى ... الى آخر الجملة)).

و قوله: ( (ممكنا)) هو خبر ( (كان هناك ثبوت سنخ الحكم)) أي ان الكلام انما يتمشى في مقام كان ثبوت سنخ الحكم و انتفاؤه ممكنا، اما فيما لا يكون ثبوته ممكنا

ص: 319

و من هنا انقدح أنه ليس من المفهوم دلالة القضية على الانتفاء عند الانتفاء في الوصايا و الاوقاف و النذور و الايمان، كما توهم (1)، بل عن

______________________________

فلا يعقل النزاع في انتفائه و عدم انتفائه لانه يكون من انحصار الكلي في فرده، لوضوح ان النزاع في مرحلة الاثبات فرع معقولية مرحلة الثبوت، و قد عرفت ان النزاع في المفهوم انما هو في مرحلة الاثبات، فلا بد و ان يكون مرحلة الثبوت امرا ممكنا، و في مقام انحصار الحكم بما علق عليه من ذاته و طبيعته لا من حيث دلالة الشرطية لو فرض دلالتها على الانحصار لا يعقل ان يكون مما يتمشى فيه النزاع المتفرع على الامكان في مرحلة الثبوت. و الى هذا اشار بقوله: ( (و انما وقع النزاع في ان لها دلالة ... الى آخر الجملة)). فان النزاع في الدلالة هو في مرحلة الاثبات المتفرعة بذاتها عقلا على مرحلة الثبوت.

(1) هذا هو الامر الثالث الذي اشتمل عليه هذا الأمر الأول: و هو ينقدح من الامرين المتقدمين، و وجه انقداحه منهما: انه بعد ما عرفت ان النزاع في المفهوم انما هو في انتفاء سنخ الحكم و عدمه، و ان انتفاء شخص الحكم عما علق عليه الحكم ليس من المفهوم، و بعد ما عرفت ان الكلام انما يتمشى في غير ما انحصر كليه في فرده، يتضح لك ان انتفاء الحكم عن غير الشخص الذي تعلق الحكم به كما في الوصايا و الاوقاف و النذور و ما يساوقها كالايمان ليس من المفهوم، بل هو من انتفاء شخص الحكم، و هو ليس من محل النزاع سواء كان الحكم فيما ذكرنا ثابتا بنحو القضية الشرطية كأن يقول مثلا وقفت على أولادي ان كانوا فقراء، او بنحو الوصف كأن يقول وقفت على اولادي الفقراء، او بنحو اللقب كأن يقول وقفت على اولادي، او يقول مثلا في وصيته بانفاق ثلثه على اولاده ان كانوا فقراء، او يقول على اولادي الفقراء، او يقول على اولادي، فانه من الواضح ان الانفاق على غير اولاده من الناس من انتفاء شخص الحكم بانتفاء موضوعه و ليس من المفهوم الذي هو انتفاء سنخ الحكم، لانه بعد ما كان موضوع الحكم للانفاق هم اولاده بشرط او بوصف

ص: 320

تمهيد القواعد، أنه لا إشكال في دلالتها على المفهوم، و ذلك لان انتفاءها عن غير ما هو المتعلق لها، من الاشخاص التي تكون بألقابها أو بوصف شي ء أو بشرطه، مأخوذة في العقد أو مثل العهد ليس بدلالة الشرط أو الوصف أو اللقب عليه، بل لاجل أنه إذا صار شي ء وقفا على أحد أو أوصى به أو نذر له، إلى غير ذلك، لا يقبل أن يصير وقفا على غيره أو وصية أو نذرا له (1)، و انتفاء شخص الوقف أو النذر أو الوصية عن غير

______________________________

فانتفاء الحكم عن غير اولاده من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، لا من انتفاء سنخ الحكم بعد ثبوت موضوعه كانتفاء الاكرام عن زيد غير الجائي، فان الموضوع فيها زيد، ففي غير حال مجيئه يمكن ان يكون الحكم ثابتا له و يمكن ان لا يكون ثابتا، اما غير زيد فمن الواضح انه لا وجه لان يتأتى النزاع في انتفاء الحكم عنه و عدم انتفائه، فان انتفاء الحكم عن غير زيد من باب انتفائه بانتفاء الموضوع المعلق عليه الحكم، و الحكم بوجوب الاكرام بالنسبة الى زيد من انحصار الكلي في فرده، لان غير زيد ليس فردا لهذا الموضوع، فاتضح ان انتفاء الحكم عن غير الاشخاص الذي تعلق بهم الحكم في الوصايا و الاوقاف و ما يحذو حذوها كالنذور و الايمان كقول الناذر للّه علي نذر ان اعطي زيدا درهما ان برئت من المرض او احلف باللّه ان اعطى زيدا درهما ان برئت، فانتفاء وجوب الاعطاء عن غير زيد لو تحقق الشرط ليس من الدلالة المفهومية بل هو من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

(1) حاصله: ان الشهيد في تمهيد القواعد قال: بان القضية الشرطية في الوصايا و الاوقاف و غيرها تدل بما لها من المفهوم على انتفاء الحكم عن غير الاشخاص الذي تعلق الحكم بهم، فالايصاء لزيد مثلا بنحو القضية الشرطية يدل بمفهومه على انتفاء الحكم عن غير زيد، و قد عرفت ان انتفاء الحكم عن غير زيد ليس لدلالة القضية بمفهومها على ذلك بل هو من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

ص: 321

مورد المتعلق، قد عرفت أنه عقلي مطلقا، و لو قيل بعدم المفهوم في مورد صالح له (1).

إشكال و دفع: لعلك تقول: كيف يكون المناط في المفهوم هو سنخ الحكم؟ لا نفس شخص الحكم في القضية، و كان الشرط في الشرطية إنما وقع شرطا بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه دون غيره، فغاية قضيتها انتفاء ذاك الحكم بانتفاء شرطه، لا انتفاء سنخه، و هكذا الحال في سائر القضايا التي تكون مفيدة للمفهوم (2).

______________________________

قوله: ( (بألقابها)) كقوله على أولادي ( (او بوصف شي ء)) كقوله على اولادي الفقراء ( (او بشرطه)) كقوله ان كانوا فقراء، قوله ( (في العقد)) كالوصية و الوقف، قوله ( (او مثل العهد)) كالنذر و اليمين.

(1) حيث انه من انتفاء الشخص الذي هو من انتفائه بانتفاء موضوعه، و هو أمر عقلي لا ربط له بالدلالات اللفظية حتى يمكن ان يكون داخلا في محل النزاع من دلالة القضية الشرطية عليه لدلالتها على المفهوم و عدم دلالتها عليه لعدم دلالتها على المفهوم، بل ان انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه حيث انه عقلي فهو من المنتفي قطعا و لو قلنا بعدم المفهوم و انه لا دلالة للقضية الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء، لانه ليس من الانتفاء عند الانتفاء الذي هو محل النزاع بل من الانتفاء عند الانتفاء الذي لا بد من تحققه لانه من انتفاء شخص الحكم لا من انتفاء سنخ الحكم في مورد يكون للحكم سنخ و الى هذا اشار بقوله: ( (و قد عرفت انه عقلي مطلقا و لو قيل بعدم المفهوم في مورد صالح له)) أي في مورد يكون للحكم مورد غير المورد المعلق عليه الحكم فانه المورد الصالح لان يقال فيه بعدم المفهوم او بالمفهوم.

(2) حاصل هذا الاشكال: انه بعد ما تبين ان المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم، و ان انتفاء شخص الحكم ليس من المفهوم، و من الواضح ان التعليق في القضية انما هو للحكم الموجود في القضية، فاذا كان الحكم في القضية هو شخص الحكم لا سنخه

ص: 322

.....

______________________________

فسنخ الحكم ليس موجودا في القضية حتى يكون هو المعلق فما يستفاد منه المفهوم ليس بمعلق و لا موجود، و ما هو المعلق و الموجود في القضية هو شخص الحكم و انتفاؤه بانتفاء ما علق عليه مما لا اشكال فيه، فلازم هذا ان يكون الكلام في دلالة القضية الشرطية على المفهوم لغوا، لعدم معقولية دلالة القضية الشرطية اللفظية على ما ليس موجودا فيها، و سنخ الحكم ليس موجودا فيها و شخص الحكم الموجود فيها ليس من المفهوم.

و بعبارة اخرى: ان المنشأ في القضية الشرطية هو شخص الحكم، و انتفاؤه ليس من المفهوم، و سنخ الحكم ليس هو المنشأ في القضية فلا دلالة للقضية عليه، اذ لا يعقل ان تدل القضية اللفظية الا على ما هو المنشأ فيها، فيكون الكلام في دلالة القضية الشرطية على المفهوم و عدم دلالتها عليه لغوا محضا، و لا اختصاص للقضية الشرطية بكون المعلق فيها شخص الحكم لا سنخه، بل كل القضايا التي وقع الكلام في ثبوت المفهوم و عدم ثبوته كالقضية الوصفية و القضية الغائية و الاستثناء أيضا كذلك، فان الموجود في القضية الوصفية مثلا المعلق على الوصف هو شخص الحكم لا سنخه و هكذا الحال في غيرها.

و قد اشار الى ما ذكرنا جميعا بقوله: ( (لعلك تقول كيف يكون المناط في المفهوم هو سنخ الحكم لا نفس شخص الحكم في القضية الشرطية و قد كان الشرط في الشرطية انما وقع شرطا بالنسبة الى الحكم الحاصل بانشائه)) أي بانشاء المنشأ له و الحكم المنشأ بانشاء المنشأ له هو شخص الحكم دون سنخ الحكم ( (فغاية قضيتها)) أي فغاية ما تفيده القضية الشرطية لتعليقها على الشرط هو ( (انتفاء ذاك الحكم بانتفاء شرطه)) و هو شخص الحكم ( (لا انتفاء سنخه)) لانه لم ينشأ و لم يعلق على الشرط، فما هو معلق على الشرط ليس من المفهوم لان انتفاء شخص الحكم من انتفاء الشي ء بانتفاء موضوعه و ما هو المفهوم ليس بمنشإ و لا معلق على الشرط حتى يكون دالا على المفهوم او غير دال، و قد اشار الى عدم اختصاص هذا الاشكال بمفهوم الشرط

ص: 323

و لكنك غفلت عن أن المعلق على الشرط، إنما هو نفس الوجوب الذي هو مفاد الصيغة و معناها، و أما الشخص و الخصوصية الناشئة من قبل استعمالها فيه، لا تكاد تكون من خصوصيات معناها المستعملة فيه، كما لا يخفى، كما لا يكون الخصوصية الحاصلة من قبل الاخبار به، من خصوصيات ما أخبر به و استعمل فيه إخبارا لا إنشاء.

و بالجملة: كما لا يكون المخبر به المعلق على الشرط خاصا بالخصوصيات الناشئة من قبل الاخبار به، كذلك المنشأ بالصيغة المعلق عليه، و قد عرفت بما حققناه في معنى الحرف و شبهه، أن ما استعمل فيه الحرف عام كالموضوع له، و أن خصوصية لحاظه بنحو الآلية و الحالية لغيره من خصوصية الاستعمال، كما أن خصوصية لحاظ المعنى بنحو الاستقلال في الاسم كذلك، فيكون اللحاظ الآلي كالاستقلالي، من خصوصيات الاستعمال لا المستعمل فيه (1).

______________________________

بل يعم ساير المفاهيم بقوله: ( (و هكذا الحال في ساير القضايا التي تكون مفيدة للمفهوم)).

(1) المتحصل من مجموع كلام المصنف: ان السبب في هذا التوهم هو ان الحكم الشخصي في القضية الشرطية و غيرها من القضايا التي وقع الكلام في دلالتها على المفهوم انما كان حصل تشخصه بالانشاء لكونه قد انشأ بالهيئة و هو من المعنى الحرفي الذي لا بد و ان يكون شخصيا جزئيا، و قد عرفت بما لا مزيد عليه ان المعاني الحرفية موضوعة بالوضع العام و الموضوع له عام، و انه لا فرق بين الوجوب المستفاد من الاسم و الوجوب المستفاد من الهيئة، و كما ان المعلق على الشرط في الجملة الاسمية الخبرية هو طبيعي الوجوب و كليّه كذلك الوجوب المنشأ بالهيئة هو طبيعي الوجوب و كليّه، و ان المستفاد من قولنا عند مجي ء زيد واجب اكرامه و قولنا ان جاءك زيد فاكرمه هو معنى واحد و في كليهما المعلق على المجي ء هو طبيعي الوجوب و كليه لان

ص: 324

.....

______________________________

الخصوصية الناشئة من الانشاء كالخصوصية الحاصلة من الاخبار كلاهما خارجان عما هو المستعمل في القضيتين، و الالية كالاستقلالية كلاهما من خصوصيات الاستعمال دون المستعمل فيه، و قد عرفت فيما مضى مفصلا انه لا يعقل دخول الخصوصيات الناشئة من الاستعمال في المستعمل فيه فلا موجب لاعادتها.

فاتضح: ان الوجوب المنشأ في القضية الشرطية هو طبيعي الوجوب دون الوجوب بما هو منشأ و مدلول عليه بالهيئة ليكون جزئيا فاذا كان طبيعي الوجوب هو المنشأ فلا فرق بين القضية الخبرية و الانشائية في ذلك، و شخص الحكم الذي هو غير سنخ الحكم في القضيتين واحد، فان كونه شخصيا انما يكون بملاحظة تقيده الحاصل بسبب تعليقه.

و بعبارة اخرى: ان شخص الحكم في قولنا ان جاءك زيد فاكرمه هو الوجوب باعتبار تعليقه على المجي ء و لا يعقل ان يكون المنشأ هو الوجوب المعلق بما هو معلق لانه بانشائه معلقا يحصل التعليق فكيف يكون ما يحصل بالانشاء يكون داخلا فيما ينشأ بهذا الانشاء لأنه حيث أنشأ معلقا على المجي ء فيكون متشخصا بذلك و هذا التشخص اللاحق للحكم المنشأ بالهيئة يلحق الوجوب المدلول عليه بالجملة الاسمية فانه بعد كونه معلقا على المجي ء ايضا يكون مشخصا به، فشخص الحكم في القضيتين على حد سواء و ليس هو المنشأ بالقضية الانشائية الشرطية و لا هو الوجوب المستفاد من الجملة الاسمية و الوجوب في كليهما هو طبيعي الوجوب و كليه، و لذا قال (قدس سره): ( (لكنك غفلت عن ان المعلق على الشرط انما هو نفس الوجوب الذي هو مفاد الصيغة و معناها)) و هو طبيعي الوجوب و قد اشار الى ان الشخص و الخصوصية الحاصلة لهذا الحكم المنشأ بالصيغة انما هي من قبل الاستعمال و لا يعقل ان تكون داخله في المستعمل فيه الذي هو الحكم المنشأ بالصيغة بقوله: ( (و اما الشخص و الخصوصية ... الى آخر الجملة)).

قوله (قدس سره): ( (و الحالية لغيره ...)) هذا تفسير للآية.

ص: 325

و بذلك قد انقدح فساد ما يظهر من التقريرات في مقام التفصي عن هذا الاشكال، من التفرقة بين الوجوب الاخباري و الانشائي، بأنه كلي في الاول، و خاص في الثاني، حيث دفع الاشكال بأنه لا يتوجه في الاول، لكون الوجوب كليا، و على الثاني بأن ارتفاع مطلق الوجوب فيه من فوائد العلية المستفادة من الجملة الشرطية، حيث كان ارتفاع شخص الوجوب ليس مستندا إلى ارتفاع العلة المأخوذة فيها، فإنه يرتفع و لو لم يوجد في حيال أداة الشرط كما في اللقب و الوصف (1).

______________________________

و المتحصل من جواب الماتن عن الاشكال هو ان المنشأ هو سنخ الوجوب لا شخص الوجوب، فالوجوب بما هو وجوب هو المنشأ، و القول بالمفهوم انما لدعوى كون مدخول الشرط هو العلة المنحصرة للوجوب بما هو وجوب، و المنكر للمفهوم يقول انه لا يستفاد من القضية الّا كون مدخول الشرط هو العلة للوجوب بما هو وجوب من دون دلالة لها على كونه علة منحصرة للوجوب بما هو وجوب، فالمنشأ على كل حال هو سنخ الوجوب و هو الوجوب بما هو وجوب دون الوجوب المتشخص بانشائه و تعليقه، و المفهوم و عدمه مربوط باستفادة الانحصار و عدمه.

(1)

كلام التقريرات و الاشكال عليه

حيث انه مما اجاب به المصنف عن الاشكال يظهر فساد الجواب الذي ذكره صاحب التقريرات- نبّه على ذلك بقوله: و بذلك قد انقدح فساد ما في التقريرات.

و توضيح ما افاده صاحب التقريرات: ان الوجوب المستفاد من الجملة الاسمية هو كلي الوجوب بخلاف الوجوب المدلول عليه بالهيئة في الجملة الانشائية الواقعة تاليا في الجملة الشرطية فانه جزئي، لان الهيئة من الحروف و مفاد الحروف جزئي دائما لأنها موضوعة بالوضع العام و الموضوع له الخاص، و اذا كان المستفاد منها امرا خاصا فيرد الاشكال: بان الحكم الوجوبي المستفاد منها امر خاص شخصي، و انتفاء شخص الحكم بانتفاء موضوعه ليس من المفهوم و سنخ الوجوب الكلي غير منشأ بها فلا دلالة للقضية الشرطية عليه، اذ لا تدل القضية اللفظية الا على ما انشئ

ص: 326

.....

______________________________

و المفهوم كما عرفت هو انتفاء سنخ الحكم لا شخصه، فما هو المفهوم لا ربط له بالقضية اللفظية، و ما هو مدلول القضية اللفظية الذي هو شخص الحكم انتفاؤه بانتفاء موضوعه مما لا كلام فيه، لضرورة انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

فاجاب صاحب التقريرات بعد تسليمه الفرق، بين الجملة الاسمية و هو الوجوب الاخباري و بين ما يستفاد من الحرف و هو الوجوب الانشائي المستفاد من التالي في الشرطية، بان الوجوب المنشأ بالصيغة و ان كان جزئيا إلّا ان جزئيته لا لان الجزئية فيه مقصودة بالذات و انما جزئيته ضرورية له لأنها معنى حرفي، فالعلية المستفاد من الشرطية هي علة لهذا الجزئي، لكن لا بما هو جزئي بل بما هو فرد من افراد الكلي فتكون حينئذ علة للكلي أيضا، و القول بالمفهوم من فوائد العلية المنحصرة، فان دلت القضية على العلية المنحصرة لكلي الوجوب دلت القضية على المفهوم، و ان لم تدل على العلية المنحصرة لا تكون لها دلالة على المفهوم.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (في مقام التفصّي عن هذا الاشكال من التفرقة بين الوجوب الاخباري و الانشائي بانه كلي في الأول)) أي في الاخباري ( (و خاص في الثاني)) و هو الانشائي ( (حيث دفع الاشكال بأنه لا يتوجه في الأول لكون الوجوب كليا و على الثاني)) أي و لا يتجه على الثاني أي على الوجوب الانشائي، فان الوجوب فيه و ان كان جزئيا إلّا ان مدعى المفهوم يقول ( (بان ارتفاع مطلق الوجوب فيه)) أي في مقام يكون هناك للمفهوم مجال انما هو ( (من فوائد العلية)) أي العلية المنحصرة ( (المستفادة من الجملة الشرطية)) بعد التمهيد لذلك بما ذكرنا من كون العلية المنحصرة ليست لهذا الوجوب الجزئي بما هو جزئي بل لأنه فرد من افراد الكلي، و لا يعقل ان يكون المفهوم هو ارتفاع شخص الوجوب ( (حيث كان ارتفاع شخص الوجوب ليس مستندا الى ارتفاع العلة المأخوذة فيها فانه يرتفع و لو لم يوجد في حيال أداة الشرط كما في اللقب و الوصف)) لان انتفاء الحكم الشخصي في كل قضية بانتفاء موضوعه ضروري لا يحتاج الى دعوى المفهوم، و قد ظهر فساد هذا

ص: 327

و أورد على ما تفصي به عن الاشكال بما ربما يرجع إلى ما ذكرناه، بما حاصله: إن التفصي لا يبتني على كلية الوجوب، لما أفاده، و كون الموضوع له في الانشاء عاما لم يقم عليه دليل، لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه، حيث أن الخصوصيات بأنفسها مستفادة من الالفاظ (1).

______________________________

الجواب مما ذكرنا: من كون الحكم المنشأ بالقضية الشرطية كليا كالحكم المستفاد من الجملة الاسمية.

(1) حاصله: ان صاحب التقريرات بعد ما اجاب بما ذكره ذكر جوابا عن الاشكال يرجع مفاده الى ما ذكره المصنف جوابا عن الاشكال: بان المنشأ بالصيغة هو الوجوب الكلي دون الوجوب الجزئي و هو مراده من قوله: ( (و اورد على ما تفصي به عن الاشكال بما يرجع الى ما ذكرناه بما حاصله)) فقوله بما يرجع يتعلق بتفصي و قوله بما حاصله يتعلق باورد.

و توضيح ذلك: ان التقريرات أجاب عن الاشكال المذكور بما مر ذكره: من ان الوجوب المعلق اذا كان مستفادا من قضية خبرية فهو كلي فان كانت العلة منحصرة افادت المفهوم و انه ينتفي بانتفائها سنخ الحكم و ان كان الوجوب المعلق مستفادا من قضية انشائية فهو جزئي لانه مستفاد من الهيئة، و الهيئة من الحروف و مفاد الحرف معنى جزئي لا كلي، و ينحصر الجواب حينئذ بان انتفاء السنخ مستفاد من العلية و ان العلة ليست علة لهذا الجزئي بما هو جزئي بل بما هو فرد للكلي، و حينئذ تكون العلة علة للكلي، فان افادت الانحصار كان هناك مفهوم و ان لم تفد الانحصار لم يكن هناك مفهوم.

ثم ان هناك من اجاب عن الاشكال بمثل ما اجاب عن الاشكال بمثل ما اجاب المصنف عنه: بأن المنشأ بالصيغة هو المعنى الكلي لان مفاد الحرف ليس جزئيا كما هو المعروف، بل هو كلي لان الوضع فيه عام و الموضوع له ايضا عام- كما مرّ منه غير مرّة- و لكن صاحب التقريرات اورد على هذا المجيب الموافق لرأي المصنف بايرادين:

ص: 328

و ذلك لما عرفت من أن الخصوصيات في الانشاءات و الاخبارات، إنما تكون ناشئة من الاستعمالات بلا تفاوت أصلا بينهما، و لعمري- لا يكاد ينقضي تعجبي- كيف تجعل خصوصيات الانشاء من خصوصيات المستعمل فيه؟ مع أنها كخصوصيات الاخبار، تكون ناشئة من الاستعمال، و لا يكاد يمكن أن يدخل في المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال، كما هو واضح لمن تأمل (1).

______________________________

الأول: ان المفهوم لا يدور مدار كون الوجوب المستفاد من القضية كليا او جزئيا، لما ذكر في جوابه من انه في القضية الانشائية المستفاد هو الوجوب الجزئي، و مع ذلك هناك مجال لدعوى المفهوم، لان المفهوم يرتبط بكون العلة منحصرة او غير منحصرة، و لا يرتبط بكون الوجوب المنشأ كليا او جزئيا.

و الى هذا اشار بقوله: ( (ان التفصّي لا يبتني على كلية الوجوب لما افاده)) من كونه مربوطا بالعلية المنحصرة و عدمها.

الثاني: ان كون المعاني الحرفية موضوعة بالوضع العام و الموضوع له العام مما لم يقم عليه دليل، بل الدليل قائم على كونها موضوعة بالوضع العام و الموضوع له الخاص، و من جملة المعاني الهيئة في الجملة الانشائية المنشأ بها الوجوب.

و البرهان على كونها موضوعة بالوضع العام و الموضوع له الخاص: هو انها وضعت لتدل على الافراد الخاصة، فالفردية الخاصة هي المستفادة من الالفاظ الموضوعة لذلك كالحروف و الهيئات في الجمل الانشائية، و قد اشار الى ذلك بقوله:

( (و كون الموضوع في الانشاء عاما ... الى آخر الجملة)).

(1) هذا هو الجواب عما اورده صاحب التقريرات على هذا الجواب الموافق لرأي المصنف، و حاصله الاشكال على جواب التقريرات الثاني، لان كلام التقريرات الأول من ان المفهوم من فوائد العلية المنحصرة مما يوافق رأي المصنف.

ص: 329

الامر الثاني: إنه إذا تعدد الشرط، مثل إذا خفي الاذان فقصر، و إذا خفي الجدران فقصر، فبناء على ظهور الجملة الشرطية في المفهوم، لا بد من التصرف (1) و رفع اليد عن الظهور. إما بتخصيص مفهوم كل منهما

______________________________

و على كل فقد عرفت من انه لا يعقل ان يكون المنشأ بالهيئة في جميع المعاني الحرفية أمرا جزئيا لان جزئيته انما تنشأ من الاستعمال، و الخصوصيات التي تنشأ من الاستعمال لا يعقل ان تكون داخلة في المستعمل فيه و المستعمل فيه في الاخبار و الانشاء على حد سواء فكما ان خصوصية كونه اخبارا و معنى اسميا استقلاليا غير داخلة في المستعمل فيه كذلك خصوصية كونه انشائيا و معنى حرفيا آليا غير داخلة في المستعمل فيه و الى هذا اشار بقوله: ( (و ذلك لما عرفت من أن الخصوصيات في الانشاءات و الاخبارات انما تكون ناشئة من الاستعمالات ... الى آخر كلامه)).

(1)

تعدد الشرط و وحدة الجزاء

لا يخفى انه ربما يتعدد الشرط و يتحد الجزاء كقوله عليه السّلام: (اذا خفي الاذان فقصر و اذا خفيت الجدران فقصر) فالشرط قد تعدد و هو خفاء الاذان و خفاء الجدران و الجزاء واحد و هو قصر الصلاة فان لم نقل بالمفهوم فلا تنافي بين هاتين الشرطيتين لعدم دلالة القضية على المفهوم و اما بناء على القول بالمفهوم فيكون المفهوم في احدى القضيتين منافيا للمنطوق في القضية الثانية فان قوله: اذا خفي الاذان فقصر المفهوم فيه انه اذا لم يخف الاذان فلا تقصر و ان خفيت الجدران و قضية اذا خفيت الجدران فقصر مفهومها اذا لم تخف الجدران فلا تقصر و ان خفي الاذان فلا بد من رفع التنافي بين هاتين الشرطيتين بناء على المفهوم و اما اذا قلنا انه لا مفهوم للشرطية فلا تنافي بين القضيتين اذ لا تدل الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء حتى ينافي مفهوم كل واحد من القضيتين منطوق القضية الاخرى فان قضية اذا خفي الاذان فقصر لا دلالة لها على انه اذا لم يخف الاذان فلا تقصر و ان خفيت الجدران فلا يقع التنافي بينهما لكن الكلام بناء على المفهوم فلا بد من رفع التنافي بينهما و قد اشار الى هذا بقوله: ( (مثل اذا اخفى الاذان فقصر و اذا خفى الجدران فقصر فبناء

ص: 330

بمنطوق الآخر، فيقال بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطين (1). و إما برفع اليد عن المفهوم فيهما، فلا دلالة لهما على عدم مدخلية شي ء آخر

______________________________

على ظهور الجملة الشرطية في المفهوم لا بد من التصرف)) لوقوع التنافي كما عرفت بين مفهوم كل منهما و منطوق الآخر بخلاف ما اذا لم نقل بالمفهوم فانه لا يقع التنافي بين القضيتين.

(1) بعد ما عرفت من وقوع التنافي بين القضيتين و انه لا بد من رفع التنافي بينهما، و هو لا يكون إلّا بالتصرف في احد ظهورات القضية، فان لها ظهورات متعددة كما سيأتي بيانها.

و قد ذكر المصنف وجوها أربعة اولا لرفع هذا التنافي و في آخر كلامه أشار الى وجه خامس.

و لا بد توضيحا للوجوه المذكورة من الاشارة الى ان للقضية الشرطية ظهورات اربعة:

الاول: ظهور الدال على الشرط في الانحصار.

الثاني: ظهور الشرط النحوي و هو مدخول (أن) في كونه علة مستقلة لا جزء علة.

الثالث: ظهوره ايضا في كونه متى تحقق يتحقق الجزاء و انه علة للجزاء في كل الاحوال.

الرابع: ظهوره ايضا في كونه بعنوانه علة، لا ان العلة هو الجامع و ان خفاء الاذان- مثلا- بما هو خفاء الاذان علة، لا أن العلة للتقصير هو الجامع بينه و بين خفاء الجدران و هما كفرد له.

الأول: من الوجوه تخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر فان قضيته اذا خفي الأذان فقصر الذي مفهومها ان لم يخف الأذان فلا تقصر مطلقا حتى اذا خفيت الجدران لمنطوق اذا خفيت الجدران فقصر، فيخصص هذا المفهوم بخفاء الجدران، فيكون الحاصل من هذا التخصيص انه اذا لم يخف الأذان فلا تقصر إلّا اذا خفيت

ص: 331

في الجزاء، بخلاف الوجه الاول، فإن فيهما الدلالة على ذلك (1). و إما بتقييد إطلاق الشرط في كل منهما بالآخر، فيكون الشرط هو خفاء

______________________________

الجدران، و كذا الحال في مفهوم إذا خفيت الجدران فقصر الذي هو ان لم تخف الجدران فلا تقصر مطلقا، و ان خفى الأذان يخصص هذا المفهوم أيضا بخفاء الأذان، فيكون الحاصل منه هو انه اذا لم تخف الجدران فلا تقصر مطلقا إلّا اذا خفى الأذان.

و على هذا الوجه لا بد من رفع اليد عن ظهور كلمة (ان) في ان مدخولها علة منحصرة حقيقية، و انه بعد هذا التخصص يكون خفاء الاذان علة و خفاء الجدران علة أيضا، و حيث انه يقول بالمفهوم فلا بد و ان يكون الانحصار فيه اضافيا لا حقيقيا، و لا بد فيه من رفع اليد عن الظهور الثالث أيضا و هو كون الشرط علة في جميع الاحوال، لوضوح انه اذا تحقق احدهما وجب التقصير، و متى تحقق الثاني بعد تحقق الاول لا يكون مؤثرا.

و أيضا لازم هذا الوجه انه اذا انتفى الشرطان معا يتحقق الانتفاء، فوجوب القصر ينتفي اذا انتفى خفاء الجدران و خفاء الأذان، و الى هذا اشار بقوله: ( (فيقال بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطين)) لانه بعد كونه تخصيصا لمفهوم كل منهما بمنطوق الآخر فالالتزام بالمفهوم فيه موجود، و مع تحقق المفهوم في كل منهما و الجمع بينهما بما عرفت يكون المتحصل ان كل واحد منهما شرط يتحقق القصر به و ينتفي القصر عند انتفائهما معا، لانه اذا تحقق احدهما يتحقق القصر و لازم ذلك انتفاء ان يكون للقصر شرط آخر غير هذين الشرطين، فان لازم المفهوم المتخصص ذلك، فان المفهوم- مثلا- هو انه لا يجب القصر اذا لم يخف الأذان إلّا اذا خفيت الجدران، و مرجع هذا الى انه بوجود احدهما يتحقق القصر و بانتفائهما ينتفي القصر و لو كان هناك ثالث لما تحقق الانتفاء عند انتفائهما معا.

(1) هذا هو الوجه الثاني من وجوه الجمع، و حاصله: انه يرفع اليد عن العلية المنحصرة رأسا و أنه لا دلالة للقضية الا على كون الشرط يتحقق بتحققه الجزاء و هو

ص: 332

الاذان و الجدران معا، فإذا خفيا وجب القصر، و لا يجب عند انتفاء خفائهما و لو خفي أحدهما (1).

______________________________

القصر، و اما انتفاء القصر عند انتفاء الشرط فيرفع اليد عنه و لازم هذا الجمع رفع اليد عن الظهورين المذكورين أيضا و هو الانحصار تماما لان لازم الانحصار تحقق المفهوم، فلا بد مع رفع اليد عن المفهوم من رفع اليد عن الانحصار من رأس، و أيضا حيث كان كل واحد من الشرطين علة لتحقق القصر فلا بد من رفع اليد عن الظهور الثالث، و هو كون مدخول (ان) علة للقصر في جميع الاحوال، فانه مع سبق احد الشرطين لا يكون الشرط اللاحق مؤثرا و يبقى الظهور الثاني و هو كون المدخول علة مستقلة لا جزء علة محفوظا، و الظهور الرابع و هو كون المدخول بعنوانه مؤثرا و محفوظا أيضا، و في الجمع الأول ايضا كذلك فان الظهور الثاني و الظهور الرابع محفوظان فيه كما هو واضح.

نعم الفرق بين الجمع الاول و الجمع الثاني: هو ان الاول يدل على انتفاء الثالث و ان القصر يدور مدار الشرطين و ينتفي بانتفائهما و لازم الانتفاء بانتفائهما نفي الثالث و انه لا شرط للقصر غيرهما.

بخلاف الجمع الثاني فانه بعد رفع اليد عن المفهوم الذي هو الانتفاء عند الانتفاء لا تكون له دلالة على نفي العلة الثالثة، و الى هذا اشار بقوله: ( (فلا دلالة لهما)) أي فلا دلالة للشرطين اللذين لا مفهوم لهما على نفي الثالث فلا يدلان على عدم مدخلية شي ء آخر في الجزاء بخلاف الوجه الأول فان الشرطين حيث يدلان على المفهوم ( (فان فيهما الدلالة على ذلك)) أي على نفي الثالث.

(1) هذا هو الوجه الثالث من وجوه الجمع، و حاصله: تقييد منطوق احدهما بمنطوق الآخر بمعنى ان يكون الشرط للقصر خفاء الجدران و خفاء الأذان معا، فيكون كل واحد منهما جزء العلة المنحصرة للقصر، فالظهور في الانحصار فيه محفوظ، و كذلك ظهور كون مدخول الشرط علّة في جميع الأحوال، فان العلة في

ص: 333

و إما بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما، بأن يكون تعدد الشرط قرينة على أن الشرط في كل منهما ليس بعنوانه الخاص، بل بما هو مصداق لما يعمهما من العنوان (1).

______________________________

جميع الأحوال على هذا الجمع هو مجموع الشرطين، و كذلك ظهور كون العلة هي بعنوانها علة أيضا محفوظ، و لا بد فيه من رفع اليد عن الظهور الثاني فقط، و هو كون مدخول (ان) علة مستقلة، فان هذا الجمع مبني على كون كل واحد من الشرطين جزء علة لا علة تامة مستقلة، و الى هذا اشار بقوله: ( (فيكون الشرط هو خفاء الأذان و الجدران معا)) فان لازم كون العلة المنحصرة هما معا ان القصر يتحقق باختفائهما معا لا باختفاء احدهما، و ان الانتفاء عند الانتفاء الذي هو لازم العلة المنحصرة هو عدم وجوب القصر بانتفاء اختفائهما معا، لانه اذا كانت العلة المنحصرة للقصر هو اختفاؤهما معا فاختفاء احدهما ليس اختفاء لهما معا، فلا يتحقق به وجوب القصر لان العلة المنحصرة اختفاؤهما معا و الانتفاء عند الانتفاء يتحقق بعدم اختفائهما، فانه اذا خفى احدهما و لم يختف الآخر لم يتحقق اختفاؤهما معا، و يصدق معه ان الاختفاء الذي هو العلة للقصر قد انتفى فلا يجب القصر، و الى هذا اشار بقوله: ( (فاذا خفيا وجب القصر و لا يجب عند انتفاء اختفائهما و لو خفي احدهما)) أي لا يجب القصر عند انتفاء العلة التي هي اختفاؤهما معا، فاذا اختفى احدهما فقط يتحقق الانتفاء عند الانتفاء لصدق انهما لم يختفيا معا.

(1) هذا هو الوجه الرابع، و حاصله: انه يرفع اليد عن الظهور الرابع فقط و هو كون مدخول (ان) بعنوانه علة، بل يكون علة بما انه فرد للعلة المنحصرة و هو الجامع بينهما، فالظهورات الثلاثة كلها محفوظة الانحصار و كون المدخول ليس جزء العلة و كونه علة في جميع الاحوال، فان هذه الظهورات محفوظة و لكنها للجامع بين هذين الشرطين لا لنفس هذين الشرطين، و لا يرفع اليد الا عن الظهور بأنه بعنوانه علة،

ص: 334

.....

______________________________

فانه لا يلائم كون الجامع هو العلة، فإنه حيث يكون الجامع هو العلة لا يكون الفرد بعنوانه علة، بل هو علة بما هو فرد لما هو العلة فتعدد الشرط قرينة على أن القدر المشترك بينهما و هو الجامع لهما هو الشرط المؤثر و هو الذي ينتفي الجزاء بانتفائه، و لازم هذا لازم الوجه الأول في انه بانتفائهما ينتفي الحكم، لان الكلي لا بد من انتفائه من رأس عند انتفاء افراده كلها، و بتحقق احدهما يتحقق شرط الجزاء فيجب القصر باحدهما و ينتفي بانتفائهما معا، إلّا ان العلة المنحصرة حقيقة هو الجامع في هذا الوجه و في الوجه الأول يرفع اليد عن الانحصار الحقيقي و يكون الانحصار فيه اضافيا، لأنه مع رفع اليد عن الانحصار تماما لا بد من انتفاء المفهوم، و صاحب الوجه الاول يقول بالمفهوم لانه يقيد مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر.

ص: 335

ص: 336

الفهرس

ص: 337

ص: 338

المقصد الثاني في النواهي

معنى النهي مادة و صيغة 1

عدم دلالة النهي على التكرار 7

اذا عصي النهي فهل تحرم سائر أفراد الطبيعة أم لا؟ 9

اجتماع الامر و النهي

بيان المراد بالواحد الذي تعلق به الامر و النهي 12

الفرق بين هذه المسألة و مسألة النهي في العبادة 15

كلام الفصول و المناقشة فيه 19

صدق ضابط المسألة الاصولية على مسألة الاجتماع 24

التفصيل بين الامتناع عرفا و الجواز عقلا 29

شمول النزاع لانواع الايجاب و التحريم 33

اعتبار المندوحة و عدمه 37

ابتناء النزاع على تعلق الاحكام بالطبائع لا الافراد و عدمه 42

صغروية المسألة لكبرى التزاحم لا التعارض 47

حكم الدليلين المتكفلين للحكمين 50

ما يتعلق بدليل الحكمين اثباتا 53

ثمرة بحث الاجتماع 59

الفرق بين الاجتماع و التعارض 68

مقدمات مختار المصنف

1. تضاد الاحكام الخمسة في رتبة فعليتها 70

2. تعلق الحكم الشرعي بالموجود الخارجي لا العنوان 73

3. عدم ايجاب تعدد الوجه لتعدد المعنون 78

ص: 339

4. المتحد وجودا متحد ماهية 80

تقرير دليل الامتناع 85

أدلة المجوزين 93

الجواب الاجمالي عما ظاهره الاجماع 95

انقسام العبادات المكروهة الى ثلاثة أقسام و توجيه الاجتماع فيها 97

تفسير الكراهة بأقلية الثواب 108

اقتضاء اجتماع الوجوب و الاستحباب للتأكد 117

تنبيهات مسألة الاجتماع

1. مناط الاضطرار الرافع للحرمة 128

حكم الاضطرار بسوء الاختيار مع الانحصار 130

كلام التقريرات و جواب المصنف عنه 139

معنى الفعل التوليدي 150

مختار المحقق القمي و ردّه 161

ثمرة المسألة 169

2. صغروية الدليلين لكبرى التعارض أو التزاحم 173

تقريرات الشيخ الاعظم و المناقشة فيه 176

ترجيح النهي على الامر بوجوه 177

أ. النهي أقوى دلالة من الامر 179

ب. أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة 186

ج. الاستقراء 200

3. الحاق تعدد الاضافات بتعدد العنوانات 209

ص: 340

النهي عن الشي ء هل يقتضي فساده أم لا؟

الفرق بين هذه المسألة و مبحث الاجتماع 214

هل تعد المسألة من مباحث الالفاظ؟ 215

شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي و التبعي 220

تعريفات العبادة و الايراد عليها 226

تحرير محل النزاع 231

تفسير وصفي الصحة و الفساد 233

تنبيه 240

جعل الصحة شرعا في المعاملات 245

تأسيس الاصل 247

أنحاء تعلق النهي بالعبادة 251

أقسام النهي في المعاملات 259

اقتضاء النهي عن العبادة للفساد 260

دلالة النهي على الفساد في المعاملة 269

دلالة النهي على صحة متعلقه 281

اقتضاء النهي لصحة متعلقه العبادي 284

المقصد الثالث في المفاهيم

تعريف المفهوم 288

مفهوم الشرط 292

الامور الدخيلة في تحقق المفهوم 293

اثبات انحصار العلة بوجوه 296

تقرير أدلة منكري المفهوم 310

ص: 341

العبرة في المفهوم بانتفاء سنخ الحكم لا شخصه 317

كلام التقريرات و الاشكال عليه 326

تعدد الشرط و وحدة الجزاء 330

محتويات الكتاب 339

ص: 342

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.